الموضوع:-مقدمة الواجب.
الاحتمال الثالث:- أن يكون
قصد التوصّل معتبراً في خصوص ما إذا كانت المقدّمة محرّمة.
فهو يريد أن يقول إذا كانت المقدّمة محرّمة فلا تزول حرمتها إلا إذا
قصد بالاتيان بها التوصّل إلى ذي المقدّمة، وأمّا إذا لم تقصد ذلك فهي باقية على
حرمتها.
من قبيل اجتياز الأرض المغصوبة لانقاذ الغريق، فإنّ الاجتياز مقدّمة
لانقاذ الغريق، وحيث إنّه اجتيازٌ في أرضٍ مغصوبةٍ فهو محرّمٌ، ومتى تزول حرمتها
؟ إنّها تزول إذا قصدت بالاجتياز انقاذ الغريق، وأما إذا لم تقصد ذلك فالحرمة
باقية رغم أنّ الاجتياز واجبٌ من باب المقدّمية ولكن وجوبه هذا لا يرفع الحرمة، فالغصبيّة
هي مقتضٍ للحرمة وهذا المقتضي لا يرتفع تأثيره وفعاليته إلّا إذا قصد التوصّل، وأمّا
إذا لم تقصد التوصّل يبقى فعّالاً ويؤثر في الحرمة ومجرد الوجوب للمقدّمة لا يرفع
اقتضاءه للتحريم، بل يبقى هذا المقتضي مقتضياً للتحريم إلّا إذا قُصِد التوصّل، هذا
إذا كانت المقدّمة محرّمة.
وأما إذا لم تكن المقدّمة محرّمة كاجتياز الأرض المباحة، فهنا لا
يشترط قصد التوصّل؛ إذ المفروض أنّه لا توجد حرمة يراد رفعها حتى نقول إنَّ رفعها
يتوقّف على قصد التوصّل، بل يوجد مقتضي الوجوب من دون مزاحمٍ، أمّا إذا كانت محرّمة
فمقتضي الوجوب مزاحم بمقتضي الحرمة فيبقى مقتضي الحرمة مؤثراً في الحرمة إلّا إذا
قُصِد التوصّل أمّا إذا لم يقصد التوصّل فتبقى الحرمة على حالها.
ونبقى نؤكد على أنّ هذا يصحّ إذا كانت المقدّمة محرّمة وأمّا إذا
كانت مباحة فلا يلزم في اتصافها بالوجوب قصد التوصّل، هكذا قد يفسّر مقصود الشيخ
الأعظم(قده).
وربما ينسب هذا إلى السيد محمد الفشاركي اليزدي(قده).
وفيه:- إنّ المزاحمة تقع بين
ماذا وماذا ؟
يظهر من خلال هذا البيان أنها تقع بين حرمة المقدّمة ووجوبها، ووجوب
المقدّمة لا طاقة له على رفع الحرمة إلّا إذا قُصِد التوصّل، والحال أنّ الأمر
ليس كذلك؛ إذ المزاحمة لا تقع بين حرمة الاجتياز وبين وجوبه وإنما تقع بين حرمة
الاجتياز ووجوب انقاذ الغريق، وواضح أنّنا نقدّم الأهم وهو انقاذ النفس المحترمة،
فهو يقدّم حيث إنّه أهم وتزول الحرمة سواء بنينا على أنّ مقدّمة الواجب واجبة أم
لا قُصِد التوصّل أو لا فإنّ هذا كلّه لا يؤثر إذ المزاحمة ليست بين حرمة المقدّمة
وبين وجوبه حتى تقول هناك مقتضيان بالنسبة إلى الاجتياز مقتضٍ لحرمته ومقتضٍ
لوجوبه ومقتضي الوجوب لا يؤثر في رفع مقتضي الحرمة إلّا إذا قُصِد التوصّل، وإنما
المزاحمة هي بين حرمة الاجتياز وبين وجوب الانقاذ وحيث إنّ ذاك أهم فترتفع حرمة
الاجتياز سواء قصد التوصّل أم لم يقصد وسواء بُني على وجوب المقدّمة أو لم يُبْنَ
على ذلك.
نعم إذا لم يكن الانقاذ أهمّ كما لو فرضنا أنّ النفس كانت نفس حيوانٍ
فإنّ هذا لا يجب إنقاذه فيبقى الاجتياز حراماً حتى إذا قصدت التوصّل، فإنّ قصد
التوصّل لا ينفع مادام ذلك ليس بمهم أو أهم، فحرمة الاجتياز تكون باقية.
وبهذا ننهي كلامنا عما أفاده الشيخ الأعظم(قده).
القول الثالث:- وأمّا
القول الثالث - الذي هو وجوب خصوص المقدّمة الموصلة - والذي بنى عليه صاحب الفصول(قده)
وقد وقع مورداً لقبول جمعٍ، وهو رأيٌ وجيهٌ ومطابقٌ للوجدان، ويمكن أن يستدلّ
عليه بالوجدان، فإنّ من أراد شيئاً أراد مقدّماته الموصلة إليه وأمّا غير الموصلة
فلا إرادة نحوها، والوجدان أقوى شاهد على ذلك، فحينما تقول لولدك ( اشتر لنا
اللحم أو الخبز ) فأنت تريد بالتبع أن يذهب إلى السوق، ولكن بإرادةٍ إلى أيّ سوق
؟ إنّه إلى السوق الموصل إلى الشراء، أمّا الذهاب إلى السوق لكن لا لأجل الشراء
فلا تريده، فالملازمة بين إرادة الشيء وإرادة مقدّماته لو سلّمناها فإنما نسلّمها
في خصوص ما إذا كانت المقدّمة موصلة، وأمّا إذا لم تكن موصلةً فلا إرادة نحوها،
والوجدان يشهد بذلك، فما أفاده صاحب الفصول(قده) شيءٌ متطابقٌ مع الوجدان.
إن قلت:- إنّه قد تقدّم منّك
في أبحاثٍ سابقة أنّ الملازمة بين إرادة الشيء وإرادة مقدّماته تكون تامّة فيما
إذا فسّرنا الإرادة بمعنى إعمال القدرة وأمّا إذا فسرناها بمعنى الشوق فلا ملازمة
واستشهدت على ذلك بأنّ من يريد الحجّ فهو يشتاق إليه لكن ربما لا يشتاق إلى مقدّمته
كركوب الطائرة بل ربما يبغض ذلك . فإذن على مستوى الشوق لا ملازمة بين إرادة الشيء
وبين إردة مقدّماته، والملازمة ثابتةٌ بين الإرادتين إذا فسّرنا الإرادة بإعمال
القدرة، يعني نقول هكذا ( أنا صمّمت على أن أذهب إلى الحجّ ) فحينئذٍ أُعِمل
قدرتي أيضاً بالنسبة إلى ركوب الطائرة رغم أنّي أبغض ذلك، فإعمال القدرة موجودٌ
ولكن الإرادة بمعنى الشوق ليست موجودة، فكيف تقول الآن إنّ ما أفاده صاحب الفصول(قده)
متطابقٌ مع الوجدان وأنّ من أراد شيئاً أراد مقدّماته الموصلة فقط ؟! يعني من أراد
شراء الخبز أراد الذهاب إلى السّوق الموصل أمّا غير الموصل فلا يريده فإنَّ هذا
يتنافى مع ما ذكرته سابقاً من أنّه لا توجد ملازمة بين الإرادتين إذا فسّرناها
بالشوق، إنَّ هذا نحوٌ من التنافي ؟!!
والجواب:-
أوّلاً:- نحن في هذا المورد
نريد أن نقول لو كانت هناك ملازمة بين الإرادتين - وقصدي من هذا المورد يعني حينما
نتحدّث مع صاحب الفصول ونريد أن نعرف أنّ رأيه صحيح أو لا - فإنما نقول بها بين
إرادة الشيء وبين إرادة مقدمته الموصلة، أمّا أننا نقول بالملازمة أو لا فهذه قضيّة
ثانية لسنا بصددها الآن، بل نحن بصدد أنّه لو بنينا على ثبوت الملازمة فهي ثابتة
بأيّ مقدار ؟ أمّا أنّا نقول بها أو لا فنحن الآن ساكتون عن ذلك، فلو أردنا أن
نقول بها فإنما نقول بها في حدود ما إذا كانت المقدّمة موصلة . فإذن لا منافاة بين
هذا المطلب وذاك.
ثانياً:- يمكن أن يجاب بأنّه
بالنسبة إلى إرادة الشخص المرتبطة بافعاله فهنا ربما يقال بأنّه لا توجد ملازمة
على مستوى الشوق، كمن أراد الحج فإنّ هذا إرادةٌ لفعلِ نفسهِ - فهذا فعلُ نفسي أنا
-، وحينئذٍ يمكن أن يقال لا يلازم إرادة ذلك - بمعنى الشوق إليه - الشوق إلى مقدّمته
- وهو ركوب الطائرة -.
أمّا إذا كان بالنسبة إلى الفعل المرتبط بغيري - كما إذا كنت أريد من
الغير الحج والذي يعبّر عنه بالمصلح العلمي بــالارادة التشريعية في مقابل ذاك فإنّ
فعل نفسي أنّا قد يعبّر عنه بالارادة التكوينية - فيمكن أن نقول بوجود ملازمة حتى
على مستوى الشوق، فأنا إذا اشتقت إلى فعل غيري فسوف أشتاق إلى مقدّماته، نعم
بالنسبة إلى فعلي قد لا توجد ملازمة أمّا بالنسبة إلى فعل الغير فالملازمة موجودة.
وإذا أشكلت وقلت:- ربما الاشتياق
إلى ذي المقدّمة موجودٌ حتى في فعل الغير دون الاشتياق إلى المقدّمة، كما لو فرض
أنّ الوالد أشتاق إلى أن يحجّ ولده، فهو مشتاقٌ إلى الحجّ الذي هو حجّ الغير لا
إلى حجّ نفسه ولكنه لا يشتاق إلى أن يركب الولد الطائرة لخوفه من عطلها في وسط
الطريق، فهذا مثالٌ واقعيٌّ فإنّه حتى على مستوى فعل الغير لا توجد ملازمة بين
الارادتين - والشوقين - بمعنى الشوق.
قلت:- هذا بالنسبة إلينا نحن، وأمّا
بالنسبة إلى المولى الحقيقي الذي لا يوجد بلحاظه سوى المصالح والمفاسد فهو ينظر
إلى عالم المصالح والمفاسد ولا ينظر إلى قضايا أخرى، بل الدخيل في حسابه هو
المصالح والمفاسد لا أكثر، فحينئذٍ الاشتياق إلى شيءٍ يلازم الاشتياق إلى مقدّماته، فما أفاده صاحب الفصول(قده) يكون وجيهاً.