الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
36/11/27
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- الأوامــر.
ونذكر موارد من هذا القبيل:-
المورد الأوّل:- ما ورد في مسألة أنّ الفاصل بين رجلي المصلّي أثناء الصلاة كم يكون ؟
إنّه يوجد رأي فقهي يقول بأنّه لا يجوز أكثر من شبر ، ويستند في ذلك إلى صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام:- ( إذا قمت في الصلاة فلا تلصق قدمك بالأخرى دع بينهما فصلاً إصبعاً أقلّ ذلك إلى شبر أكثره ، واسدل منكبيك ، وأرسل يديك ، ولا تشبّك أصابعك وليكونا على فخذيك قبالة ركبتيك .... )[1] ، وأحد الأمور الموجودة في هذه الرواية هو أنه يلزم أن لا يكون الفاصل بين الرجلين أكثر من شبر.
وهنا أجاب السيد الخوئي(قده) وقال ما نصّه:- ( أما أوّلاً:- فلأنّها مشتملة على عدّةٍ من الآداب والمستحبّات ووحدة السياق تشهد بإرادة الندب من الجميع إذ يبعد جداً إرادة الوجوب من هذه الخصوصيّة والاستحباب من جميع ما عداها )[2] [3] .
وعبارته واضحة في أنّه تمسّك بالسياق فيأتي الاشكال عليه.
ومنها:- مسألة الاستعاذة قبل البسملة في الصلاة فإنه يستحب للمصلّي بعد تكبيرة الاحرام أن يقول ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ، ولكن هل التعوّذ واجبٌ أو مستحب ؟
هناك رأي يقول بأنه واجب ، وربما يستدلّ له بصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( إذا افتتحت الصلاة فارفع كفّيك ثم ابسطهما بسطاً ثم كبّر ثلاث تكبيرات ثم قل الله أنت الملك الحق لا إله إلا أنت سبحانك إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي ذنبي إنّه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، ثم تكبر تكبيرتين ثم قل لبيك وسعديك والخير في يديك ولشر ليس إليك ..... ، ثم تكبر تكبيرتين ثم تقول وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ... ثم تعوّذ من الشيطان الرجيم ثم اقرا فاتحة الكتاب )[4] ، وهنا قد يستدلّ بأنه عليه السلام قال ( ثم تعوّذ من الشيطان الرجيم ثم اقرا فاتحة الكتاب ) فيثبت بذلك وجوب التعوّذ قبل قراءة البسملة في الركعة الأولى.
وهنا السيد الخوئي(قده) قال ما نصّه:- ( إنّ الأمر الواقع فيها غير ظاهر في الوجوب في حدّ نفسه لاقترانه بجملة من المستحبات كرفع الكف وبسطها والاتيان بتكبيرات الافتتاح والأدعية في خلالها وغير ذلك ممّا يشهد بمقتضى اتحاد السياق بإرادة الاستحباب من الأمر في الجميع بمثابةٍ يورث القطع بعدم إرادة الوجوب من هذا الأمر )[5] [6] [7] .
ومن قبيل:- ما ورد في اشتراط البكارة في حَجَر الاستجمار حيث قيل إنّه يشترط أن يكون الحجر بِكراً - أي لم يستعمل فيما سبق في التطهير به - استناداً إلى ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( جرت السنّة في الاستنجاء بثلاثة أحجار ابكار ويتبع بالماء )[8] .
وهنا علّق السيد الخوئي(قده) فقال:- ( اتباع الأحجار بالماء مستحبٌّ وهو قرينة على أنّ البكارة أيضاً مستحبّة )[9] [10] .
فإذن هو تمسّك أيضاً بوحدة السياق.
ومن قبيل:- مسألة مسّ كتابة المصحف ، فهل يلزم أن يكون الشخص متوضئاً أو يجوز أن لا يكون متوضئاً حينما يمس كتابة المصحف ؟
تمسّك البعض برواية إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه السلام قال:- ( المصحف لا تمسّه على غير طهر ولا جنباً ولا تمسّ خطّه ولا تعلّقه إنّ الله تعالى يقول " لا يمسّه إلّا المطهّرون " )[11] .
هنا أجاب السيد الخوئي(قده) وقال:- ( قد اشتملت على المنع من تعليق الكتاب ومسّ ظاهره من غير طهرٍ ، وحيث لا قائل بحرمة التعليق من غير وضوء فلا مانع من أن يجعل ذلك قرينة على إرادة الكراهة من النهي )[12] [13] .
إلى غير ذلك من الموارد.
المناقشة الرابعة:- إنّ لازم هذا المسلك بطلان فكرة النسخ والتخصيص والحكومة كحكومة لا ضرر ولا حرج وغيرهما على الأدلة الأوليّة.
والوجه في ذلك:-
أمّا أنّه يلزم بطلان نسخ الوجوب:- فلو فرض أنّ الله عزّ وجلّ أراد أن ينسخ الوجوب يلزم من ذلك عدم إمكان نسخ الوجوب ، لأنّ الله عزّ وجلّ ماذا ينسخ ؟ هل ينسخ أصل الطلب الذي صدر منه فأصل الطلب لا يريد ان ينسخه وإنما يريد أن ينسخ الوجوب فقط ، وهل هذا ممكنٌ له أو لا ؟ إنّه ممكنٌ له ، ولكن ماذا ينسخ ؟ فهل ينسخ الوجوب العقلي الذي هو حكم غيره أو أنّه يرفع حكم نفسه ؟ إنّه يرفع حكم نفسه أمّا أنّه يرفع حكم غيره فهذا لا معنى له.
فيلزم أن تكون فكرة نسخ الوجوب والتحريم ليست بممكنة لما أشرت إليه من أنّ الوجوب ليس حكماً شرعيّاً وإنما هو حكم عقلّي والناسخ إنما ينسخ ويرفع حكم نفسه لا حكم غيره ، وهذا ينبغي أن يكون من الواضحات.
وأمّا أنه يلزم أن يكون التخصيص ليس ممكناً:- لأنّ التخصيص هو إخراج بعض الأفراد من الحكم - أي من الوجوب - فلو قلت لك ( أكرم كل فقيرٍ ) وبعد ذلك أردت أن أخصّصه وقلت ( لا تكرم الفقير غير العادل ) فهذا تخصيصٌ وإخراجٌ من الحكم بالوجوب ، ومن الواضح أنّ الذي يخصّص لابد وأن يخصّص حكم نفسه ولا منعى لأن يخصّص حكم غيره ، فلو كان الوجوب حكماً عقلياً وليس حكماً شرعيّاً لا يمكن للشارع حينئذٍ تخصيص الوجوب لأنّ الوجوب ليس حكماً له ، وهذا أيضاً من الواضحات.
أمّا أنّه يلزم بطلان فكرة الحكومة أيضاً:- فلنفس النكتة لأنّ الحكومة في روحها تخصيصٌ غايته بلسان التصرّف في الموضوع وإلا حقيقةً المولى يريد أن يرفع الوجوب، فمثلاً في لا ضرر يريد أن يرفع الحكم بالوجوب في الموارد الضرريّة فإذا كان وجوب الوضوء ضرريّاً في بعض الموارد فهو يريد أن يرفعه ويقول إنّ الوجوب في حالات الضرر ليس بثابتٍ ، فإذا فرضنا أنّ الوجوب ليس حكماً له فلا معنى لأن يرفعه في حقّ المتضرّر فيلزم أن تكون حكومة لا ضرر ولا حرج وغيرهما غير ممكنة لأنّه يلزم التصرّف في الحكم العقلي وليس في الحكم الشرعي ، والتصرف في الحكم العقلي لا معنى له لأنّ كلّ من يريد أن يتصرّف فهو يتصرف حكم نفسه ولا معنى لأن يتصرّف في حكم غيره.
ومن خلال هذا اتضح أنّ مسلك حكم العقل لا يمكن المصير إليه.
وقد تقول:- نحن صرنا إلى مسلك حكم العقل لمشكلةٍ واجهتنا فلو حلّت المشكلة فسوف نرفع يدنا عن هذا المسلك ، والمشكلة هي أنّه كيف جمعت بعض النصوص بين واجبٍ ومستحبٍّ مثل ( اغتسل للجمعة والجنابة ) فكيف نتصوّر هذا من دون مسلك حكم العقل ؟! فعلى مسلك حكم العقل يمكن حلّ القضية إذ نقول إنَّ ( اغتسل ) يدلّ على الطلب لا أكثر والذي يحكم بالوجوب والاستحباب هو العقل ففي الجنابة لم يدلّ دليل على الترخيص من الخارج فحكم العقل بالوجوب وفي الجمعة دلّ الدليل فالعقل لا يحكم بالوجوب ، فالمسألة حلّت على مسلك حكم العقل ، ولكن كيف تحلّون أنتم هذه المشكلة ؟