الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

37/03/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- حكم ارتفاع العذر بعد انتهاء الوقت - أي حكم القضاء - مبحث الإجـــزاء.

ثانياً:- يمكن أن يقال إنّ المورد ليس من موارد لزوم اختصاص الحكم بخصوص العالم ، بل هو عفوٌ وتسامحٌ في مقام الامتثال ، فالتكليف من البداية عامٌّ للجاهل القاصر والمقصر معاً حتى في باب الصلاة غير الأمور الخمسة غايته في مقام الامتثال يتساهل ويتسامح ، فهذا في الحقيقة تساهلٌ وتخصيصٌ - إن صحّ التعبير - في مقام الامتثال وليس في مقام الجعل والتشريع ، فالجعل والتشريع وسيعٌ يشمل الجميع لا خصوص العالم ولكن في خصوص الامتثال يتساهل مع الجاهل ، فلا يلزم من ذلك محذور اختصاص الأحكام بخصوص العالمين ، كما هو الحال في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز فلو فرض أنّ المكلّف فرغ من صلاته وشك بأنّه هل أتى بالتشهّد أو لم يأت به وهل أتى بالركوع أو لم يأت به وهكذا السجود أو الوضوء فما هو حكمه ؟ إنَّ حكمه البناء على الصحّة لقاعدة الفراغ فكلّ ما مضى فأمضه كما هو ، وهذا تسهيلٌ من قبل الشارع ، ويمكن أن يقال إنَّ هذا تسهيلٌ في مقام الامتثال لا أنّ الحكم الواقعي من البداية ليس عاماً وشاملاً لك ، كلّا بل هو شاملٌ لك ولكن يتساهل ويتسامح في مقام الامتثال ، وهذه قضيّة عقلائية ، فنحن قد نكلّف شخصاً بتكليفٍ ولكنّه لم يأتِ به بشكله الكامل فنحن نتسامح معه ونكتفي بما فعله ، فنحن نتساهل في مقام الامتثال وفراغ الذمّة وليس معناه أنّ أصل الحكم ليس ثابتاً له من الأوّل ، وهنا يمكن أن يقال إنَّ الشارع هو كذلك.

ثالثاً:- دعوى الاجماع ، بأن يدّعى وجود إجماعٍ بين الفقهاء على أنّ الجاهل المعذور فقط وفقط هو القاصر دون المقصّر.

ومن أين لك دعوى الاجماع ؟

نقول:- نستفيد ذلك ممّا ذكروه في عبائرهم من أنّ الجاهل معذورٌ في موردين ، الأوّل الجهر والاخفات ، والثاني القصر والتمام ، فإنّ تخصيص الغذرية بخصوص هذين الموردين يمكن أن يفهم منه أنّ هناك إجماع على عدم العذريّة في غير هذين الموردين والذي منه باب الصلاة في غير الأمور الخمسة ، فلا يكون الجاهل معذوراً للإجماع على ذلك.

وفيه:- إنّه لو تمّ الإجماع حقّاً فنحن ننصاع إليه ، ولكن استفادة تحقّقه من المورد المذكور شيءٌ صعب ، فإنّ هذه العبارة لم تجئ في كلمات كلّ الفقهاء وإنما جاءت في كلمات بعضهم ، وهل جاءت في كلمات الشيخ الكليني والصدوق والشيخ الطوسي ومن جاء من بعدهم ؟!! إنّه إذا جاءت على هذا المستوى العام فاستفادة الإجماع شيءٌ جيّدٌ ، ولكنها لم تجئ في كلمات الجميع.

على أنّ استفادة الحصر منها قد يتأمل فيه ، فلعلّهم ذكروا ذلك لا من باب الحصر بل من باب أنهما موردان معروفان مشهوران ، أمّا أنّ العذريّة تختصّ بخصوص هذين لا غير فلعلّهم ليسوا بصدد ذلك.

وعلى أيّ حال استفادة تحقق الإجماع شيءٌ صعب.

ومن خلال هذا كلّه يتّضح أنّ المناسب التمسّك باطلاق حديث لا تعاد للجاهل المقصّر أيضاً ، ويبقى الاحتياط فإنّه قضيّة ثانية ، ولكن بمقتضى الصناعة يمكن للفقيه أن يحكم بشمول الحديث للجاهل المقصّر.

ومن باب الكلام يجر الكلام:- نشير إلى موضعين هما ليسا من باب الإجزاء ولكن توجد مشابهة ولو بعيدة - كما سوف نوضّح -:-

المورد الأوّل:- قد يقال إنّه لو فرض أنّ شخصاً أجرى عقداً - كعقد النكاحج أو البيع - بالفارسية لأنّه على رأيه يجوز العقد بالفارسية أو بالمضارع فتزوج ذلك المجتهد الثاني أو المقلد للمجتهد الثاني امرأة أو طلق امرأة ورأيي أنّ هذا باطل إذ تشترط العربية وتشترط الماضوية فهل أتمكن أن أقول إنّ ذلك الزواج باطل فيجوز لي أن أتزوج بها.

وهكذا لو طلّقها بالفارسية وأنا رأيي هو أنّ الطلاق بالفارسية باطلٌ فهل يصحّ لي أن أقول إنَّ الطلاق بالفارسية باطل فلا يجوز لي أن أتزوّج بها حتى بعد انتهاء عدّتها ؟

هنا قد يقال إنّ الحكم الظاهري الثابت في حقّ ذلك المجتهد أو مقلّده يكون بمثابة الحكم الواقعي في حقّي ، فأنا أطبّق عليه آثار الواقع وإن كنت أراه باطلاً ، ولكني أطبّق عليه آثار العقد الصحيح الواقعي والطلاق الصحيح الواقعي فإنّه يلزم ذلك.

ولماذا ؟

وذلك لأجل أمرين:-

الأوّل:- ما جاء في الرواية الشريفة من أنّ لكل قوم نكاحاً ، وواضحٌ هذا ينفع في باب النكاح أمّا الطلاق فقد لا يعمّه ، إلا أن تقول إنَّ المقصود هنا هو النكاح وما يعمّه يعني الطلاق وهذه قضية ثانية ، وقد جاء الحديث في هذا المجال بما نصّه:- ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يقال للإماء يا بنت كذا وكذا[1] فإنّ لكلّ قومٍ نكاحاً )[2] .

الثاني:- السيرة ، فإنها جارية على ذلك ، فنحن لا نفحص ، فإذا فرض أنّه قيل عن امرأة بأنها متزوجة فسوف نمتنع منها ، وإذا قيل هي مطلقة فسوف نتقدّم للزواج منها بعد انتهاء العدّة فإن السيرة جارية على ذلك وهذا معناه أنّ الحكم الظاهري الثابت في حقّ بعضٍ تُرتّب عليه آثار الحكم الواقعي ويكون بمثابة الحكم الواقعي في حقّ الآخرين وتُرتَّب آثار الواقع في حقّ الآخرين . هكذا قد يقال لخصوصيةٍ في باب النكاح والطلاق.

وواضحٌ أنَّ هذا المورد ليس من باب الإجزاء لأنّ الإجزاء يكون بلحاظ المكلّف الواحد ، فالمكلّف الواحد قد امتثل الحكم بشكلٍ أوّلاً ثم انكشف الخلاف فنقول هل يجزئ أو لا ، أمّا هنا فلا فإنّ ما يجريه ذاك في نظره يكون بمثابة الواقع في نظري وهذا أجنبيٌّ عن باب الإجزاء.

مضافاً إلى أنّه في باب الإجزاء يشترط الجهل ، فذاك جاهلٌ ثم ينكشف له الواقع ، أمّا في مقامنا فلا يوجد جهلٌ إذ من البداية أنا أعلم بأن تقليده غير تقليدي واجتهاده غير اجتهادي ولا يوجد جهلٌ في البين ، ولذلك قلنا إنَّ هذا ليس من باب الإجزاء ولكن لا بأس بالاشارة إليه من باب الكلام يجرّ الكلام.

ويرد عليه:-

أمّا بالنسبة إلى الحديث الذي يقول:- فظاهره أنّ لكلّ أمة وجماعة وملّة نكاح ولا يشمل حالة الاختلاف بيني وبين الآخر ، فنحن من قومٌ واحدٌ ومن جماعةٍ واحدةٍ ولكن في رأيك أنَّ العقد بالعربية ليس بشرطٍ ورأيي هو أنّه شرط ، وهل يصدق على هذا ( أنّ لكلِّ قومٍ نكاح ) ؟!! إنّ هذا مشكلٌ ، فإذا لم نقل هو لا يشمل المورد جزماً فلا أقل هو مشكلٌ وليس بواضح.

إذن الحديث لا يشمل مثل هذا المورد.

وأمّا بالنسبة إلى السيرة:- فهي جارية في حالة الجهل ، فإذا كنت لا أعلم أنّ ما أُجرِيَ موافقٌ لنظري أو ليس بموافقٍ له لا نعهد متشرّعاً يذهب ويفحص ويسأل المرأة مثلاً بأنّه هل طُلّقتي وكيف طُلّقتي وكيف كانت صيغة الطلاق فإنّ هذا ليس موجوداً ، أمّا إذا علم بأنّ الطلاق قد أجري بالمضارع مثلاً أو بالفارسية وأنا لا أرى كفاية ذلك وصحّته فهنا هل توجد أيضاً سيرة منعقدة على عدم الفحص والاعتناء ؟!! إنّ دعوى هذه السيرة شيءٌ مشكل ، ولا أقل القدر المتيقن منها صورة الجهل ولا تعمّ صورتنا التي فرض فيها العلم بكيفيّة إجراء العقد مع اختلاف النظر.

إذن اتضح أنّه لا يمكن أن نستثني باب النكاح والطلاق ونقول إن لهما خصوصية وأن ما يجريه ذلك بنظره يكون نافذ واقعاً في حقي فإنه لا يمكن أن نقول هذا الشيء.

المورد الثاني:- باب الطهارة والنجاسة ، فإنّا نعاشر غيرنا من أصحاب المذاهب - لا أقل في الحج - وهم قد يرى بعضهم أنّ زوال عين النجاسة هي من جملة المطهرات بينما نحن لا نرى ذلك وإنما نرى زوال عين النجاسة من المطهرات في موردين الأوّل الحيوان والثاني البواطن أما هم فقد يعتقد بعضهم بكونه من جملة المطهرات ، وأيضاً قد يرون أنّ بعض الأمور مطهرة - كالديتول - ونحن لا نراها مطهراً ، وقد نعتقد بنجاسة بعض الأمور وهم يعتقدون بطهارتها ومع ذلك نخالطهم ولا نتوقّف من المخالطة ومن أراد أن يحتاط في باب الطهارة والنجاسة كان خارجاً عن الجادّة والطريقة المتعارفة للمتشرّعة فإنّ هذا احتياطٌ في جانبه كفردٍ أمّا كمتشرّعةٍ بشكلٍ عام فلا يوجد أحدٌ يحتمل أنّ الاحتياط لازمٌ ، وهذا يدلّ على أنّ ما يراه الآخرون من طهارة مثلاً يكون نافذاً في حقّنا واقعاً وإن كنّا لا نعتقد به لكن مادام أنّهم من أصحاب مذهبٍ فيكون نافذاً في حقّنا ، والشاهد على ذلك - كما قلنا - هو السيرة فإنّها منعقدة على المخالطة من دون حصول تحرّزٍ في هذا المجال ، هكذا قد يدّعى.


[1] كأن يقال لها يا بنت الزنا لأنهن ولدن من دون عقد.
[2] وسائل الشيعة، العاملي، ج21، ص200، ابواب نكاح العبيد والاماء، ب83، ح2، آل البيت.