الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
37/06/04
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- المقدمات المفوّتة - الواجب المعلق والواجب المنجّز- تقسيمات الواجب - مقدمة الواجب.
وبهذا اتضح - من خلال عرض البراهين على استحالة الواجب المعلق ومناقشتها - أنّ الواجب المعلّق ليس بمستحيلٍ بلّ هو شيء واقع ، وقد ذكرنا جملةً من الأمثلة العرفيّة والشرعيّة لذلك.
المقدمات المفوتة:-
من أين نشأت فكرة الواجب المعلّق وخطرت في ذهن صاحب الفصول مثلاً ؟
والجواب:- إنّ المنشأ المهم لذلك هو المقدّمات المفوّتة ، والمقصود من المقدّمات المفوتة هي تلك المقدّمات الواجبة قبل دخول وقت الواجب ، فإن مثل هذه المقدمات كيف تصير واجبة قبل دخول وقت الواجب والحال أنا نعرف أنّ وجوب المقدّمة وجوب غيري ، يعني هو معلول للوجوب النفسي ومترشح منه فإذا لم يكن وجوب نفسي فمن أين جاء الوجوب الغيري ؟!
ومثال ذلك وجوب الغسل قبل الفجر في شهر رمضان ، فكيف يجب الغسل قبل الفجر والحال أنّ وجوب الصوم يبتدئ من حين طلوع الفجر ؟! إنّ مثل هذه المقدّمة التي وجبت قبل وقت الواجب يعبّر عنها بالمقدّمة المفوّتة ، وسمّيت بالمفوّتة باعتبار أنّه لو لم يؤت بها قبل وقت الواجب فسوف يفوت بذلك الواجب - يعني إذا دخل الفجر ولم اغتسل عمداً فقد فات الواجب -.
إنّ هذه المشكلة هي التي صارت سبباً للتفكير بفكرة الواجب المعلّق.
وقد يقول قائل:- إنه لا حاجة إلى التفكير في المشكلة ، وذلك لأنّ الروايات قد دلّت على وجوب الغسل قبل الفجر ، ومادام الشرع قد قال ذلك فنحن خاضعون له وليس لنا اعتراض عليه بشيءٍ ، فانحلّت المشكلة.
والجواب:- إنّ مشكلتنا ليست إثباتية وإنما هي ثبوتية ، يعني كيف أوجب الشارع ذلك ، فسؤالنا هو سؤالٌ مع الشرع وأنّه كيف أوجب الشرع الغسل قبل الفجر والحال أنّ الوجوب يبتدئ من حين الفجر ، فالمشكلة ثبوتية وليست إثباتية حتى تقول يوجد دليل على ذلك ، فإنّه حتى مع وجود الدليل فإشكالنا موجود أيضاً.
كما وألفت النظر إلى أنّ المقدمة المفوّتة إنّما تكون كذلك فيما إذا دلّ الدليل أو ما بحكمه على وجوبها قبل وقت الواجب ، أمّا إذا لم يدلّ على وجوبها قبل وقت الواجب فلا مثبت لوجوبها قبل زمان الواجب وبالتالي لا يأتي الاشكال.
إمّا أن يدل دليل أو ما بحكم الدليل كما في الحج فإنّه إذا قلنا بأنّ وجوبه يبتدئ من اليوم التاسع من ذي الحجة أو قلنا هو يبتدئ في ذي الحجة فالسفر متى يكون ؟ ولنفترض أنّ الرواية لم تدلّ على تحديد موعد السفر وأنّ هذه قضية متروكة للمكلف ولكن المكلف متى لابد وأن تسافر ؟ إنّه لابد وأن يكون قبل زمان الواجب ، وفي الزمان الماضي كان عليه السفر قبل شهرين أو ثلاثة أو أكثر ، فهنا يلزم الذهاب فيأتي الاشكال أيضاً وهو أنه كيف لزم الذهاب إلى مكة المكرمة قبل زوال اليوم التاسع والحال أنّ الوجوب يصير في اليوم التاسع ؟
إذن يوجد دليل يدلّ على أنه قبل دخول وقت الواجب تجب المقدّمة أو ما بحكم الدليل مثل وجوب الحج فإنه هنا نعرف من الخارج أنّ الوجوب كان يبتدئ من زوال عرفة ولكن يلزم أنّ يسافر المكلف قبل الزوال.
كما ألفت النظر إلى أنّ الحاجة إلى فكرة الواجب المعلّق لا نحتاج إليها في المقدمات المفوّتة فقط كالغسل قبل الفجر ، بل نحتاج إليها في غيرها كما لو استظهرنا - وهو ليس ببعيدٍ - من قوله تعالى ﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ﴾ أنّ الوجوب يثبت من حين الاستطاعة لأنّ الآية الكريمة لم تقل ( ولله على الناس حج البيت من استطاع في أشهر الحج ) بل متى ما استطاع المكلّف في أيّ شهرٍ كما لو استطاع في شهر محرّم فعليه أن يتحفّظ على الاستطاعة إلى الحج ، فالوجوب قد تقدّم والواجب قد تأخر - وهذا واجب معلّق - رغم أنه لا توجد مقدّمات مفوّتة - ولنفترض أنه لا توجد مقدّمات مفوّتة - ولكن مع ذلك نلتزم بفكرة الواجب المعلّق لأنّ الدليل هنا قد دلّ على ذلك وهو ظاهر قوله تعالى ﴿ من استطاع ﴾ وهو غير مقيّد بزمان معيّن خلافاً للشيخ النائيني(قده) لأنه قال إنَّ المدار على أشهر الحج ، فالوجوب يتقدّم والواجب يتأخّر وقلنا من ثمرات تقدّم الوجوب أنك يجب عليك التحفّظ على مال الاستطاعة إلا إذا لزم الحرج وهذا يختلف باختلاف الأشخاص كما ذكرنا.
إذن السبب الذي دعا إلى التفكير بفكرة الواجب المعلّق هو المقدّمات المفوّتة كما قلنا ، بل واقع الحال في مثل الحجّ حيث إنّ الآية الكريمة مطلقة وإطلاقها يفرض علينا أن نبني على فكرة الواجب المعلّق.
وعلى أيّ حال كيف نحلّ مشكلة المقّدمات المفوتة - يعني في وجوب الغسل في شهر رمضان قبل الفجر والحال أنّ زمان الواجب هو عند الفجر والحال أنا نعرف أنّ وجوب المقدّمة وجوب غيري ترشّحي معلول للوجوب النفسي - ؟
والجواب:- هناك عدّة أجوبة:-
الجوب الأوّل:- ما ذكره صاحب الفصول(قده) من الالتزام بفكرة الواجب المعلّق حيث قال إنّا نلتزم بأنّ الوجوب يبتدئ قبل زمان الواجب ، فنفكك بين زمان الوجوب وبين زمان الواجب ، وزمان الوجوب يكون متقدّماً على زمان الواجب ، وإذا كان الوجوب متقدّماً فلا مشكلة آنذاك ، وإنما المشكلة تأتي فيما لو قلنا أنّ الوجوب يبتدئ من حين زمان الواجب - أي من حين طلوع الفجر - أمّا إذا قلنا بأنّه يتقدم فلا مشكلة.
إن قلت:- إنَّ هذا كلام بلا دليل ، يعني انت قلت ( لنقل إنّ زمان الوجوب متقدّم على زمان الواجب ) ، فما هو دليلك على ذلك ، والإمكان كما نعرف لا يساوق الوقوع ، فعليك أن تأتي بدليلٍ يثبت أنّ زمان الوجوب متقدّم على زمان الواجب ، ولا توجد آية أو رواية تدلّ على ذلك ؟!
قلت:- إنّ المشكلة ليست إثباتية كما قلنا ، وإنّما هي ثبوتية ، ومادامت ثبوتية فمجرد الاحتمال والامكان يكفينا ، فمادامت المشكلة ثبوتية لا اثباتية يعني يستحيل تقدّم وجوب المقدّمة زمان وجوب المقدّمة على زمان وجوب ذي المقدّمة فكيف تقدّم وجوب الغسل على طلوع الفجر فإنّ هذا مستحل ، فالمشكلة مشكلة استحالة ثبوتية ، وصاحب الفصول(قده) قال إنّه من المحتمل وجود ذلك ، وهو يكفيه الاحتمال العقلائي في ردّ الاستحالة فإن هذا وجيه ، فقال ( يحتمل أن يكون زمان الوجوب متقدّماً على زمان الواجب ) فاندفعت الاستحالة ، ولا يحتاج إلى إثباتٍ لأنّ المشكلة كما قلنا هي ثبوتية - يعني هي الاستحالة - وهي قد ارتفعت بإبراز هذا الامكان والاحتمال.
وعلى منوال فكرة الواجب المعلّق فكرة الواجب المشروط بتفسير الشيخ الأعظم(قده):- لأنا قرأنا في الكفاية أن الشيخ الأنصاري(قده) كيف يفسّر الواجب المشروط ؟ فالمشهور قالوا يعني أنّ نفس الوجوب يكون مشروطاً ، والشيخ الأنصاري(قده) قال إنّ نفس الوجوب لا يمكن أن يكون مشروطاً وجميع الشروط ترجع إلى الواجب - هذا كلام الشيخ الأنصاري على ما هو الموجود في مطارح الانظار وقد نقله الآخوند في الكفاية - ، يعني على رأي الشيخ الأعظم(قده) أنّه تجب علينا صلاة الظهر من الآن - أي قبل الزوال - وقيد الزوال يكون قيداً للواجب دون الوجوب ، وكذلك صلاة الظهر ليوم غد أيضاً ، وكذلك الصلوات للأيام القادمة ، كذلك وجوب الصوم وغير ذلك فهذه كلّها واجبة من الآن لأنّ الوجوب عنده مطلقٌ دائماً والواجب هو الذي يكون مقيداً.
ولذلك أنكر الشيخ الأنصاري(قده) على صاحب الفصول(قده) وقال إنّه لا يوجد عندنا واجب معلٌّق ، وسبب إنكاره عليه هو أنّ روح الواجب المعلّق هي نفسها الواجب المشروط عند الشيخ الأنصاري وليس شيئاً يقابله ، يعني هما لفظان لمعنىً واحد ، ومادام يحتمل أنّ الواجب مطلق وليس مشروطاً فعلى هذا الأساس تنحلّ المشكلة.
والفارق بين الواجب المعلّق عند صاحب الفصول(قده) والواجب المشروط عند الشيخ الأعظم(قده) ما يلي:-
الفارق الأوّل:- إنّ صاحب الفصول(قده) يقول في صوم شهر رمضان مثلاً إنَّ الوجوب يبتدئ من حين رؤية الهلال ، فالوجوب مقيّد برؤية الهلال ، أمّا الشيخ الأنصاري(قده) فيقول إنَّ الوجوب ليس مقيداً برؤية الهلال بل هو موجودٌ قبل ذلك ، بل هو موجود من الآن ، فالوجب الشيخ الأنصاري(قده) يستحيل أن يقيّد لأنه يقول إنّ الوجوب هو مفاد الهيئة ومفاد الهيئة حرفيّ جزئيّ والجزئي لا يقبل التقييد ، أمّا صاحب الفصول(قده) فيقول هو مقيّدٌ برؤية الهلال.
الفارق الثاني:- إنّ صاحب الفصول(قده) يلتزم بفكرة الواجب المعلّق في موارد محدودة كالصوم ما كان من هذا القبيل الذي يلزم فيه محذور وجوب المقدّمة قبل زمان وجوب ذي المقدّمة ويقول إنّ الوجوب فعليّ والواجب مقيّد متأخر وليس في كلّ الأمور ، أما الشيخ الأعظم(قده) فكلّ الواجبات عنده وجوبها مطلقٌ والمقيّد هو الواجب.
الفارق الثالث:- إنّه على رأي الشيخ الأنصاري(قده) يكون الوجوب ثابتاً في حقّ حتى الطفل الذي عمره عشر سنين بل أقل من ذلك ولكن الواجب يكون مقيّداً بالبلوغ ، لأنّه يقول إنَّ الوجوب مطلق دائماً ولم يقيّد بالبلوغ لأنه إذا تقيّد بالبلوغ فإذن كيف صار جزئياً والجزئي لا يقبل التقييد ؟! فعلى رأيه يكون الوجوب ليس مقيداً أبداً.
إذن الحلّ الأوّل للمشكلة هو أن نلتزم بفكرة الواجب المعلّق.