الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

36/11/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضـوع:- مبحث الأوامــر.

ذكر الشيخ الخراساني(قده) في الكفاية في هذا المبحث جملة من الأمور والمهم منها ثلاثة ، ولكن مقداراً من هذه الثلاثة لا يحتاج إليه الأصولي أيضاً ولكنه زجّ في علم الأصول ، ونحن نشير إليه فقط دون أن ندخل في تفاصيله ، كان المناسب ذكر قواعد أخرى يحتاج إليها الأصولي غير هذه الأمور ، وسوف أشير إلى تلك المباحث التي يحتاج إليها الأصولي وتصلح أن تكون بديلاً ، أمّا الأمور الثلاثة فهي:-

الأمر الأوّل:- ذكر(قده) - وهكذا من جاء بعده - أنّ مادّة الأمر وصيغته تستعمل في معانٍ متعدّدة منها الطلب كقولك ( آمرك بكذا ) أي أطلب منك كذا ، ومنها بمعنى الشيء كقولك ( رأيت اليوم أمراً عجيبا )[1] أي شيئاً عجيباً ، ومنها الفعل كقوله تعالى ﴿ وما أمر فرعون برشيد ﴾[2] أي وما فعله برشيد ، ومنها الفعل العجيب من قبيل ﴿ ولما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها ﴾[3] أي لما جاء فعلنا العجيب ، ومنها الغرض كقولك ( جئتك لأمر السفر ) أي لغرض السفر ، إلى غير ذلك من المعاني المشار إليها.

وبعد أن ذكروا هذه المعاني وقع الكلام بينهم في أنها جميعاً معانٍ لمادّة الأمر وهكذا لصيغته أو أنّ البعض هو المعنى والباقي مصاديق لذلك المعنى ؟

المعروف بينهم أنّ الجميع ليس معانٍ للمادّة أو للهيئة وإنما البعض هو المعنى ، واختلفوا فيما هو ذلك البعض الذي يصلح أن يكون جامعاً لغيره ، وقد اختار الشيخ الخراساني(قده)[4] أنّ مادّة الأمر هي بنحو الاشتراك اللفظي لمعنيين هما مفهوم الشيء والطلب أما المعاني التي ذكرت من العفل أو الغرض أو غير ذلك فهي مصاديق لمفهوم الشيء - أي لذلك المعنى الواحد -.

وما ذكره(قده) وقع مورداً للمناقشة والقال والقيل.

بينما ذهب الشيخ النائيني(قده) إلى أنّ معنى المادّة واحدٌ وليس اثنين ، وذلك الواحد ليس هو مفهوم الشيء أو الطلب بل هو الواقعة التي لها أهمّية واهتمام فإنّ هذا هو الجامع بين هذه المعاني التي ذكرت لمادّة الأمر وهي في الحقيقة ليست معانٍ بل هي مصاديق لمعنىً واحد وهو الواقعة التي لها أهميّة ، فوقع منهم اشتباهٌ فعدّوا المصداق معنى.

والذي نريد أن نقوله:- هل يحتاج الأصولي إلى هذا المطلب ؟ أو بتعبير آخر:- هل هناك خفاءٌ في مادّة الأمر إذا استعملت في بعض النصوص حتى نحتاج إلى هذا البحث ؟ كلّا بل أي مورد استعملت فيه كلمة الأمر كان معناها واضحاً من خلال النصّ.

إذن هذا البحث لا فائدة منه ، وهل يخفى علينا في موردٍ من الموارد أنّ صيغة الأمر هنا أريد من الطلب أو أريد منها شيء آخر ؟!! إذن هذا البحث ليس بنافعٍ ، وكلّ من تأخر يأتي ويضيف إضافة وكأنه صار بحثاً مستقلّاً بنفسه والحال أنّه لا داعي إليه ولذلك نحن نهمله.

الأمر الثاني:- هل الإرادة والطلب متّحدان أو هما متغايران ؟ فحينما يصدر شخص أمراً ويقول ( جئني بالماء ) فهنا يوجد طلب ويوجد إرادة فهل الطلب نفس الإرادة والإرادة عين الطلب أو أنَّ هذا غير ذاك وهذه صفة وتلك صفة أخرى ؟

ذهب الاشاعرة إلى أنّهما متغايران.

بينما ذهب المعتزلة ووافقهم صاحب الكفاية(قده) إلى أنّهما متّحدان فالطلب الحقيقي عين الإرادة الحقيقية ومفهوم الطلب عين مفهوم الإرادة فلو نظرنا إلى واقعهما فواقعهما واحدٌ وإذا نظرنا إلى مفهومهما فهو أيضاً واحد ، وليس المقصود أنّ واقع الإرادة عين مفهوم الطلب كلّا فهنا سوف تكون المغايرة واضحة ، بل المقصود أنّه لو نظرنا إلى الواقعين لهما فواقعهما واحدٌ وإذا نظرنا إلى مفهوميهما فهما أيضاً واحد.

وقد استند صاحب الكفاية إلى الوجدان فإنّ من طلب شيئاً إذا راجع وجدانه لا يرى في نفسه شيئاً آخر غير الإرادة ، فالموجود هو الإرادة فقط ولا توجد صفة أخرى غيرها.

ثم ذكر(قده) بعد ذلك نقضاً في صالح الأشاعرة وقال:- إنّه إذا كان الطلب عين الإرادة يلزم إمّا إشكال تخلف المراد عن الإرادة الإلهية ، أو يلزم عدم تكليف العصاة ، فالعاصي لا تكليف في حقّة بالصوم أو الصلاة أو غيرهما أو أنه يوجد تكليف ولكن يلزم تخلّف المراد عن الإرادة الإلهية ، وكلاهما باطلٌ لأجل أنّ العاصي لو لم يصم مثلاً وبنينا على أنّ الإرادة عين الطلب فحينئذٍ هل توجد إرادة إليهة في حقّ هذا العاصي أو لا ؟ فإن قلت هو يريد ولكن العبد لم يصم لزم تخلّف الإرادة الإلهية عن المراد الإلهي ، وإذا فرضنا أنّه لا توجد إرادة فيلزم أن لا يكون هناك طلب بالصلاة في حقّة وبذلك يلزم أن يكون حال العاصي أحسن من حال المؤمن . إذن لا يمكن إن نقول أنّ الإرادة هي عين الطلب.

فهو(قده) تعرّض إلى هذا ثم تعرض إلى الجواب ، ثم من هناك انتقل إلى شبهة الجبر وهو الأمر الذي لم يكن له داعٍ.

وجاء الأعلام من بعده قالوا:- إنّ شبهة الجبر تأتي بقطع النظر عن هذا الكلام ، فهي تأتي من جهة ثانيةٍ وهي أنّهم قالوا توجد قاعدة وهي قاعدة ( الشيء ما لم يجب لا يوجد )[5] لأنّه يمكن أن يكون الشيء متساوي الطرفين للوجود والعدم فلا يترجح لأحدهما على الآخر ، فإذا وجد فلابد وأنه وصل إلى حدّ الوجوب ، وإذا وصل إلى حدّ الوجوب خرج عن الاختيار ، فأنا حينما أفعل المعصية فهذه المعصية قد وصلت إلى حدّ الوجوب إذ هي لا توجد إلا إذا وجبت وإذا وجبت خرجت عن الاختيار ، فإذن يلزم أن نكون مجبرين في جميع أعمالنا ...... وهكذا أخذت المباحث تتسلسل.

والذي أريد أن أقوله:- هو أنّ هذه المباحث لا يحتاج إليها الأصولي ولا ترتبط بعلم الأصول.

وقد يقول قائل:- إنّ مبحث اتحاد الطلب والإرادة يمكن أن يستفيد منه الأصولي ويساهم في عملية الاستنباط وهو أن نقول:- إذا صدر أمرٌ من قبل المولى هل يجب امتثاله أو لا ؟ إنّه بناءً على اتحاد الطلب والإرادة متى ما صدر الطلب وجب الامتثال لأنّه حينما يصدر الطلب والمفروض أن الإرادة عين الطلب فإذن المولى توجد عنده أرادة فيلزم الامتثال ، أمّا إذا قلنا أنَّ الإرادة مغايرة للطلب فصدور الأمر لا يكفي لاستنتاج وجوب الامتثال إذ يوجد طلبٌ ولكن الإرادة لا يمكن إثبات أنها موجودة والطلب من دون إرادة لا يكفي لوجوب الامتثال.

والجواب:- إنّ الأمر إذا صدر فهو يدلّ على شيئين جزماً ، فهو يدلّ على طلبٍ على إرادةٍ سواء قلنا بالعينيّة أو قلنا بالمغايرة ، بالتالي يدل الأمر الصادر على وجود إرادةٍ غايته أنَّ هذه الإرادة ليست عين الطلب ، لا أنّه بناءً على المغايرة لا توجد إرادة ، بل الإرادة موجودة غايته أنَّ الطلب موجودٌ في جانبٍ من النّفس - إنْ صحّ التعبير - والإرادة موجودةٌ في الجانب الآخر فهما صفتان ، وبناءً على العينيّة الإرادة موجودةٌ أيضاً ولكن هي عين الطلب.

إذن المغايرة لا تعني أنّ الطلب يتحقّق - في حالة صدور الأمر - لكن من دون إرادة ، كلّا وإنما المقصود من المغايرة هو أنّه حينما يصدر أمرٌ فالطلب موجودٌ في النفس وكذلك الإرادة ولكن بوجودين متغايرين ، فهذه صفةٌ وتلك صفةٌ وإحداهما ليست عين الأخرى ، وما ذكر لا يصلح أن يكون ثمرةً ، وبالتالي لا داعي لأنّ يتعرّض الأصوليون إلى هذا البحث فإنه أجنبيّ عن عملية الاستنباط كما هو واضح.

إذن اتضح أنّ هذان الأمران لا يحتاج إليهما الأصولي في مقام الاستنباط ، أو أنّه يحتاج إليهما - كما في الأمر الأول - ولكنه لا يوجد خفاءٌ حتّى نبحث عن معنى كلمة الأمر ، بل يكون معناها واضحاً عندما ترد في النص.

الأمر الثالث:- هل مادّة الأمر وصيغته تدلان على الطلب الوجوبي أو لا - وهذا ما يحتاج إليه الأصولي -؟

والجواب:- قد اتفقت الكلمة على أنّه يدلّ على ذلك ، ولكن وقع الخلاف في منشأ هذه الدلالة.

وقبل أن أبيّن مناشئ الدلالة أشير إلى مطلبٍ جانبيّ:- وهو أنّه لماذا وجّه الأصوليون نظرهم إلى مادّة الأمر وصيغته والحال أنّ هناك ألفاظ أخرى هي أيضاً قد يستفاد منها الوجوب ولكنها ليست من قبيل المادّة ولا من قبيل الصيغة ؟


[1] حقائق الأصول، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، ج1، ص140.
[2] هود/السورة11، الآية97.
[3] هود/السورة11، الآية82.
[4] كفاية الاصول، الخراساني، ص62، ط مؤسسة ال البيت.
[5] مباحث الاُصول القسم الأوّل، السيد کاظم الحائری، ج2، ص517.