الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

37/01/27

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- حكم ارتفاع العذر بعد انتهاء الوقت - أي حكم القضاء - مبحث الإجـــزاء.
وفيه:-
أوّلاً:- إنّ أصل فكرة أنّ المصلحة في أصل الجعل قابلة للتأمل، باعتبار أنّ لازم ثبوت المصلحة في أصل الجعل هو أنّ المكلف لا يلزمه امتثال الحكم الظاهري لأنّ الحكم الظاهري كانت مصلحته في أصل الجعل، يعني لماذا جعل الأمارة أو الأصل حجة ؟ إنّه حجّة لمصلحةٍ في أصل جعله، وحينئذٍ هذه المصلحة قد تحققت إذ الجعل يرتبط بالمولى ويصدر منه، فإذا تحقّق الجعل فقد تحققت المصلحة وحينئذٍ لماذا يلزم العبد الامتثال - أي السير وراء الأصل أو الأمارة - فإن هذا لا داعي له إذ المفروض أنّ المصلحة قد تحققت بالجعل وانتهى والجعل قد تحقق فلماذا يجب على المكلف الامتثال ؟!! وبالتالي هذا الحكم ليس بحكمٍ حقيقةً وإنما هو مجرّد تسمية، فنحن نسّميه حكماً وإلا فهو ليس بحكمٍ حقيقةً باعتبار أنّه لا يجب امتثاله، ونحن نستبعد أنّ يصدر من الشخص العاقل جعلٌ من هذا القبيل - يعني تكون المصلحة في أصل الجعل -، اللهم إلا إذا أراد الشخص أنّ يظهر عظمة شخصيته أمام الآخر لأنه يشعر بالنقص فيصدر مثل هكذا أوامر، وحينئذٍ لا يجب الامتثال فإنّه بعد تحقّق المصلحة فما الداعي لأنّ يمتثل المكلّف إذ المفروض أنّ المصلحة قد تحقّقت بأصل الجعل.
إن قلت:- ما رأيك في الأوامر الامتحانية أوليست المصلحة في أصل الجعل والحال أنها قضيّة عقلائية كيف تقول بأنّ المصلحة في أصل الجعل لا تصدر من عاقل وإنما تصدر من شخص ضعيف الشخصية أو غير ذلك ؟!
قلت:- إنّه في باب الأوامر الامتحانية المصلحة ليست في أصل الجعل بل الامتحان إنما يتحقّق فيما إذا تصدّى العبد إلى الامتثال بأنّ جاء وامتثل فيتبيّن أنّ هذا شخصٌ جدّي وفاز في الامتحان، من قبيل أن اقول لمجوعةٍ من الأشخاص ( اجلبوا لي الماء ) وأنا لست عطشاناً ولكن أريد أن أُلاحظ من الذي يمتثل ومن الذي لا يمتثل ومن الجيّد ومن هو غير الجيّد، إنما يتحقّق الامتحان فيما لو ذهبوا وجاء قسمٌ منهم بالماء وقسم تخلّف فهنا تحقق الامتحان وإلا فالامتحان لا يتحقق بمجرّد إصدار الأمر، فلا نسلّم بأنّ المصلحة في باب الأوامر الامتحانيّة قائمة بأصل الجعل بل بالامتحان الذي يحتاج إلى امتثالٍ حتى يتبيّن الفائز ويتميّز عن غيره.
إذن أصل الفكرة التي أفادها السيد الخوئي(قده) ليست عقلائية في حدّ نفسها.
ثانياً:- إنّه حتى لو سلّمنا أنها عقلائية ولكن يأتي ما أشرنا إليه سابقاً من أنّ المصير إلى السببيّة فرع العجز عن حلّ إشكالات ابن قبة على الطريقية، فإذا لم نتمكن من حلّها على الطريقية فلابد من المصير إلى السببيّة باحد الأشكال المتقدّمة، أمّا إذا تمكنّا نم حلّها - كما سوف يأتي في مبحث الأمارات والجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية - فحينئذٍ لا وجه للمصير إلى السببيّة، بل يتعيّن المصير إلى الطريقية، فإنّ مدرك حجية الأمارة عادةً هو السيرة العقلائية وأما بقيّة الأدلّة هي إرشادٌ وتأكيدٌ وإمضاءٌ لهذه السيرة العقلائية، والسيرة إنما تأخذ بالأمارات من باب أنها طريقٌ إلى الواقع وكاشفٌ عنه غايته هي ليست كاشفاً تاماً فقد تخطئ وقد تصيب ولكن من حيث الكاشفيّة نحن نأخذ بخبر الثقة - مثلاً - لا من باب أنّه سببٌ لحدوث مصلحة.
إذن اتضح من خلال كلّ ما ذكرنا أنّه لا وجه للمصير إلى السببيّة بأشكالها الأربعة، والمناسب البقاء على فكرة الطريقية وإشكالات ابن قبة سوف يأتي دفعها.
موردان للاستثناء:-
اتضح مما ذكرناه أنّ المناسب هو المصير إلى الطريقية دون السببيّة، وبناءً عليها لا وجه للإجزاء فإنّ إجزاء كلّ حكمٍ عن حكمٍ آخر يحتاج إلى دليلٍ، وحيث لا ليل على الإجزاء فلا إجزاء، هذا هو مقتضى القاعدة، ولكن قد يستثنى من ذلك موردان:-
المورد الأوّل:- ما أشار إليه الشيخ الخراساني(قده)[1]، ووافقه على ذلك تلميذه الاصفهاني(قده)[2]، وممن وافق على ذلك وإن كان ببيانٍ آخر السيد الخميني(قده)[3]، وحاصل ما ذكره:- هو التفرقة بين الحكم الظاهري في باب الأصول العمليّة فهو يقتضي الإجزاء فيما إذا كان الشرط أو في الجزء، وبين الأمارة إذا دلّت على جزءٍ أو شرطٍ فلا إجزاء.
فمثلاً الطهارة من الخبث شرطٌ في لباس المصلّي وبدنه، فمرّةً يستند المكلّف لاثبات الطهارة إلى أصل الطهارة وأخرى يستند إلى أمارة بأن أخبره الثقة بطهارة الثوب فصلّى أو طاف فيه ثم اتضح الاشتباه، فإنّ ثبت من خلال الأصل ثبت الإجزاء - يعني لو فرض أني استندت إلى أصل الطهارة ثم اتضح أنّ بدني أو ثوبي نجس - فنحكم حينئذٍ بالإجزاء وصحّة الصلاة حتى لو لم تكن لدينا رواية خاصة تدلّ على معذورية الجاهل في باب الطهارة والنجاسة بل القاعدة تقتضي الإجزاء، وهذا يطبق في الصلاة والحج وسائر الأمور التي من هذا القبيل.
أمّا إذا كان المستند هو الأمارة مثل خبر الثقة فلا إجزاء - وكلّ كلامه هذا على وفق القاعدة -.
والوجه في ذلك:- هو أنّه إذا فرض أنَّ المستند كان أصل الطهارة فدليل أصل الطهارة يجعل طهارةً ظاهريةً مقابل الطهارة الواقعيّة، فحينما يقول ( كلّ شيءٍ لك طاهر حتى تعلم أنه قذر ) فهذا معناه أنّه يجعل طهارة ظاهريةّ في مقابل الطهارة الواقعيّة، وإذا كان الأمر كذلك نضيف إضافة وهي أن نقول إنّ لازم هذا توسّع دائرة الشرطية، يعني أنَّ الدليل الذي قال ( صلّ - أو طُف - في الطاهر ) هذا بقطع النظر عن أصل الطهارة يكون المدار على الطهارة الواقعيّة فنحكم بالبطلان لو اتضح أنّ الثوب نجس ولكن بعدما جاء أصل الطهارة وجعل طهارة ظاهريّة يلزم توسّع شرط الصلاة والطواف فيصير الشرط هو الصلاة في الطاهر الأعم من كون الطهارة واقعيّة أو ظاهريّة، وهكذا بالنسبة للحج.
ولِـمَ تتوسّع ؟ قلنا:- وإلا يلزم من ذلك اللغوية، يعني إذا فرض أنّ دائرة الشرطيّة لا تتوسّع فما فائدة هذه الطهارة الظاهريّة إذن ؟!! إنّها تبقى بلا فائدة، فلازم تشريع الطهارة الظاهرية بعد ضمّ الفِرار من محذور اللغوية توسّع دائرة الشرطيّة، فأذا صار الشرط موسّعاً وأعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة فالصلاة تكون قد وقعت وتحقّقت في الثوب الطاهر، فتكون واجدةً للشرط واقعاً وحقيقةً، نعم بمجرد الاطلاع تزول الطهارة من الآن والشرط يزول من الآن لا من السابق، فمن الآن إذا أردت أن تصلّي لا يمكن أن تصلّي في هذا الثوب، عبّر هو(قده) بالحكومة لا كما عبّرت أنا حيث قال ( إنّ دليل أصل الطهارة حاكمٌ على دليل الشرطيّة )، يعني يوسّع توسعةً تعبّدية من دائرة الشرطيّة، فالشرط أوّلاً كان هو الطهارة الواقعيّة فقط والآن بدليل أصل الطهارة توسّعت دائرة الشرطيّة وعبّر عن ذلك بالحكومة فلذلك قال نحكم بالإجزاء، هذا إذا دلّ الأصل على الطهارة أو غيرها من الشرائط والأجزاء فحكم بالإجزاء للنكتة التي أشرنا إليها والتي عبّر عنها(قده) بالحكومة وعبّرت عنها بلزوم محذور اللغوية.
وأمّا إذا كان مدرك الطهارة ليس هو الأصل بل خبر الثقة فلا يثبت الإجزاء لأنّ الأمارة لا تجعل شيئاً في قبال الواقع وإنما هي طريق إلى الواقع وقد تصيبه وقد تخطئه فلا تحصل من خلال الأمارة توسعة في دائرة الشرطيّة إذ لم تحصل طهارة جديدة ظاهريّة حتى تتوسّع دائرة الشرطيّة.
وأشكل عليه الشيخ النائيني(قده) بعدة إشكالات[4]:-
الإشكال الأوّل:- إنّ ما ذكرته يخالف مبناك في باب الحكومة، فإنك تحصر الحكومة في الدائرة الضيّقة وهي ما كانت بلسان ( أي ) أو ( أقصد ) أو ( أريد ) فهذا تعبّر عنه بالحكومة بحيث يأتي دليل آخر يريد أن يفسّر ذلك الدليل بلسان أي أو أقصد من قبيل ( أكرم العالم ) ثم يأتي دليل ثانٍ فيقول ( وأقصد من العالم العامل ) إمّا مع الصراحة بالذكر اللفظي لكلمة ( أقصد ) وما شابهها أو مع التقدير من دون ذكرٍ لفظيّ لها، وفي مقامنا ليست الحكومة مفسّرة، يعني حكومة أصل الطهارة على دليل شرطيّة الطهارة في الصلاة ليس لسان مفسّرٍ فإنّ دليل شرطيّة الطهارة يقول ( صلِّ في الثوب الطاهر ) وجاء دليلٌ ثانٍ وهو دليل أصل الطهارة فقال ( كلّ شيءٍ لك طاهر مادمت لا تعلم  أنّه نجس ) وهنا لا توجد كلمة ( أقصد ) لا بنحو الذكر اللفظي ولا بنحو التقدير فإنّه حتى لو لم تقدّر ذلك فهذا حكمٌ مستقلٌّ وحده ولا يحتاج إلى أن نجعله مفسّراً لذاك، فكلمة ( أي ) ليست موجودة وهذا على مبناك ليس من الحكومة.
يبقى شيء:- وهو أننا نسأل الشيخ النائيني(قده) ونقول:- من أين عرفت أنّ الخراساني(قده) يحصر الحكومة بخصوص المفسّرة بلسان ( أي ) أو ( أقصد ) أو ( أريد ) فإنّا لم نجد تصريحاً له في الكفاية يقول فيه إنّ الحكومة تنحصر بخصوص المفسّرة بكلمة ( أي ) أو ( أقصد ) ؟
قال:- الدليل على ذلك هو أنّه في مسألة لا ضرر لم يقل إنّ حديث لا ضرر حاكم على الأدلة الأوليّة وإنما جمع جمعاً عرفياً آخر - سمّاه بالجمع العرفي -، وهكذا بالنسبة إلى الأمارة مع الأصل فقال إنّ دليل الأمارة يتقدّم على دليل الأصل من دون أن يجعل ذلك من باب الحكومة . ولماذا لم يجعله من باب الحكومة ؟ إنّه لابد وأنّ كلمة ( أي ) لا توجد لفظاً كما لا حاجة إلى ذلك تقديراً، فلمّا لم تكن هناك حاجة فلا توجد حكومة إذن.
ونحن في مقام التعليق نقول:- سلّمنا أنّه لا نصطلح عليه بالحكومة ولكن بالتالي هل حصلت توسعة لدائرة الشرطيّة - دائرة شرطية الطهارة في باب الصلاة مثلاً - أو لم تحصل ؟ فإن حصلت التوسعة واقعاً فيلزم الإجزاء سواء سمّينا ذلك حكومةً أو غير ذلك، وإن لم تتسّع فلا إجزاء حتى لو سمّيناها بالحكومة، فبيت القصيد ليس هو التسمية ومصطلح الحكومة بل هو توسّع دائرة الشرطيّة، ونحن أثبتنا أنّه لو لم تتوسّع دائرة الشرطيّة كان جعل أصل الطهارة لغواً فالتوسّع لابد منه، فحتى لو فرض أنّك لم تسّمه حكومة فهذا شيء ليس بالمهم، ولا يخفى لطف ذلك.


[1]  كفاية الاصول، الخراساني، ص86، آل البيت.
[2]  الاصول على النهج الحديث، الاصفهاني، ص125 – 129.
[3]  تهذيب الاصول، الخميني، ج1، ص148.
[4]  أجود التقريرات، الخوئي، ص158.
فوائد الاصول، النائيني، ج1، ص249.