الموضوع:-مقدمة الواجب.
وتعال إلى المثال الثالث:- فإنّ من جملة الأحكام العقلية وجوب السفر
إلى الحج لأنّه مقدّمة، فإذن مصّب الوجوب الغيري هو عنوان المقدّمة - هذا بمقتضي
القضية الأولى -.
ثم نأتي بالقضية الثانية فنقول:- إنَّ مصبّ الوجوب يلزم أن يكون
اختيارياً والاختيارية موقوفة على القصد، فإذن مصبّ الوجوب الغيري هو قصد المقدّمة.
ثم نقول بعد ذلك:- إنّ قصد المقدّمة عبارة أخرى عن قصد التوصّل إلى
ذي المقدّمة.
فثبت أنّ الوجوب متعلّق بقصد المقدّمة الموصلة إلى ذي المقدّمة.
وأتمكن أن أقول:- إنّ
القضية الثانية تنحلّ إلى أربع قضايا:-
الأولى:- إنّ مصبّ الوجوب
دائماً يلزم أن يكون أمراً اختيارياً.
الثانية:- اختيارية الشيء تكون
من خلال القصد.
الثالثة:- حيث إنّ الوجوب
الغيري كما ذكرنا في القضية الأولى بالمقدّمة فيلزم أن يكون الوجوب متعلّقاً بقصد
المقدّمة حتى يصير الموضوع اختيارياً.
الرابعة:- إنّ قصد المقدّمة
يعني بعبارةٍ أخرى قصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة.
فثبت بذلك أنّ الوجوب الغيري منصبٌّ على قصد المقدّمة الموصلة إلى ذي
المقدّمة.
هذا هو الوجه الثاني، ولا يخفى لطفه بقطع النظر عن كونه باطلاً أو
صحيحاً.
وقد أشار إلى هذا البيان الشيخ العراقي(قده)
[1]، كما وأشار إليه الشيخ الأصفهاني(قده)
[2].وفي مقام التعليق نقول:-أما المقدّمة الأولى فيرد عليها:- أنّه فيها إنّ الأحكام العقلية ترجع حيثياتها التعليلية إلى كونها
حيثيات تقييدية - أي أنّ علل الأحكام العقلية هي موضوعات لها - ونحن نسلّم ذلك،
وذكر لذلك أمثلة من جملتها هو أنّه في وجوب المقدّمة - الذي هو وجوب السفر وهو
وجوبٌ عقلي - تكون حيثية الوجوب - وهي ( لأنّه مقدّمة ) - حيثية تعليلية فيلزم أن
تكون هذه الحيثية التعليلية هي مصبّ الحكم، فبالتالي يجب عقلاً المقدّمة - وعنوان
المقدّمة -.
ونحن نقول:-إنَّ هذا صحيحٌ بيد أنّ كلامنا في الوجوب الشرعي للمقدّمة وليس في
الوجوب العقلي لها، يعني نحن من البداية قلنا أنَّ الوجوب العقلي بمعنى اللابدّية
خارجٌ عن الكلام فإنّه بلا إشكال هناك لابدّية عقلية، والنزاع بين الأصوليين في
وجوب المقدّمة ليس هو بلحاظ اللابدّية العقلية وإنما الكلام هو أنّه إضافةً إلى
اللابدّية العقلية هل يوجد وجوبٌ شرعي ولكن تبعي للمقدمة أو لا ؟ فالنزاع في
الوجوب الشرعي وليس في الوجوب العقلي.
وعلى هذا الأساس سوف يصير كلّ بحثنا هذا خارج عن حريم المقدّمة
الأولى، وبالتالي يكون هذا التوجيه خارج بأكملة فإنّه يستند إلى أنَّ الأحكام
العقلية ترجع عللها إلى كونها موضوعات لها ونحن نقول بأن هذا صحيح، ولكن نزاعنا الآن
ليس في الحكم العقلي بل هو في الحكم الشرعي، فمحلّ كلامنا لا يدخل في هذا التوجية
وهو خارجٌ عنه من الأساس.
وأمّا المقدّمة الثانية فيرد عليها:-أوّلاً:- إنّه ذكر فيها أنّ
الوجوب يتعلّق بالفعل الاختياري.
ونحن نقول:- صحيحٌ أنّه يتعلّق بالفعل الاختياري ولكن الجامع بين
الاختياري وغير الاختياري هو اختياري أيضاً، فإذا كان اختيارياً فيمكن أن يكون
متعلّق الوجوب الغيري هو المقدّمة من دون قصدٍ، فإنّه وإن كانت المقدّمة تصير
بالقصد اختياريةً ولكن إذا بنينا على أنّ الجامع بين الاختياري وغير الاختياري
اختياري فالمقدّمة التي ليس معها قصدٌ نتمكن أن نقول هي اختيارية.
وتوضيح ذلك أكثر:- إنّه
وقع كلام بين الشيخ النائيني(قده) وغيره، فالشيخ النائييني(قده) ذهب إلى أنّ متعلّق
التكليف دائماً هو الحصّة الاختيارية لأنه مجعولٌ بداعي التحريك والتحريك لا يمكن إلّا
نحو الحصّة الاختيارية، فلا يمكن أن تقول لإنسان ( طر إلى السماء ) فإنّه لا يقدر
على ذلك.
ونحن نقول له:- هذا شيءٌ صحيح، ولكن نقول لو قال له المولى ( طر إلى
السماء أو اجلس في غرفتك للمطالعة ) فهل هذا مممكنٌ أو ليس بممكن ؟ قال الشيخ
النائيني(قده):- إنّ هذا ليس ممكنا وإنما يختصّ التكليف بالجلوس في الغرفة ولا
يمكن أن يتعلّق بالجامع، ونحن نقول له إنّ الجامع بين الاختياري وغير الاختياري
إختياريٌّ؛ إذ الجامع يتحقّق بأحد أفراده، فإذا كان أحد أفراده اختيارياً كان
الجامع اختيارياً فيمكن تعلّق التكليف به، فيمكن للمولى أن يوجّه التكليف إلى
الجامع بين الطيران إلى السماء وبين الجلوس في الغرفة للمطالعة وهذا لا محذور فيه
لأنّ الجامع اختياريٌّ بعدما كان أحد أفراده اختيارياً.
وفي مقامنا نطبّق هذا، فالمولى يمكن أن يقول لعبده ( يجب عليك السفر
للحج ) ولكن ليس المقيّد بقصد السفر بل يوجّه الوجوب إلى جامع السفر الذي يجمع بين
السفر المقصود والسفر غير المقصود، فالسفر غير المقصود إذن متعلّقٌ للوجوب
الغيري لكنه متعلّقٌ له لا بنحو اختصاص الوجوب به بل بمعنى أنّه أحد فردي الجامع،
فيصير السفر غير المقصود مصداقاً للواجب ولا محذور.
وبكلمة أخرى:- هذا البيان
أراد أن يحصر مصداق الواجب بخصوص المقصود، ونحن نقول:- كلّا بل مصداق الواجب هو
السفر الأعمّ من كونه مقصوداً أو غير مقصودٍ، فغير المقصود هو مصداقٌ للواجب إذن،
فيبطل هذا الدليل من الأساس.