الموضوع:- التفقه في الدين-قواعد
وفوائد.
الفائدة السابعة:- التفقّه في الدين.
ربما
يقال:- إنّه يوجد فارقٌ بني التفقّه في الدين وبين التفقّه في الأحكام الشرعية، فالتفقّه
في الدّين عنوانٌ أوسع فلا يصدق على الشخص أنّه متفقّهٌ في الدّين إذا كان متفقّهاً
في الأحكام الشرعية فقط وليس له تفقّهٌ في باب العقائد مثلاً أو بعض الأبواب
الأخرى، وهذا بخلاف التفقّه في الأحكام الشرعيّة فإنّه صادقٌ عليه، وحيث إنّ
المأخوذ في الآية الكريمة التي تقول:- ﴿ فلولا
نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم
لعلّهم يحذرون ﴾ حيث أخذ عنوان التفقّه في الدين ولم يؤخذ عنوان
التفقّه في الأحكام الفقهيّة الشرعيّة فعلى هذا الأساس تكون النتيجة هي أنّ مرجع
التقليد لا يكتفى فيه أن يكون فقيهاً في الأحكام الشرعيّة بل ينبغي أن يكون ملمّاً
بعلومٍ أخرى في باب العقائد أو يضاف إليه التفسير أو التاريخ أو غير ذلك، وتكون
النتيجة على هذا الأساس هي أنّه لا يجوز تقليد هذا الأعلم في الفقه أو ذلك الأعلم
فيه لأنّ هذا لا يصدق عليه أنّه متفقّهٌ في الدّين والمهم هو صدق عنوان التفقّه في
الدين.
والجواب:-
أوّلاً:- إنّ مدرك جواز التقليد ليس منحصراً بهذه الآية
الكريمة، بل هذه الآية الكريمة يشكل التمسّك بها على ما سوف يأتي، بل هناك مدركٌ
آخر هو المهم وهو الذي نستند إليه وهو السيرة، وهو الرجوع إلى كلّ صاحب فنٍّ في
فنّه، فانت طبيبٌ نرجع إليك في طبابتك، وأنت نجّارٌ نرجع إليك في نجارتك ..... وهكذا، ومن أصحاب الفنّ هو الفقيه في الأحكام الشرعيّة فإنّه صاحب هذا الفنّ والسيرة
تشمله أيضاً، وحيث إنّ هذه السيرة لا ردع عنها فيستفاد من ذلك إمضاؤها كسائر
السير، وهذه السيرة لا تَعتَبِر إلّا أن يكون هو صاحب هذا الفنّ الذي نرجع إليه
فيه - يعني في فنّ الفقه - ولا نريد أكثر من ذلك.
فالمدرك
إذن هو السيرة ولو كان المدرك منحصراً بالآية الكريمة لكان لما ذكر وجهٌ، أمّا
بعد أن فرض وجود مداركٍ أخرى تعطينا مدارك أوسع سواء قبلنا آية النفر كدليلٍ على
التقليد أو لم نقبل فهذا ليس بمهمٍ، فإذا لم نقبلها فالمطلب يصير أوضح، بل حتى
لو قبلناها وافترضنا أنّ دائرتها ضيّقة ولكن عندنا دليلٌ آخر يثبت جواز تقليد
الفقيه بالأحكام الشرعيّة وإن لم يكن عالماً بالعقائد وما شاكل ذلك.
ثانياً:- إنّ الآية الكريمة لا تدلّ على جواز التقليد، فإنها
تدلّ على ذلك لو كان الحذر واجباً مطلقاً بعد الانذار - يعني سواء حصل علمٌ بما أنذر
به المنذر أم لم يحصل - فإذا كان الحذر واجباً فيوجد مجالٌ بأن نقول هي تدلّ على
جواز التقليد ووجوبه، ولكن هي ليست لها دلالة على ذلك، بل هي أمرت بالتفقّه وأمرت
المتفقّه بعد أن يتفقّه أن يأتي وينذر الناس في المجامع العامّة سواء كان إنذاره
يفيد العلم للآخرين أو لا، فهو عليه أن ينذر وأنت عليك أن تنذر أيضاً، فالإنذار
مطلقٌ، فالآية الكريمة لم تقل ( ولينذروا إذا كان انذارهم يفيد العلم ) بل هي
مطلقةٌ من هذه الناحية، ولكن بالنسبة إلى الحذر فهي قالت ﴿ لعلّهم يحذرون ﴾ وهنا في مثل هذه الحالة يمكن أن
يقال إنَّ المقصود من ( لعلّهم يحذرون ) يعني إنْ حصل لهم العلم لأنّه إذا أنذرت
أنت وأنذر ذاك وأنذر الثالثٌ .... وهكذا فحينئذٍ يحذرون، أمّا أنه يجب الحذر
عليهم وإن لم يحصل لهم العلم فليس فيها دلالة على ذلك.
إن قلت:- لماذا في قلت الإنذار أنَّ فيه إطلاقٌ أمّا في
الحذر فقلت ليس فيه إطلاق ؟
قلت:- إنَّ الفارق واضح، لأنّه في الإنذار قالت الآية الكريمة
بصيغة الأمر ( ولينذروا ) فهو أمرٌ ولم تقيّد هذا الأمر بحالة العلم، أمّا
بالنسبة إلى الحذر فهي لم تقل ( وليحذروا ) إذ لو قالت كذلك لتمسّكنا بالإطلاق وإنما
قالت ( لعلّهم يحذرون ) يعني لعلّهم يحذرون عندما يحصل لهم العلم.
إذن
هي أجنبيّة عن مسألة التقليد فإنّه في التقليد يجب على المقلّد العامي أن يقبل ما
يقوله المفتي تعبّداً وإن لم يحصل له العلم.
ثالثاً:- إنّ التقليد لا يجوز إلّا في باب الأحكام الفقهيّة،
أمّا في باب العقائد وغير ذلك فيلزم أن يكون كلّ شخصٍ مجتهداً وهذا من المسلّمات،
نعم في بعض الحالات يحصل له العلم من كلامي فهذا ليس تقليداً بل هو علمٌ وهو لا
بأس به، أمّا إذا لم يحصل له العلم فلا يجوز التقليد، وإذا قبلنا بهذا فحينئذٍ
نقول إنَّ الآية الكريم حينما قالت ﴿ ولينذروا
قومهم لعلّهم يحذرون ﴾ أي يجب عليهم الحذر تعبّداً ولكن في باب الأحكام
الفقهيّة فإنّها هي التي تكون مورد التقليد، أمّا الأمور الأخرى من عقائدٍ ومن
غير ذلك فهي ليست مورداً للتقليد، وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نستفيد من الآية
الكريمة اعتبار واجديّة مرجع التقليد إلى العلوم الأخرى بعدما فرض أنّ التقليد
والحذر ينحصر بأمور الفقه لا أكثر منها.
إن قلت:- صحيحٌ أنّ التقليد ينحصر بالأحكام الفقهيّة ولكن
شرط جواز العمل والتقليد في الأحكام الفقهيّة أن يكون المرجع متفقّهاً في الدين -أي
في الفقه وغير الفقه - فتفقّهه في الفقه وغير الفقه يكون مجوّزاً للرجوع إليه في
الأحكام الفقهيّة، فنحن نسلّم إذن أنّ التقليد يكون في الأحكام الفقهيّة فقط ولكن
شرطه أن يكون المرجع متفقّهاً في الدائرة الأوسع والأعم بمقتضى الآية الكريمة فإنّها
قالت:- ﴿ فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة
ليتفقّهوا في الدين ﴾ فمرجع التقليد لابد وأن يتفقّه في اليدين،
يعني لابد وأن يحوي الفقه والعقائد وغير ذلك والناس بعد ذلك يرجعون إليه في
الأحكام الفقهيّة فقط، فلنقل هكذا تدلّ الآية الكريمة وحينئذٍ يندفع التعليق
الثالث الذي أشرنا إليه.
قلت:- إنّ الحذر بم يكون ؟ إنه بما أُنذِر، فما أُنذِرتُ
به يلزم أن أحذر منه، وننقل التساؤل إلى الإنذار ونقول بم يكون الإنذار ؟ إنَّ الإنذار
هو بما تفقّه في الدين، فمتعلّق الإنذار هو ما يكون مصداقاً للتفقّه في الدين، فما
تفقّه به في الدين هو الذي ينذر به وهو الذي يجب الحذر منه فصار بالتالي يجب الحذر
من ناحية الأحكام الفقهيّة لأنّها هي متعلّق الإنذار وبالتالي الإنذار يكون بما
تُفقِّه به فتنحصر دائرة التفقّه في الدين بالأحكام الفقهيّة لأنّ الآية الكريمة جعلت
متعلّقات الثلاثة واحدٌ - يعني متعلّق الحذر ومتعلّق الإنذار ومتعلّق التفقّه واحدٌ
- فالإنذار يكون بما تفقّه والحذر يكون بما أنذرنا به وبالتالي يجب الحذر بما تفقّه
به، فيلزم أن يكون الذي تفقّه به ذلك المرجع هو خصوص الأحكام الشرعيّة فإنّها
متعلّق الإنذار، ومتعلّق الحذر نفس متعلّق الإنذار فيثبت أنّ اللازم في مرجع
التقليد هو أن يكون واجداً وفقيهاً في الأحكام الفقهيّة لا أكثر لأنّ إنذاره هو بذلك
والحذر يلزم أن يكون بذلك لا أكثر.
وبهذا
انتهينا من هذه القواعد والفوائد.