الموضوع:- تأثير الزمان والمكان على عملية الاستنباط -قواعد وفوائد.
الفائدة الرابعة:- تأثير الزمان والمكان على عملية
الاستنباط.
لا
إشكال في أنّ أحكام الشريعة الإسلاميّة مستمرة على ما هي عليه إلى أن يرث الله الأرض
ومن عليها، وقد دلّت على ذلك بعض الروايات، من قبيل ما جاء في الكافي
[1]
في ذيل صحيحة زرارة:-
( سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن الحلال والحرام، فقال:- حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً
إلى يوم القيامة ).وبقطع
النظر عن الروايات يكفينا التمسّك بالقاعدة فإنها تقتضي الاستمرار فإنّ دليل كلّ
حكمٍ كما له إطلاقٌ أفرادي مثلاً وغير ذلك له أيضاً إطلاقٌ أزماني، فحينما يقال
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة
فأسعوا إلى ذكر الله ﴾ فهذا فيه إطلاقٌ إذ هو لم يقل اسعوا في هذا
العام أو إلى زمان الغيبة الصغرى أو إلى رمان كذا بل هو ليس مقيداً بقيدٍ ومقتضى إطلاقه
الأزماني يعني شمول جميع الازمان.
إذن
الحلال والحرام مستمرّان إلى يوم القيامة لوجهين هما بعض الروايات والاطلاق
الأزماني لكلّ حكم.
وإذا
سلمنا بهذا فعنصر الزمان والمكان كيف يؤثر في الأحكام ؟! إنّ الزمان يؤثر لو فرض
أنّ الأحكام كان يمكن أن تكون مختصّة بزمنٍ دون زمن أمّا بعد أن قلنا باستمرارها
إلى يوم القيامة فلا معنى لهذا الاحتمال من الأساس، فباب هذا البحث لابد من غلقه
من البداية ؟!
والجواب:- إنّ كلّ حكم ٍمن الأحكام له شروطٌ عامّة
وقد يضاف إليها الظرف الخاص، وحينئذٍ نقول إنَّ معنى استمرار كلّ حكمٍ إلى يوم
القيامة يعني أنه يستمر بشرائطه العامّة كجوب الحج والصوم والصلاة - والشرائط
العامة هي العقل والقدرة والبلوغ -، فهو يستمّر باستمرار هذه الشرائط، وإذا كان
له ظرفٌ خاص فحينئذٍ يستمرّ مادام ذلك الظرف الخاص مستمراً - كما سوف نمثل له -،
فنحن حينما نريد أن نقول إنّ هذا الحكم ثابتٌ في مرحلةٍ زمنيّةٍ وناظرٌ إلى مرحلةٍ
زمنيّةٍ معيّنة لا يتنافى مع استمراره لأنّ المقصود من الاستمرار هو استمراره بما
له من ظرفٍ خاصٍّ فإذا استمرّ الظرف الخاص يبقى هو مستمرّ وإذا لم يستمر الظرف
الخاص فيتعّطل هذا الحكم إلى أن يحصل ذلك الظرف الخاص وهذا لا يتنافى مع استمراره.
وربما
وردت الاشارة إلى فكرة تأثير الزمان في بعض كلمات أهل البيت عليهم السلام وفي بعض
كلمات الفقهاء على اختلافٍ بين كلماتهم في القبول والرفض - إيجاباً وسلباً -.
أما الرواية التي يفهم منها تأثير الزمان بوضوح:- فهي
ما ورد في الحكمة 17 من حكم أمير المؤمنين عليه السلام في آخر نهج البلاغة وهي:-
( سئل عليه السلام عن قول الرسول صلى الله عليه وآله " غيّروا
الشيب ولا تشبّهوا باليهود " فقال عليه السلام:- إنما قال صلى الله عليه وآله
ذلك والدين قُل[2]فأما الآن وقد اتسع نطاقه
[3]وضرب بجرانه
[4]فامرئٌ وما اختار )، إذن
الإمام عليه السلام أكد في هذه القضيّة على مسألة الزمان.
ومن باب الكلام يجرّ الكلام أقول:- ولعلّ من هذا
الباب قوله صلى الله عليه وآله:-
( تناكحوا تناسلوا
فإني أباهي بكم الأمم ) فهل نعمل في هذا الزمان بهذا الحديث أو أنه يأتي ما
ذكرنا من هذا يكون في الزمن الذي كان فيه المسلمون قليل أمّا الآن فلا - وواضحٌ أن
هذا مخالف للظهور إذ يوجد إطلاقٌ أزماني ولكنه كاحتمال -.
إذن
نتمكن أن نقول إنّه بمقتضى هذا الحديث إنّ الخضاب مطلوبٌ في هذا الظرف - أي قلّة
المسلمين - فإذا كثر المسلمون فهذا الحث والاستحباب للخطاب يرتفع وإذا عاد الظرف
يعود الحكم وهذا معناه اسمرار الحكم بظرفه، فهذا الحكم - وهو رجحان الخضاب مادام
المسمون قليل - يبقى مستمراً إلى يوم القيامة ولكن بضرفة ولا يتنافى بأّنه ينقطع
في ظرفٍ ويأتي في ظرفٍ ثانٍ لأنّه مقيّد بالظرف الخاص من البداية.
وأمّا في كلمات الفقهاء:- فمن جملة الذين ربما أشاروا إلى
ذلك الشيخ الصدوق(قده) حيث قال ما نصّه:-
( وقال النبي
صلى الله عليه وآله " الفرق بين المسلين
والمشركين التحلّي[5]بالعمائم "
وذلك في أوّل الاسلام وابتدائه وقد نقل عنه صلى الله عليه وآله
أهل الخلاف أيضاً أنّه أمر بالتحلّي ونهى عن الاقتعاط[6])
[7].ولعلّه
توجد شارة إلى ذلك أيضاً من قبل الأردبيلي(قده) في مجمع الفائدة والبرهان حيث قال
بمناسبةٍ ما نصّه:-
( ولا يمكن القول بكلّية شيءٍ[8]بل تختلف الأحكام باختلاف الخصوصيات والأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص وهو
ظاهرٌ وباستخراج هذه الاختلافات والانطباق على الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف
امتياز أهل العلم والفقهاء شكر الله سعيهم ورفع درجاتهم )
[9]،
يعني يريد أن يقول إنّ الفقيه البارع هو الذي يلتفت إلى هذه النكات ويلاحظ أنّ هذا
الحكم في هذه الفترة الزمنية وذاك في فترةٍ زمنيّة أخرى ..... وهكذا.
إنَّ
هؤلاء يظهر منهم أنّهم يتفاعلون مع تأثير الزمان في الجملة.
وفي المقابل يظهر من بعضٍ آخر ردّ هذه الفكرة رداً تاماً:- وأعني
بذلك الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(قده) في تحرير المجلة
[10] في
ذيل المادّة 39 حيث إنّ المادّة تقول:-
( لا ينكر تغيير
الأحكام بتغيّر الأزمان ) وهو قد ردّ عليها فقال:- ( قد عرفت أنّ من أصول
مذهب الأمامية عدم تغيّر الأحكام بتغيّر الموضوعات أمّا بالمكان والزمان والأشخاص
فلا يتغيّر الحكم ودين الله واحدٌ في حقّ الجميع لا تجد لسنّة الله تبديلاً وحلال
محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه كذلك، نعم يختلف الحكم في حقّ الشخص والواحد
باختلاف حالاته من بلوغٍ ورشدٍ وحظرٍ وسفرٍ وفقرٍ وغنىً وما إلى ذلك من الحالات
المختلفة وكلّها ترجع إلى تغيّر الموضوع فيتغيّر الحكم ).
إذن
عرفنا هذا من حيث الروايات، وأمّا من حيث كلمات الأصحاب يمكن القول ب أنه لا توجد
إشارة إلى هذا المعنى.
وفي مقام تحقيق الحال نقول:- هناك حالات
ينبغي الاتفاق فيها على وجاهة تأثير الزمان والمكان وبكون ذلك خارجاً عن محلّ
الكلام، وهناك حالاتٌ أخرى على العكس تماماً - يعني الاتفاق على أنّه لا يمكن أن
تتغيّر بتغّير الزمان -، كما أنّ هناك حالات قابلة للأخذ والعطاء والردّ والبدل.