الموضوع:- تأثير الزمان والمكان على عملية الاستنباط -قواعد وفوائد.
القسم الثاني:- الحالات التي لا تتأثر بعنصر الزمان.
وهذا
أيضا له موارد وهي:-
المورد الأوّل:- ما إذا كان لدينا حكم معيّن ونستعين
بالاستحسانات والظنون لتخصيصه بتلك الفترة الزمنيّة السابقة، من قبيل ما يقال
بالنسبة إلى دية المرأة فإنها نصف دية الرجل فقد يقال إنّ هذا نحمله على الزمن
السابق الذي لم تكن فيه المرأة يدٌ عاملة وإنما اليد العاملة كانت هي الرجل فمن
قتل رجلاً فقد قتل يداً عاملة ففقدت الأسرة يداً عاملة فينبغي للجاني أن يعوّض
بالدّية كاملةً، وأما المرأة فليست يداً عاملة فنصف الدية، أما في زماننا فقد أصبحت
المرأة يداً عاملة كالرجل فمن المناسب أن تكون ديتها مساوية لدية الرجل . إذن
نخصّص هذا الحكم بذلك الزمان.
ومن
هذا القبيل أيضاً مسألة الإرث فــ ( للذكر مثل حظ الانثيين ) فنخصصه أيضاً بذلك
الزمان باعتبار أنّ الذي يصرف في البيت هو الرجل فينبغي أن يأخذ حصّةً أعلى
والمرأة مؤمّنة، أمّا في هذا الزمن فقد أصبحت المرأة تصرف في البيت أيضاً فمن
المناسب أن تكون حصّتها من الإرث كحصة الرجل . وعلى هذا المنوال قد توجد أمثلة
أخرى.
إنّ
هذا كما ترى ينبغي أن نتّفق على بطلانه وأن عنصر الزمان لم يؤخذ في هذا الحكم إذ
أنّ هذا التخصيص مبنيّ على الاستحسان والظنون ولا يجوز أن نرفع اليد عن الاطلاق
الأزماني في الدليل إلا بدليلٍ والظن والاستحسان ليس بدليل.
وواضح
أنّه إذا أردنا أن نسير هذا المسار فيلزم أن نقول إنّ من يلتزم بهذا الكلام - كدية
المرأة وغيرها - يلزم أن يلتزم في قاعدة الطهارة التي تقول
( كلّ شيء لك طاهر ) [1]بأنها تختصّ بذاك الزمن
لأنّ الماء كان قليلاً فالشارع يحتاج إلى أن يشرّع قاعدة الطهارة أمّا في هذا الزمن
فالماء كثير .
وكذا
بالنسبة إلى الصلاة فإنّه يلزم أن يقول بأنها تختصّ بذلك الزمن لأنّ الناس كانوا بحاجة
إلى أن يرتبطوا بالله عزّ وجلّ ولا توجد لديهم وسيلة ارتباط فاحتاجوا إلى وسيلةٍ
وهي الصلاة، أمّا في هذا الزمن فنحن مرتبطون بالله عزّ وجلّ حيث نرى آثار قدرته
في السماء والأرض فلا نحتاج إذن إلى الصلاة.
وهذا
الفكر إذا أردنا أن نسرّيه ونأخذ به يلزم أن نسرّيه إلى الصلاة وما شاكل ذلك
أيضاً.
وجوابه ما أشرت إليه:- من أنّ دليل حكم الدّية أو الإرث له
إطلاق أزاماني ولا يجوز رفع اليد عن الدليل إلا بدليلٍ وما ذكر مجرّد ظن واستحسان،
فلا يمكن رفع اليد عن ذاك الدليل بهذا.
إن قلت:- كيف قبلت في الحالات الأولى بتأثير عنصر الزمان ولم
تقبله هنا ؟
قلت:- هناك في كلّ موردٍ كان عندنا جزم، فخذ المورد الأوّل
مثلاً الذي مثاله
﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من
قوة ﴾ [2]فمصداق هذا هو في نفسه
متغيّر وليس قابلاً للثبات فمن الواضح حينئذٍ أن يتغيّر باختلاف الزمان والشارع
ترك التحديد لك باختلاف الزمان.
وفي
المورد الثاني صبّ الحكم على عناوين وهي العطور الخاصّة ونحن قلنا إنّه في زماننا
حصلت عطورٌ أرقى من تلك فبالأولى - أو بالجزم بعدم الخصوصية - نتعدّى إليها.
ومن
حقك أن تقول إنّه لا يوجد لديَّ جزمٌ، فإذا كان لا يوجد عندك جزمٌ فلا ينبغي لك
أن تتعدّى بل تبقى على تلك العطور وتجوّز هذه العطور الأخرى، فالتعدّي إلى بقيّة
العطور لا يكون إلا بالجزم.
وهكذا
بالنسبة إلى المورد الثالث وهو آية الاستئذان حيث حملناها على ذلك الزمن لأنّنا
قلنا إنّ أوقات الاستراحة كانت هي تلك الأوقات، فالمدار جزماً هو على وقت إلقاء
الثياب وهذا يختلف باختلاف الأزمنة، وهو ليس اعتماداً على الاستحسان والظن وإنما
هو اعتمادٌ على حكم العقل القطعي وعلى البداهة والجزم لا على الظنون . وهكذا
بالنسبة إلى المورد الرابع.
إذن
ما ذكرناه في تلك الموارد ليس اعتماداً على الظنون، وإذا قال شخصٌ إنّي لا يحصل
عندي قطعٌ في تلك الموارد بل يحصل عندي ظنٌ فنحن نقول له إذن لا يجوز لك أن تقيّد
بذلك الزمن بل اعمل به بلحاظ جميع الأزمان.
إذن
الضابط عندها هو حصول الجزم، وإذا لم يحصل الجزم فتقييد الحكم بذلك الزمن أمرٌ
ليس بصحيحٍ وهو مرفوض.