الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

36/08/20

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- منطقة الفراغ -قواعد وفوائد.
الأمر الخامس:- ما هو الدليل على أن الحاكم الإسلامي له هذا الحقّ في منطقة الفراغ ؟ ففي الشيء المباح مثلاً يحكم بأنّه واجبٌ أو حرامٌ تبعاً لاختلاف المورد، فمثلا في مسألة التنباك يحكم بالتحريم، وفي مسألة هجوم العدوّ يحكم بالوجوب وهكذا، فما هو الدليل على ذلك؟
أجاب السيد الشهيد(قده) عن ذلك:- بأنّ المستند هو قوله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾، ولم يذكر تقريبا لذلك، ولعلّ وجه الدلالة هو أن إثبات هذا الوصف - وهو ( أولي الأمر ) - للحاكم الإسلامي لابد وأن يكون المقصود منه ما إذا كان الشيء مباحاً وأراد أن يحكم بوجوبه أو بحرمته لمصلحةٍ تقتضيها الفترة الزمنيّة، فيحكم بلزوم الدفاع مثلاً أو يحكم بحرمة التنباك، فهو من أولي الأمر في هذه المساحة فتجب إطاعته، أمّا المساحة المرسومة والمبيّن حكمها من قبل الله عزّ وجلّ فهو ليس من أولي الأمر لأنّ ذلك من مورد إطاعة الله عزّ وجلّ.
إذن لابدّ وأن نفترض الإطاعة لأولي الأمر في الآية الكريمة في مساحة المباحات، فالحكم إذا بيّنه الله عزّ وجلّ فهو إطاعة لله تعالى.
إذن لابد وأن نفترض أنّ الحكم الذي يحكم به الحاكم الإسلامي - كتحريم التنباك - لم يصدر من الله تعالى بأن لم تدلّ عليه آية أو رواية ولا يصدق عليه أنّه إطاعة لله أو الرسول فيكون إطاعةً لأولي الأمر . هذا ما قد يقرّب به دلالة الآية الكريمة، وهو بيانٌ ظريفٌ ووجيه.
ولكنّي أقول:- هذا مبنيّ على تعميم عنوان أولي الأمر لغير الأئمة عليهم السلام، أمّا إذا اقتصرنا في هذا العنوان على الأئمة عليهم السلام وقد يؤكده إطلاق الأمر بالإطاعة حيث يدلّ على العصمة ويكون مختصاً بهم عليهم السلام، فعلى هذا الأساس الاستفادة منه في حقّ الحاكم الإسلامي شيءٌ مشكل بعد احتمال كون عنوان أولي الأمر مختصّاً بهم عليهم السلام، خصوصاً على ما ذكرناه في باب الإطلاق من أن شرط انعقاده هو أن يكون مستهجناً عرفاً إذا أريد به المقيّد واقعاً، وهنا لو ظهر المتكلّم وقال إنّ المقصود من أولي الأمر هو الأئمة عليهم السلام فلا يستهجن منه ذلك ولا يقال له لِـمَ لَـمْ تقيّد إذ أنّ البعض يصدق عليه عنوان أولي الأمر؟ كّلا لا يستهجن منه ذلك.
وعلى أيّ حال إنّ هذا الأمر مبنيٌّ على هذه القضيّة، وكان من المناسب له(قده) أن يشير إلى ذلك وأن عنوان أولي الأمر يشمل كلّ أحد غايته نقول- انتصاراً له - إنّه خرج منه الحاكم الظالم، أمّا غير الظالم فالعنوان شامل له . إذن هذا البيان مشكلٌ.
والأجدر أن يقال:- إنّه بعدما كانت وضيفة الحاكم الإسلامي هي الحفاظ على بلاد الإسلام من كلّ الزوايا كالاقتصادية والاجتماعية والتعليميّة وما أشبه ذلك، بل لو لم يكن هناك حاكمٌ إسلاميّ لوصلت النوبة إلى عدول المؤمنين الواعين والمثقفين إذ لا يحتمل أن تترك البلاد الإسلامية بلا وليٍّ للأمر وتكون فوضى . إذن لابدّ من شخصٍ يدّبر الأمور والناس يسيرون خلفه، وإذا سلّمنا بأن هذا المتصدّي يجب عليه أن يحافظ على البلاد الإسلامية، فبالدلالة الالتزامية تجب متابعته وإلا يلزم اللغوية، فمثلاً أنه يحرم الاستيراد من دولة كذا وأنتم ليس عليكم المتابعة ؟! إنه لغوٌ وعبثٌ . إذن القضية واضحة ولا تحتاج إلى آيةٍ أو رواية.
وبعبارة أخرى:- بعد أنّ فرضنا وجود حاكمٍ تلزمه المحافظة على البلاد الإسلامية وتلزمه مراعاه العناوين الثانويّة ويلزمه أن يملأ منطقة الفراغ بالشكل المناسب، فاذا سلّمنا بهذا كلّه فيلزم علينا أن نسير وراءه ونطيعه، فالدولة إذا كان يلزمها تهيئة الكهرباء للناس فبالدلالة الالتزامية يلزم علينا أن نسدّد أجور الكهرباء - بالمقدار الوجيه والمناسب - ولا يحقّ لنا التذرّع بذريعة مجهول المالك وما أشبه ذلك، فصحيحٌ أنّ الماء مباحٌ ولكن الدولة تهيء لك ذلك وتوصله إلى بيتك، وعليه إذا كان البناء على عدم إعطاء الجميع للأجور فسوف يحرم الجميع من نعمة الماء . إذن بعد فرض وجوب المحافظة عليه يلزم علينا الإطاعة.
الأمر السادس:- ما هو الفرق بين منطقة الفراغ وبين مقاصد الشريعة والمصالح المرسلة ؟ ففي منطقة الفراغ تشرّعون أحكاماً بعنوان منطقة الفراغ، وصاحب مقاصد الشريعة يصدر أحكاماً على أنها من مقاصد الشريعة، فأحرّم كلّ وسيلة نتيجتها نتيجة الربا من باب أن لا تجتمع الأموال في جهةٍ معينة.
والجواب:- في منطقة الفراغ يكون الحكم جزمياً، فيفترض وجود كبرى كلّية جزميّة، فمثلا ( يلزم المحافظة على حياة المسلمين في شتّى المجالات ) فهذه كبرى جزميّة، والصغرى جزميّة أيضاً فمثلاً ( نحتاج إلى ثلّة يدرّسون الطب والهندسة وما شاكل ذلك) فهذه قضيّة جزمية أيضاً، وإذا كانت الكبرى جزميّة والصغرى كذلك فالنتيجة جزميّة بلا إشكال، فيحكم بوجوب دراسة الطب والهندسة وما أشبه ذلك، ولم نتبع الظن في ذلك أبداً.
وهذا بخلافه في مقصد الشريعة فإنه لا يوجد شيءٌ جزميّ إذ كيف تعرف مقصد الشريعة - بنحو الجزم - في الربا وهو أن لا تجتمع الأموال في جهة معيّنة ؟! فأقصى ما هناك هو الظن، فعلل الأحكام وملاكاتها مجهولةٌ عندنا، فالعلّة لا يطلع عليها العقل، ولو اطلع فقد يغفل عن عدم المانع أو الشرط، وحينئذٍ لا يمكن أن يجزم بمقاصد الشريعة وملاكاتها . نعم لو حصل جزمٌ في موردٍ من الموارد لسلّمنا بذلك، ولكن العادة هي عدم حصول الجزم.
إذن الفارق بين منطقة الفراغ وما ذكر واضح.
الأمر السابع:- هناك تساؤلٌ أو إشكالٌ وهو أنّه كيف نربط بين الثابت والمتغيّر فإن أحكام الشريعة ثابتة وباقية إلى يوم القيامة، ففي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام:- ( قال جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله:- أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة، ألا وقد بينهما الله عزّ وجلّ في الكتاب، وبينتهما لكم في سنّتي وسيرتي ) ، وعن زرارة:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الحلال والحرام، فقال حلال محمد حلال أبدا الى يوم القيامة لا يكون غيره ولا يجيء غيره ) ، وعن الإمام الباقر عليه السلام:- ( إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه، وبيّنه لرسوله، وجعل لكلّ شيءٍ حدّاً، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه، وجعل على من تعدّى الحدّ حداً ).
إذن أحكام الشريعة ثابتة إلى يوم القيامة والحياة - كما نعرف - في تجدّد وتغيّر فكيف تكون الأحكام الثابتة مسايرة للزمن ؟ نعم هي نافعة في الفترة التي جاءت فيها - كزمن النبي صلى الله عليه وآله مثلاً - فالحياة كانت بدائية أمّا الآن فالحياة قد تغيرت تغيراً كاملاً من شتّى الجوانب فكيف يلتئم هذا الثابت مع هذا المتغير؟ إنّ المناسب لتغيّر المتغيّر أن يكون الحكم متغيّراً أيضاً، أمّا أن يكون ثابتاً وما يرتبط به متغيّراً فهو شيءٌ غير ممكن؟