الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

36/08/18

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- منطقة الفراغ -قواعد وفوائد.
الفائدة السادسة:- منطقة الفراغ)
لا إشكال في أن النبي صلى الله عليه وآله قد أكمل الدين لقوله تعالى:- ﴿ اليوم اكملت لكم دينكم ﴾، ولكنه لم يكمل الدين بتفاصيله، وعليه فالآية الكريمة حينما قالت ﴿ اليوم أكملت﴾ كيف يصحّ مثل ذلك والحال أنّ التفاصيل لم تبيّن؟! والجواب:- إنّه لابد وأن يكون المقصود من الآية الكريمة هو بعد جعل العترة الطاهرة أحد الثقلين حتى يثبت لها المرجعيّة المذهبيّة والتشريعيّة، فإنه بعد أن جعلت العترة مرجعاً في التشريع ـ لحديث الثقلين ـ يصحّ بأن تقول الآية الكريمة آنذاك ﴿ اليوم اكملت لكم دينكم ﴾، فالإكمال حصل بضّم مرجعيّة أهل البيت عليهم السلام - أعني المرجعيّة التشريعيّة -، فالعترة إذن هي مرجعٌ في التشريع، وقد بيّن الأئمة الكثير الكثير من تفاصيل الأحكام، وعند إلقاء نظرة سريعة على وسائل الشيعة يثبت صدق ما نقول، فتفاصيل الصلاة قد سئل عنها الأئمة عليهم السلام بعد ذلك من قبل زرارة وأقرانه، فتفاصيل الصلاة ثبتت منهم عليهم السلام وكذلك تفاصيل الحج .... وهكذا.
وقدّم لنا الأئمة عليهم السلام قواعد عاّمة يمكن الاستفادة منها على مرّ الزمان، من قبيل قاعدة الاستصحاب والطهارة والحليّة ولا ضرر ولا حرج والفراغ والتجاوز وما شابه ذلك من القواعد.
ولكن بقيت مساحة لم تملئ بالتشريع منهم عليهم السلام ومنح إكمالها للحاكم الاسلامي بحسب اقتضاء الظروف، ولكن من الطبيعي أنّ الأئمة عليهم السلام أعطونا قواعد كلّية والحاكم الإسلامي هو الذي يطبّقها بحسب الحوادث والظروف التي تطرأ، فقد يطرأ ظرفٌ يهجم فيه العدوّ على بلاد الإسلام فمن باب قاعدة لزوم الحفاظ على بلاد الإسلام والمسلمين يصدر الحاكم الإسلامي حكماً بلزوم الدّفاع تطبيقاً لتلك الكبرى الكلّية على المصداق الخارجي، فمثل هذه القضيّة يتركها الإمام إلى الحاكم الإسلامي، وإنما لم يصدّى لها الإمام بالمباشرةً لأجل مدخليّة الزمان في ذلك، فالإمام أعطى الحكم الكلّي ويبقى التطبيق على الحاكم الإسلامي.
وإذا فرض أن بلاد الإسلام كان نظامها الاقتصادي يخاف عليه من الانهيار فمن باب الحكم بلزوم الحفاظ على النظام الاقتصادي الإسلامي يلزم على الفقيه أن يفتي بلزوم دفع الضرائب بالمقدار المناسب، كأن يفرضها على الأغنياء فقط، وقد يشمل حتى متوسطي الحال، وهكذا بما يراه مناسباً.
وهكذا لو خيف على البلاد بسبب تصدير بعض البضائع، واخراج العملة الصعبة منها فيصدر حكماً بالمنع.
وهكذا لو فرض أنّ استيراد بضاعةٍ ما ومن دولةٍ معيّنة كان تقويةً للظالم أو ما شابه ذلك فيصدر منعاً من هذا الاستيراد مثلاً, والأمثلة من هذا القبيل كثيرة.
إن هذه مساحة تترك إلى الحاكم الإسلامي يشخّصها بحسب الظروف، نعم الحاكم الإسلامي لا يملئها من دون دليلٍ ومستندٍ حتى يقال بأنّه ليس بمشرّعٍ بل توجد عنده أحكام كلّية قدّمها له الأئمة عليهم السلام وهو يقوم بتطبيق تلك الكبريات الكليّة على الصغريات، وهذه المساحة يمكن أن يطلق عليها بــ(منطقة الفراغ)، وإن شئت تسميتها باسم آخر فلا مانع، والذي أظنه أنّ منطقة الفراغ بالتفسير الذي ذكرناه - والذي ينبغي أن يعدّ نقطة قوّة في التشريع الإسلامي - قضيةٌ لا يختلف فيها الفقهاء بل ينبغي أن تكون مسلّمة، فأيّ فقيهٍ يعلم بهجوم الأعداء ولا يصدر حكماً بالدّفاع عن تلك البلاد ؟!! واذا فرض أن استيراد بضاعةٍ ما كان يؤدّي الى تقوية الجهة الظالمة فينبغي أن يصدر حكماً بالمنع.
إنّ هذه قضيّة ينبغي أن تكون محلّ اتفاق الفقهاء، غايته أنّ مصطلح منطقة الفراغ لم يكن متداولاً بينهم ولكنّ واقع منطقة الفراغ فهو قضيّة ينبغي أن تكون مسلّمة بينهم.
وفي هذا المجال ألفت النظر الى بعض الأمور:-
الأمر الأوّل:- ويشتمل على نكاتٍ ثلاث:ـ
النكتة الأولى:- ذكرنا أنّ قوله تعالى:- ﴿اليوم اكملت لكم دينكم ﴾ يراد به إكمال الدين من خلال جعل العترة الطاهرة مرجعاً مذهبيّاً أو تشريعياً، وقد يقول قائل:- لم لا نعكس ونقول إن الآية الكريمة تدلّ بالمطابقة على إكمال الدين من قبل النبي صلى الله عليه وآله وبالالتزام على عدم الحاجة إلى مرجعيّة العترة الطاهرة إذ الآية بنفسها تدلّ على أنّ الدين قد كمل، فكما يحتمل أن يكون المقصود ما ذكرته يحتمل أن يكون المقصود ما أشرنا اليه، ولا أقل بأن تكون الآية الكريمة مجملة من هذه الناحية ؟
والجواب:- إنّ هناك قرينتين تدلّان على أن المقصود هو ما أبرزناه نحن، دون الاحتمال الثاني.
القرينة الأولى:- واقع الحال، فإن الدين لم يكمل بتفاصيله عند رحيل النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، فتفاصيل الصلاة والحج وما أشبهه لم تكن ثابتة، بل لا تتسع حياة الرسول صلى الله عليه وآله لذلك . إذن يتعيّن أن يكون المقصود من قوله تعالى:- ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾ - بعد الالتفات إلى ما أشرنا إليه من واقع الحال - ما أشرنا اليه، يعني أكملت لكم دينكم بنصب أهل البيت عليهم السلام مرجعاً في مقام معرفة الأحكام الشرعيّة.
القرينة الثانية:- حديث الثقلين، فإنّه مسلّم بين الفريقين بل هو متواتر عندهم، فإنه بعد أن أمر بالتمسّك بالأئمة عليهم السلام يأتي الإشكال وهو أنّه لو كمل الدين فما هي الحاجة إلى التمسّك بالأئمة عليهم السلام، فالثقل الثاني لا حاجة إلى الأمر بالتمسّك به إذ الدين قد كمل ؟
إذن لا بد - بعد أن أمرنا بالتمسّك بالثقل الثاني - وأن يكون المقصود من أن كمال الدين قد حصل بنصبهم وبالأمر بالتمسّك بالأحكام الصادرة منهم وإلا فيبقى حديث الثقلين منافياً لكمال الدين، أي تقع المنافاة بين الآية الكريمة التي تقول ﴿ اليوم اكملت لكم دينكم ﴾ فلا حاجة إلى الأئمة وبين حديث الثقلين الذي يقول تمسكوا بالعترة . إذن لا بد وأن يكون المقصود هو ما أشرنا إليه.
النكتة الثانية:- إن أهل البيت عليهم السلام لهم منصبان منصب الإمامة والمرجعيّة السياسيّة ومنصب الإمامة والمرجعيّة المذهبيّة والتشريعيّة، وبتعبيرٍ أخر:- لهم الإمامة السياسية والإمامة التشريعيّة، ولكن ما هو الدال على الإمامة السياسية وما هو الدال على الإمامة التشريعيّة  ؟ الجواب:- إنّ حديث الغدير يدلّ على الإمامة السياسيّة دون الإمامة المذهبيّة والتشريعيّة، فإن الوارد فيه يتناسب مع الإمامة السياسية لا غير حثت ورد فيه ( ألست أولى بكم من أنفسكم؟! ) و ( من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ) وغيرها، إنّ هذه لا تتناسب مع المرجعيّة التشريعيّة وانما تتناسب مع المرجعيّة السياسيّة كما هو واضح. إذن حديث الغدير يدلّ على ثبوت المرجعيّة السياسية لأهل البيت عليهم السلام.
وأما حديث الثقلين فهو يدلّ على المرجعية التشريعيّة حيث قال:- ( ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا )، فالمقصود هنا هو الرجوع إليهم في مقام التشريع والحصول على الأحكام.
إذن لا يوجد حديثٌ واحدٌ يدلّ على كلتا المرجعيّتين وإنما يوجد حديثٌ يدلّ على المرجعيّة الأولى وحديثٌ آخر على المرجعيّة الثانية، فحديث الغدير يدلّ على المرجعية السياسيّة ونصب الأمير قائداً سياسياً على الامة، وحديث الثقلين يدلّ على المرجعيّة التشريعيّة.
النكتة الثالثة:- إنّ آية ﴿ اليوم اكملت لكم دينكم ﴾ كما دلّت على ما أشرنا إليه - من أن الدين قد كمل مع ضمّ العترة - فهي تدلّ على أن إكمال الدين بعد نصب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام خليفةً بعد النبي صلى الله عليه وآله اذ هو الجزء المهم والمكمّل للدين، ولكننا الآن لسنا بصدد هذا بل نحن بصدد بيان أنّ حقّ التشريع انتقل إلى الأئمة عليهم السلام ونستفيد ذلك من آية ﴿ اليوم اكملت لكم دينكم ﴾ إذ لولا ذلك لما صحّ التعبير بـــ ﴿ اليوم اكملت لكم دينكم ﴾ إذ لم يكمل الدين حقّاً من دون نصب الأئمة عليهم السلام مرجعاً مذهبيّاً وتشريعيّاً إذ تفاصيل الأحكام لم تُبيَّن.
الأمر الثاني:- إنّ منطقة الفراغ كما قلت ينبغي أن تكون مورد اتفاقٍ عند الكل، نعم التعبير بهذا المصطلح جاء متأخراً إلا أنّ واقع الحال هو الاتفاق على هذه القضيّة، وقد أشار السيد الشهيد(قده) إلى منطقة الفراغ بما نصّه:- ( ....حالات عدم وجود موقفٍ حاسمٍ للشريعة من تحريمٍ أو إيجابٍ يكون للسلطة التشريعيّة التي تمثّل الأمة أن تسنّ من القوانين ما تراه صالحاً على أن لا يتعارض مع الدستور وتسمى مجالات هذه القوانين بمنطقة الفراغ )، وقد عبّر(قده) بأنّ السلطة التشريعية لها أن تسنّ ما تراه صالحاً ولعلّ- من جهة تعبيريّة - المناسب أن يعبر بدل ( ما تراه صالحاً ) بعبارة ( بما يقتضيه العنوان الثانوي أو الحفاظ على البلاد الاسلامية أو حياة المسلمين )، فإنّ كلمة ( صلاح أو المصلحة ) تشعر بالتناغم مع الاتجاه المقابل، مضافاً إلى أنّه خالٍ من الصبغة العلميّة، بخلاف ما لو عبّرنا بما أشرت إليه كأن يقول ( للسلطة التشريعية أن تسنّ ما يقتضيه الحفاظ على نظام الإسلام والبلد الإسلامي ) فإنّ هذا التعبير يعطي الخلفيّة الفقهيّة لثبوت هذا الحقّ للسلطة التشريعيّة، فإنّه يدلّ على أنّ السلطة التشريعيّة تصنع ذلك من باب التطبيق للقانون الكلّي القائل ( يجب الحفاظ على نظام الإسلام والبلد الإسلامي وحياة المسلمين وتنظيم حياتهم )، فهذا حكمٌ كلّيٌّ مسلّمٌ ونحن كسلطةٍ تشريعيّةٍ نشرّع ما يكون صغرى لهذا القانون العام، إنّ التعبير لو كان كما أردنا لكان مشيراً إلى الخلفيّة الفقهيّة وإلى الصبغة العلميّة.