الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

36/11/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- الأوامــر.

هذا وذكر السيد الشهيد(قده)[1] في مقام الإشكال على هذا المسلك ما محصّله:- إنّ منشأ استفادة الوجوب ليس حكم العقل عند عدم المرخّص المتصل أو المنفصل بدليل أنّ العقل لو اطلع على أنّ الملاك في هذا الورد ليس لزوميّاً فهل يحكم في هذا المورد بكون الطلب وجوبياً ويحكم على العبد بلزوم الامتثال ؟! كلّا ، والحال أنّه لا يوجد مرخّص متّصل ولا منفصل ، فبالرغم من عدم وجوده لا يحكم العقل باللزوم ويقول لا يلزمك الامتثال ، إنّ هذا يدلّ على أنّ حكم العقل بلزوم الامتثال ليس مترتّباً على عدم وجود المرخّص المتصل أو المنفصل بل هو متّرتب على كون الملاك بمرتبةٍ غير لزوميّة.

ولكن كيف نستكشف أنّ الملاك ليس لزوميّاً ؟

إنّه لا طريق إلى إثبات ذلك إّلا إذا أخذ ذلك في اللفظ ، فاللفظ ينبغي أن يكون دالاً على أنّ الملاك لزوميّ أو غير لزوميّ ، وهذا معناه أنّه سوف نرجع في الدلالة إلى الوضع وليس إلى حكم العقل ، فالمدار في إثبات الوجوب هو أنّ نستكشف من خلال اللفظ أنّ الملاك بمرتبةٍ لزوميّة فآنذاك يحكم العقل بلزوم الامتثال ، فموضوع الوجوب العقلي هو كون الملاك بمرتبةٍ لزوميّةٍ والذي يرشدنا إلى ذلك هو اللفظ عادةً ، وليس المدار في وجوب الامتثال عقلاً على عدم صدور المرخِّص.

وفيه:- إنّ بإمكان أصحاب هذا المسلك أن يدافعوا ويقولوا:- نحن ندّعي أنّ العقل حاكمٌ بوجوب الامتثال وبالتالي كون الوجوب هو حكم عقلي ذلك إذا لم يكن هناك كاشفٌ عن درجة الملاك ، فإذا لم يكن هناك كاشفٌ عن درجة الملاك ولا يعرف المكلّف درجته وأنّه بدرجة لزوميّة أو لا فهنا ندّعي أن العقل يحكم بلزوم الامتثال - وعادةً الأمر كذلك - ، فمادام لا يوجد كاشفٌ عن مرتبة الملاك فحينئذٍ العقل يقول مادام لا يوجد ترخيصٌ في الترك - متصل أو منفصل - فأنا العقل أحكم بلزوم الامتثال.

إذن محلّ كلامهم من البداية هو حالة عدم معرفة الملاك والجهل به والتردّد كما هي العادة ، والحالة والمتعارفة في حالة عدم الانكشاف هي أنّ العقل يحكم بلزوم الامتثال مادام لا يوجد مرخّص متصل أو منفصل بالترك.

ولعلّ بعض عبائر الشيخ النائيني(قده) تلمّح إلى ذلك فإنّه ذكر في أجود التقريرات[2] هذه العبارة مع تغييرٍ جزئيّ حيث قال:- ( ولا يصحّ الاعتذار عن الترك[3] بمجرد احتمال كون المصلحة غير لزوميّة إذا قامت قرينة متّصلة أو منفصلة على كونه غير لزومي ).

فإذن محلّ الكلام هو أنّه كانه يريد أن يسلّط الأضواء على حالة التردّد في مرتبة الملاك وهي الحالة العامّة المتعارفة فهنا يريدون أن يقولوا بأنّ العقل يحكم بذلك.

والأنسب أن يعلّق على هذا المسلك بما يلي:-

أوّلاً:- نحن نسال أصحاب هذا المسلك ونقول:- هل المدار على عدم ورود الترخيص المتصل فآنذاك يحكم العقل بالوجوب ؟ أو المدار على عدم المرخّص المتصل والمنفصل فمتى لم يكن هناك مرخّص متّصل ولا منفصل واقعاً فالعقل يحكم بلزوم الامتثال ؟ أو المدار على عدم العلم - وليس على عدم الوجود الواقعي - بورود المخصّص المتّصل والمنفصل ؟

والفارق بين الاحتمال الثاني والثالث هو أنّ الثاني كون المدار فيه على العدم الواقعي ، وأمّا الثالث فالمدار فيه على عدم العلم ، هذه ثلاثة احتمالات والظاهر أنه لا يوجد شق رابع.

والكلّ باطل كما ترى:-

أما الاحتمال الأوّل:- فلازمه أنّه لو لم يوجد مرخّص متّصل مع النصّ فالعقل يحكم بالوجوب ، وحينئذٍ لو مرخّص منفصل يلزم أن نرفضه لأنه منافٍ لحكم العقل بالوجوب؛ إذ العقل قد حكم بالوجوب عند عدم وجود القرينة المتّصلة ، ومادام قد استقرّ حكمه فحينئذٍ إذا جاء المرخّص المنفصل يكون مرفوضاً لأنه يتنافى مع حكم العقل بالوجوب ، وهل تلتزم بهذا ؟ كلّا لا يمكن الالتزام به.

فإذن هذا معناه أنّ المدار ليس على عدم المرخّص المتّصل.

وأمّا الاحتمال الثاني:- فلا يلزم المحذور السابق إذ المفروض أنّه بمجرّد عدم المرخّص المتّصل لا يحكم العقل بالوجوب بل ينتظر مجيء المرخّص المنفصل ، فمتى ما جاء المرخّص المنفصل حكم بعدم الوجوب ، ومتى لم يجئ فيحكم بالوجوب.

ولكن يلزم محذورٌ آخر وهو أنّه يلزم أن لا يستفيد المكلّف من النصوص الآمرة ، فزرارة ومحمد بن مسلم يلزم أن لا يستفيدوا من النصوص الصادرة من الإمام الصادق عليه السلام لأنّه يحتمل ورود المخصّص من الإمام الهادي أو العسكري عليهما السلام ، إنّ هذا احتماله موجودٌ ، فيلزم أن يبقى العقل معطلاً عن الحكم بالوجوب لاحتمال ورود المرخّص فيما بعد.

وهذا المحذور يُسجّل بلحاظ ذلك الزمان ، ولكنه لا يأتي في زماننا لأنّ كلّ الروايات مجموعةٌ لدينا ونحن نفحص تمام الفحص حتى نحكم . فإذن هذا الاحتمال باطل أيضاً.

وأما الاحتمال الثالث:- فبناءً عليه لا يرد المحذور الذي ذكرناه على الاحتمال الثاني إذ يتمكّن زرارة أو محمد بن مسلم - حينما يصدر الأمر من الإمام - أن يحكم بالوجوب لأنّه لا يعلم بأنه سوف يأتي نصّ مرخِّص فيما بعد فالعقل يحكم بالوجوب ، ولكن يلزم أنّه إذا حكم محمد بن مسلم بالوجوب - لأجل أنّه لا يعلم - أنّه متى ما فرض اتفاقاً أنّه جاء النصّ المرخّص أن يرفض ذلك المرخّص لأنّه منافٍ لحكم العقل لأنّ العقل قد حكم بالوجوب وبعد حكمه بالوجوب فحينئذٍ سوف يكون ذلك النصّ المرخّص مرفوضاً لأنّه منافٍ لحكم العقل ، وهذا لا يمكن الالتزام به ولا يصنعه محمد بن مسلم !!

إن قلت[4] :- لم لا نقول إنّه إذا لم يعُلم بالمرخّص المنفصل واحتمل بأنّه سيأتي فمادام لا يُعلم فالعقل يحكم بالوجوب ولكن إذا جاء المرخّص بعد ذلك فالعقل يرفع يده عن حكمه لا أنّه يبقى مصّراً عليه حتى يلزم رفض ذلك الترخيص المنفصل؟

وإن شئت قلت:- نتمكن أن نقول إنّ حكم العقل تعليقيٌّ ، فالعقل يحكم من الآن بالوجوب معلّقاً على عدم ورود الترخيص ، فمتى ما ورد الترخيص فحينئذٍ يرفع يده عن حكمه من البداية ، فإدا رفع يده من البداية فلا محذور آنذاك ، فلنلتزم بهذا ولا إشكال حينئذً على هذا المسلك بناءً على هذا ؟؟

قلت:- إنّ هذا معناه أنّ المدار في حكم العقل على عدم المرخّص المنفصل واقعاً ، فالمدار على العدم الواقعي وليس على عدم العلم ، فرجع ذلك إلى الاحتمال الثاني غايته العقل يحكم باللزوم حكماً ظاهرياً ، فمادام لا تعلم فأنا العقل أحكم الآن باللزوم ، ولكنّ هذا حكمٌ ظاهريٌّ للعقل وكلامنا ليس في الحكم الظاهري للعقل وإنما الكلام هو في الحكم الواقعي له ، فبحثنا هو في الوجوبات الواقعيّة وأنّ الوجوب الواقعي متى يثبت ، وليس في الوجوبات الظاهرية ، إنّه بناءً على هذا يلزم أنّه لا يوجد وجوبٌ واقعيٌّ فترة سنة أو سنتين أو ثلاث أو أكثر مادام لم يُعثَر على المرخّص ، يعني أنَّ اصحاب الإمام الصادق عليه السلام لا يمكن أن يحكموا بالوجوب الواقعي إلى حصول الغيبة لأنّه فيها سوف لا يمكن صدور الترخيص من الإمام عليه السلام ، وهذا مرجعه في أن المدار في الوجوب الواقعي على عدم الترخيص الواقعي وليس على عدم العلم فعدنا بذلك إلى الاحتمال الثاني ولا يكون هذا احتمالاً جديداً.

ثانياً:- إنّ لازم هذا المسلك رفض فكرة تخصيص العموم في بعض الموارد[5] ، وذلك من قبيل ما لو فرض أن لمتكلّم قال ( لا يجب إكرام النحاة ) ، وبعد ذلك قال ( زيدٌ النحوي أكرمه ) ، فهنا السيرة قد جرت على ماذا ؟ وأنت بواقعك العرفي واللغوي والمتشرّعي ماذا تصنع ازاء هذين النصّين ؟

والجواب:- نحن نخصّص فنقول إنَّ ( لا يجب إكرام النحاة ) عام والآخر يصير بمثابة المخصّص له - يعني إلّا زيد فيجب إكرامه - ، أوليس السيرة على هذا الشيء وكلّنا بانين على ذلك ؟!! ولكن من هذا المسلك يلزم رفض فكرة التخصيص ، يعني لابد وأن نغيّر طريقتنا ، وهذا بنفسه يكون محذوراً - يعني يلزم شيءٌ لا يمكن الالتزام به عادةً والسيرة جارية على عدم الالتزام به -.

وكيف يلزم عدم التخصيص ؟

لأنّه بناءً على هذا المسلك نقول إنَّ ( أكرم ) تدلّ على الطلب وكان يوجد مرخّصٌ في الترك - وهو عموم ( لا يجب إكرام النحاة ) - ، فهو عمومٌ صالح لشمول زيد ، فهو صالحٌ لأن يكون مرخّصاً في ترك إكرام زيد ، غاية الأمر هو مرخّصٌ بذلك بعمومه فعمومه صالحٌ للترخيص في ترك إكرام زيد ، فبالتالي يلزم أن لا يحكم العقل بلزوم إكرام زيد لأنّ هذا الطلب قد اقترن بمرخّصٍ متّصلٍ أو منفصلٍ ، وإذا لم يحكم بوجوب إكرامه فلا يصير حينئذٍ مخصّصاً لعموم ( لا يجب إكرام النحاة ) ، وإنما يصير مخصّصاً إذا كان دالّاً على الوجوب ، أما إذا فرض أنّ مضمونه بسبب حكم العقل سوف يصير هو عدم الوجوب فــ( أكرم زيد النحوي ) سوف يصير مفاده - بعد ضمّ حكم العقل هو عدم الوجوب ، وكذلك مفاد ( لا يجب إكرام النحاة ) أيضاً هو عدم الوجوب ، فالتخصيص لا يمكن لأن الاثنين قد اتفقا على عدم الوجوب ، ففكرة التخصيص يلزم بطلانها في مثل هذا المورد وما كان على شاكلته ، وهذا منبّهٌ وجدانيٌّ على بطلان هذا المسلك.

والفرق هذا البيان عن البيان السابق هو أنّ السابق أشبه بالردّ العلمي وليس ردّاً وجدانياً مورثاً للقناعة ، وأمّا هذا فهو وجدانيٌّ يورث القناعة.


[1] الحلقة الثالثة ( القسم الأول ).
[2] أجود التقريرات، الخوئي، ج1، ص95.
[3] أي ترك الامتثال.
[4] هذه المناقشة من ( إن قلت، قلت ) استدركها سماحة الشيخ الأستاذ في الدرس التالي / المقرر.
[5] وإنما خصّصت ببعض الموارد من باب القدر المتيقن أما أنّه يلزم في كلّ الموارد فلا أدري الآن.