الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

37/03/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مقدمة الواجب.

ثم إنّه ينبغي أن يكون الفرق واضحاً بين رأي صاحب الفصول وبين راي الشيخ الأعظم الذي اعتبر قصد التوصّل:- إنّ بينهما مورداً للاتفاق ومورداً للاختلاف:-

أمّا مورد الاتفاق:- فكلاهما أخذ القيد قيداً للواجب لا للوجوب ، يعني أنَّ المقدمة التي تكون مصداقاً للواجب ما هي ؟ إنّه على رأي الأعظم(قده) هي المقدمة اليت يراد بها التوصّل ، وأما على رأي صاحب الفصول(قده) فهي الموصلة ، فالاثنين أرجع القيد إلى الواجب دون الوجوب ، فهم لم يرجعاه إلى لوجوب الغيري - أي وجوب المقدّمة - بل أرجعاه لمتعلّق الوجوب الغيري - وهو الواجب - كما قلنا ، مثل الوضوء فإنّه قيدٌ للواجب وليس قيداً للوجوب وإلا لو كان قيداً للوجوب فعند ترك المكلّف للوضوء فسوف لا يكون في حقّه تكليف.

وأمّا مورد الاختلاف:- فهو أنّ الشيخ الأعظم(قده) يجعل المدار على القصد فيقول إنّ قصد التوصّل بالمقدّمة حينما أتيت بها هو تحقّق ذي المقدّمة ، فهذا هو مصداقُ الواجب سواء حصل التوصّل أم لم يحصل ، كما لو فرض أنّك سافرت للحج فنيتّك هي التوصّل إلى الحج ولكن عند وصولك إلى جدّة مثلاً منعت منه ، ففي مثل هذه الحالة هل هذا مصداقٌ للواجب على رأي الشيخ الأعظم ؟ نعم هو مصداق له لأنّك قصدت التوصّل فهو مصداقٌ للواجب الغيري ، ولكن على رأي صاحب الفصول(قده) ليست مصداقاً للواجب لأنّه لم يحصل ذو المقدّمة.

وإذا فرضنا العكس فالجواب يصير بالعكس ، يعني لو ركبت الطائرة إلى جدّة ولكن غرضي ليس الحج بل للتجارة أو النزهة وحينما وصلت عرض عليّ الحج فقبلت أن أحجّ فحججت فهل هذا السفر على رأي الشيخ الأعظم مصداقٌ للمقدّمة الواجبة ؟ كلّا لأنّه لم يقصد به التوصّل ، وأمّا على رأي صاحب الفصول يصير مصداقاً.

فالمدار عند صاحب الفصول(قده) على حصول الوصول إلى ذي المقدّمة ، فإذا حصل الوصول واقعاً إلى ذي المقدّمة وتحقّق ذو المقدّمة فهذه مصداقٌ للواجب وإلا فهي ليست مصداق.

وقد يقول قائل:- إنّه على هذا الأساس أنا لا أعلم أنّ هذه المقدّمة موصلة أو ليست موصلة واقعاً ، فأنا ماذا يدريني واقعاً أنّ الحج يترتّب أو لا يتّرب عليها ؟! وسوف يصير القيد - الذي هو الإيصال أو عدم الإيصال - قيداً اختياريّاً ، فأنّا لا أعلم بأنّهم يمنعوني أو لا يمنعوني من الحجّ . وهذا بخلافه على رأي الشيخ الأعظم(قده) إذ لا يأتي هذا الإشكال لأنّه يقول إنّ المدار على القصد والقصد موجودٌ عندي.

وجوابه:- إنّ هذا ليس بأشدّ من الموت ، فأنا حينما أذهب إلى الحجّ احتمل أنّي أموت قبل أن أحجّ أو قبل إكماله وعدم الموت شرطٌ في وجوب الحج - وكذلك باقي الواجبات كالصلاة وغيرها - فكيف تدفع الإشكال - وهو إشكالٌ صناعيٌّ علميٌّ سيّالٌ قد تعرضت إليه أكثر من مرّة - ؟ وجوابه:- إنّه عليك الإقدام إمّا لأجل الاستصحاب الاستقبالي بناءً على حجيته مطلقاً فنجري الاستصحاب الاستقبالي هنا فنقول الآن أنا صحيحٌ فأشكّ في المستقبل هل أنا باقٍ على الصحّة أو لا فأستصحب بالاسقبال الصحّة ، فنقول إنَّ صحيحة زرارة التي تقول ( لا تنقض اليقين بالشك ) تشمل جميع أنواع الاستصحاب بما في ذلك الاستقبالي ، وهذا الطريق الصناعي صعب.

فيلزم المجيء بطريقٍ وجداني نسلّم من خلاله بهذا فنقول:- إنَّ الاستصحاب الاستقبالي حتى إذا لم نقل بحجيته في بقيّة الموارد ولكن في هذا المورد وأمثاله نقول بحجيته ، فالإنسان متى ما شكّ في أنّه سوف يموت غداً أو لا فيبني على أنّه لا يموت وإلا فسوف لا يتزوج ولا يبني بيتاً .. وهكذا ، فالسيرة جارية على عدم الاعتناء لهذه الاحتمالات وإلا لاختل نظام الحياة ، وهي سيرة عقلائية - أو متشرعيّة - ثابتة حتى في زمن المعصوم عليه السلام ، فالاستصحاب الاستقبالي حتى لو شككنا في حجيته من ناحية إطلاق صحيحة زرارة لكن السيرة منعقدة عليه في هكذا موارد ، وهذه نكتة عامّة سيّالة.

فعلى رأي صاحب الفصول(قده) لابد وأن تركب الطائرة وإن شاء الله تعالى أنت باقٍ على قيد الحياة وباقٍ عاقلاً و...... بهذا الاستصحاب الاستقبالي الثابت بالسيرة وإن لم يثت بإطلاق صحيحة زرارة.

ثم أقول - وهو ما بينته سابقاً -:- إنّه لا يبعد أنّ الوجدان يساعد على ما ذكره صاحب الفصول(قده) - يعني أنّ المقدّمة الواجبة هي الموصلة - باعتبار أنّ الشخص إذا أراد شيئاً فهو يريد المقدّمة الموصلة من مقدّماته ، أما التي لم توصل إليه فلا يريدها ، فمن اشتاق إلى شيءٍ اشتاق إلى مقدّمته التي توصل إليه ، أمّا التي لا توصل إليه وإن قصد التوصّل بها إليه فلا يشتاق إليها ولا يريدها ، وتستطيع أن تقول إنَّ الوجدان مع صاحب الفصول(قده).

نعم يوجد إشكال بيّناه فيما سبق:- وهو أنّه تقدّم عندنا أنه على تفسير الإرادة بالشوق لا ملازمة بين الشوق إلى شيءٍ والشوق إلى مقدّماته.

وقد أجبنا بجوابين:-

الأوّل:- قلنا نحن نتكلّم على تقدير الملازمة ، فإذا كانت هناك ملازمة فهي موجودة بين الشوق إلى الشيء والشوق إلى مقدّماته الموصلة ، أمّا أنك تريد أن تنكر من الأساس فهذه قضية ثانية.

الثاني:- قلنا إنّ ما قلته من أنّ الإنسان قد يشتاق إلى شيءٍ ولا يشتاق إلى مقدّماته كما مثلنا بالحج حيث يشتاق إليه ولكن لا يشتاق إلى ركوب الطائرة فقلنا إنَّ هذا يتمّ في حقّنا لأنّنا تحت عواملٍ تؤثر علينا ، أمّا في حقّ المشرّع فلا يأتي هذا المعنى ، فليس من البعيد أنّه توجد ملازمة بين الإرادتين حتى بناءً على تفسيرها بالشوق ، فالملازمة موجودةٌ ولكن كما قلنا الشوق إلى الشيء والشوق إلى مقدّماته الموصلة.

يمكن أن نذكر دليلاً لصاحب الفصول(قده) بصيغة علميّة فإنّ ما ذكرناه سابقاً كان مجرّد وجدانٍ والآن نريد أن نذكر صياغة عليمةٍ لوجوب خصوص الموصلة وذلك بأن نقول:- ما هو الغرض من إيجاب المقدّمة ؟ هل هو التمكّن من ذي المقدّمة ، أو الوصول إلى ذي المقدّمة فإنّه يوجد احتمالان ؟ وحيث إنّ الأوّل باطلٌ فالصحيح هو الثاني ، وبذلك يثبت أنّ المقدّمة الواجبة هي التي يحصل بها التوصّل.

والوجه في بطلان الاحتمال الأوّل:- هو أنّه لو أردنا أن نقول إنّ التمكن هو الهدف من إيجاب المقدّمة فهل التمكّن هدفٌ نفسيٌّ من إيجاب المقدّمة أو هدفٌ غيري ؟

أمّا أنّه نفسيٌّ فهو باطلٌ لو جهين:-

الأوّل:- إنّ التمكن من ذي المقدّمة بما هو تمكّنٌ ليس فيه فائدة فكيف يصير هدفاً نفسياً ؟! ، إنما الذي هو الهدف النفسي هو الوصول إلى الحجّ وتحقّق الحج لا التمكن منه فإنّ التمكّن بما هو تمكنٌ لا فائدة فيه ، فالمحبوب النفسي هو أن أحقّق الحج لا أن أتمكن منه ، فإذن التمكن من ذي المقدّمة لا يمكن أن نقول بأنّه الهدف للوجوب الغيري المنصب على المقدّمة ، وإنما الذي ينفع وهو محطّ المصحلة والشوق والرغبة هو نفس الحجّ لا التمكن منه.

ثانياً:- إنّ التمكّن ثابتٌ قبل الإتيان بالمقدّمة فإنّ الإنسان مادام يمكنه فعل المقدّمة فهو متمكّنٌ على فعل ذي المقدّمة ، فإنّ القدرة على الشيء تتحقّق بالقدرة على مقدّمته ، والتمكن من الشيء يتحقّق بالتمكّن على مقدّمته ، فمادمت أتمكن من أن أعمل وأجمع المال لأشتري سيارةً يصدق عليَّ الآن - أي قبل أن أعمل - أنّي متمكّنٌ وإن لم تكن الأموال موجودةٌ عندي بالفعل ، فيصدق عليّ حقيقةً أنّي متمكّنٌ من شراء السيارة بسبب تمكّني من تحيصل الأموال لشرائها - والتي هي المقدّمة - ، فالتمكّن من الشيء يحصل بالتمكّن على مقدّمته ، وحينئذٍ لا معنى لأن يكون الغرض من إيجاب المقدّمة هو أن أتمكّن من ذي المقدّمة بنحوٍ يكون التمكّن هدفاً نفسيّاً فإنّ التمكّن ثابتٌ قبل تحقيق المقدّمة.

إذن هذان وجهان لإبطال كون التمكّن هو الهدف النفسي فيتعيّن أن يكون الهدف من إيجاب المقدّمة هو التمكّن الغيري ، فهو هدفٌ غيريٌّ ، فالهدف من إيجاب المقدّمة هو التمكّن من ذي المقدّمة بحيث يكون ذلك - أي التمكّن من ذي المقدمة -هدفاً غيرياً لا هدفاً نفسيّاً ، فإذا صار غيرياً فكلّ ما في الغير لابد وأن ينتهي ويرجع إلى ما بالذات - وهذه قضيّة وجدانيّة وإن صيغت بصياغة علميّة - ، فمادام التمكّن هدفاً غيرياً فلابد من وجود هدفٍ نفسيٍّ وهذا الهدف الغيري يُطلَب لأجل ذلك الهدف النفسي ، وما هو ذلك الهدف النفسي ؟ إنّه ليس إلا حصول ذي المقدّمة ، فصار حصول ذي المقدّمة هو الهدف النفسي ، فيلزم أن يكون الواجب هو خصوص المقدّمة الموصلة.