الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
37/06/16
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- المقدمات المفوّتة - الواجب المعلق والواجب المنجّز- تقسيمات الواجب - مقدمة الواجب.
ويرد عليه:-
أوّلاً:- إن هذا يتم لو أحرز الانسان أن يبقى حيّاً فترة عشر أو خمس سنوات مثلاً فيقال إنّه بحساب الاحتمال من البعيد أنه لا يبتلي بمعاملةٍ محرّمةٍ خلال هذه الفترة ، ولكن أنّى لك إحراز أنك تبقى حيّاً طيلة هذه الفترة ؟! إذ لعلك تبقى شهراً أو يوماً ، وفي فترة يومٍ واحدٍ أنا لا أعلم بارتكاب معاملة محرّمة.
فما ذكره(قده) مبنيٌّ على أن يحرز الإنسان أنه يبقى لفترة طويلة كفترة سنة أو خمس سنين أو أكثر فيقال إنه من البعيد بحساب الاحتمال أنه لا يبتلي بمعاملةٍ محرّمة خلال هذه الفترة ، ولكني لا يوجد عندي علمٌ بأني سوف أبقى كلّ هذه الفترة الطويلة إذ لعلّي أموت غداً ، نعم احتمل أني سوف أبقى ولكني أحتمل أيضاً أني سوف أموت غذاً أو بعد ساعة ، فعلى هذا الأساس كيف تقول بأنه يوجد علم إجمالي بأنه سوف يبتلي بمعاملةٍ محرمّة ؟!!
وقد تدافع عن السيد الخوئي(قده) وتقول:- إني أعلم بالوقوع في معاملةٍ محرّمةٍ - يعني لو بقيت فترةً طويلةً على قيد الحياة أو على تقدير أني بقيت على قيد الحياة فترة طويلة فسوف قع في الحرام - ، وهذا شيء صحيح ، فعلى تقدير أني باقٍ لمدّة عشرين سنة يصير عندي علم بأنّ واحدةً من المعاملات أو اثنين أو أكثر هي محرّمة ، فإذا كان على هذا التقدير فسوف يصحّ ما أفاده السيد الخوئي(قده) ويكون تاماً.
قلت:- هذا علمٌ إجماليٌّ على تقديرٍ ، ومادام مبنياً على تقدير أني بقيت عشرين سنة فلا يوجد عندي الآن علمٌ بالفعل بأني سوف أقع في معاملة محرّمة بحيث أقطع بأني سوف ابتلي بها ، بل لعلّي أموت غداً ، فهذا ليس علّماً اجمالياً فعلياً وإنما هو علم إجمالي على تقديرٍ وهذا ليست له قيمة علميّة وبحسب الصناعة.
إذن ما أفاده السيد الخوئي(قده) من وجود علم إجمالي مبني على أن الانسان يحرز أنه سوف يبقى فترةً طويلة على قيد الحياة.
ثانياً:- أن نقول:- نحن نسلّّم وجود علمٍ إجماليٍّ ، ونفترض أن المعاملة التي أعلم بالإجمال أنها محرّمة وسوف ابتلي بها هي معاملتان أو ثلاثة[1] ، فإذا قبلنا بهذا فحينئذٍ أقول أنا كم عشت من بلوغي إلى الآن - أي كم مضى من عمري - ؟ لعلّه مضت عشون سنة أو أكثر ، فإذا مضت كلّ هذه الفترة فحتماً قد تحققت ثلاث معاملات محرّمة في تلك الفترة ، فالمعلوم بالإجمال قد تحقّق إذن ، وفيما بعد يكون الشك بلحاظه بدوياً ، فلا يجب التعلّم بلحاظ ما يأتي حتى لو سلّمنا العلم الإجمالي.
والفرق بين هذا الجواب وبين الجواب الأول هو أنّه في الجواب الأوّل كنّا نقول إنّه لا يوجد علم إجمالي لأني لا أعلم بأني سوف أعمّر عشرين سنة بل لعلّي أموت غداً ، وأما في الجواب الثاني فقد سلّمنا بوجود علمٍ اجمالي والمعلوم بالإجمال قد افترضناه ثلاث معاملات ولكن عمري الآن ثلاثين أو أربعين سنة والمعاملات الثلاثة المحرّمة قد وقعت فيهن فعلى هذا الأساس ذاك العلم الإجمالي سوف ينحلّ بهذا العلم التفصيلي بوقوع ثلاث معاملات محرّمة وأما بلحاظ ما يأتي فلا يوجد علم إجمالي بل يوجد شكّ بدوي فلا يجب التعلّم بلحاظ ما يأتي.
إذن حتى لو سلّمنا بوجود العلم الاجمالي للسيد الخوئي(قده) نقول إنه منحلٌّ بالعثور على مقدار المعلوم بالإجمال تفصيلاً ضمن تلك المعاملات التي ابتليت بها وعرفت أنها محرّمة بعد ذلك ، وأما فيما يأتي فهي مقدار زائد ، فأنا لا أعلم بوجود معاملاتٍ محرّمةٍ سوف أبتلي بها وإنما هناك شكّ بدوي.
الجواب الثالث:- إنّ هذا الاستصحاب - أي استصحاب عدم الابتلاء بالمعاملات المحرّمة - مبنيٌّ على حجّية الأصل المثبت ، لأنّ هذا الاستصحاب غاية ما يثبته لي هو عدم الابتلاء بالمعاملات المحرّمة ، ومن الواضح إنّ الذي يجب التأمين عنه هو عدم المخالفة للحكم الشرعي ، فالمهم هو إحراز عدم المخالفة إذ العقوبة وعدم العقوبة يدوران مدار المخالفة وعدم المخالفة وليس مدار الابتلاء بالمعاملة المحرّمة وعدم الابتلاء بها ، نعم لازم الابتلاء بالمعاملة المحرّمة التي لا أعرف حكمها هو تحقّق المخالفة ولكن المخالفة تصير آنذاك لازماً عقلياً للمستصحب ، والاستصحاب لا يثبت اللوازم العقلية للمستصحب وإنما يثبت اللوازم الشرعية لا غير ، فهذا الاستصحاب مثبت.
ويردّه:- إنّ دعوى أنّ الاستصحاب المذكور مثبتٌ شيءٌ صحيح ومسلّم فإنّ استحقاق العقوبة وعدم العقوبة عقلاً يدوران مدار المخالفة لا مدار الابتلاء بالمعاملة المحرّمة ولازم الابتلاء بالمعاملة المحرّمة هو الخالفة لا أنهما واحد ، ولكن يمكن أن نغيّر صيغة الاستصحاب وبذلك لا يصير مثبتاً ، فهنا يمكن أن نغيّر صيغة الاستصحاب فبدل أن نقول نستصحب عدم الابتلاء نقول نستصحب عدم المخالفة ، فنذهب رأساً إلى المخالفة وعدم المخالفة فأقول أنا الآن لم أخالف وأشك في المستقبل هل أخالف أو لا فاستصحب عدم المخالفة ، وعليه فلا يلزم محذور الأصل المثبت ، وإنما يلزم ذلك فيما لو استصحبت عدم الابتلاء.
إن قلت:- إنّه على هذا الأساس يمكن نتغلب على محذور الأصل المثبت بتغيير العبارة ؟
قلت:- ليس الأمر كذلك دائماً ، وإنما هذا يتحقّق اتفاقاً وأحياناً ، فمثلاً لو فرض أني نذرت إنّه ( إن نبتت لحية ولدي فسوف أتصدق على الفقير بكذا ) وقد وغاب ولدي فترة طويلة ولا أعلم أنّ لحيته نبتت أو لا ، وأنا أريد أن أثبت نبات لحيته ففي مثل هذه الحالة استصحب حياته إلى الآن ثم أقول ( إذن نبتت لحيته ) ، وهذا أصل مثبت ، أمّا لو أردت أن تبدل العبارة حتى لا يصير الأصل مثبتاً فهنا لا يمكن ذلك لأنك لا يمكنك أن تستصحب نبات اللحية لأنه لا توجد له حالة سابقة لوجود اللحية عنده ، بل حالته السابقة أنه لم تكن عنده لحية ، فليس دائماً نتخلّص من الاصل المثبت بتغيير العبارة.
إذن هذه الأجوبة الثلاثة عن الاستصحاب ليست تامّة.