الموضوع:- تتمّة قاعدة دوران الأحكام مدار الأسماء والعناوين، قاعدة إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال -
قواعد وفوائد.
ومن هذا القبيل:- الحديث الشريف الذي يقول:-
( إن أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجلٌ - رجلاً - أقر نطفته
في رحمٍ يحرم عليه ) [1]، إنَّ هذا الحديث أذا اردنا
أن نلاحظ مدلوله المطابقي من دون أن نتصرف وفق القرائن فإنَّ المستفاد منه هو أنّ إقرار
النطفة في رحم الأجنبيّة حرامٌ فاذا أخذ شخص نطفته - أي الحيمن - ووضعها في رحم امرأة
أجنبية فهذا أشد الناس عذاباً وهو حرامٌ، وبناءً على هذا التفسير فسوف يثبت أنَّ التلقيح
الصناعي حرام.
نعم
إذا لم يصدق عنوان النطفة كما إذا فرض أنّ التلقيح حصل في الخارج وبعد ذلك وضعت البويضة
المخصّبة في رحم المرأة الأجنبية هذا لا يصدق عليه أنه أقرّ نطفته - يعني الحيمن -
وإنما يصدق أنّه أقر البويضة المخصّبة وهي لا يصدق عليها عنوان النطفة.
فبناء
على هذا نفصّل ونقول:- هناك فرقٌ بين أن يصير التلقيح في الخارج ثم نضع البويضة المخصّبة
في رحم امرأة أجنبية فهذا لا يصدق الحديث عليه، وبين ما إذا فرض أنَّ النطفة وضعت
ابتداءً في رحم المرأة من دون تلقيح البويضة به خارجاً فهذا يشمله الحديث فلا يجوز، فلعلّ البعض يفرّق بهذا الشكل.
ولكن
يمكن أن يقال:- إنّ هذا الحديث أجنبي عن كلّ هذا المعنى بل هو كناية عن الزنى فهو يريد
أن يحرّم الزنى فـأشدّ الناس عذاباً هو الزاني ولكن عبّر عن الزاني بهذا التعبير لأن
الزاني عادةً يضع نطفيته في رحم الغير، فهو لا يقصد هذا العنوان بما هو عنوان بل يقصد
الشيء المغاير وهو الزنى لأن الزنى عنوانٌ مغاير لعنوان إقرار النطفة في رحم الغير، وعلى هذا الأساس نخرج عن هذا العنوان ولا نتقيّد به خلافاً لذلك لرأي الفقهي الذي
أشرنا إليه.
والنتيجة
بناءً على هذا نقول:- إنّه كناية عن الزنا، وحينئذٍ لا مانع من أخذ الحيمن ووضعه في
رحم امرأة أجنبية بمقتضى الحديث.
نعم
إذا أردنا ان نتوقّف ونستشكل فذلك من جهاتٍ أخرى لا تستند إلى هذا الحديث، فقل مثلاً
هناك ارتكازٌ متشرّعي على أنّ عمليّة التناسل لابد وأن تصير من خلال زوجين لا من خلال
وضع حيمن الرجل في رحم المرأة فإن هذا العمل يرفضه الارتكاز المتشرّعي أشدّ الرفض.
واذا
رفضنا هذا الارتكاز أيضا يبقى جائزاً على أصل البراءة، نعم أنا كفقيه قد أتوقّف من
الفتوى بالجواز لأنّ هذا يستوجب فتح أبواب واسعة قد لا يحمد عقباها، فعلى هذا الأساس
نقول الأحوط وجوباً عدم الجواز . وهذا من الأمثلة التي وإن انصب الحكم في الرواية على
العنوان ولكن المقصود عنوان مغاير.
ومن هذا القبيل:- قوله تعالى:-
﴿
والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن
ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ﴾ ، فالآية الكريمة وصفت المؤمنين
وقالت:-
﴿ والذين هم لفروجهم حافظون ﴾
فقد يستدلّ بها البعض على وجوب ستر العورة لأنّه يوجد في الفقه كلام في أنّه هل
يجب ستر العورة عن الأجنبي - يعني غير الزوج والزوجة - أو لا .
فهل يمكن أن نسوق هذا كدليلٍ أو لا ؟قد يقال:- إنَّ هذا دليل لأنّ الآية الكريمة قالت:-
﴿ والذين هم لفروجهم حافظون ﴾ يعني
وهم لفروجهم حافظون عن نظر الأجنبي فهذا متعلّقٌ محذوفٌ يدلّ على العموم، أو أنَّ
هذا أثرٌ ظاهرٌ، فحينئذٍ الآية الكريمة تدلّ على وجوب ستر العورة عن الأجنبي.
قلنا:- إنّ الآية الكريمة إذا لاحظناها وحدها لا نستفيد منها
الوجوب لأنها تلتئم مع الرجحان والاستحباب أيضا فلعلّ هذه صفة ليست لازمة بل راجحة، ولكن حينما قالت:-
﴿ فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك
هم العادون ﴾ فهذه نستفيد منها اللزوم، يعني أنّ الذي يتجاوز هذه الأمور
التي بيّناها فهو عادٍ - يعني متجاوز على الشرع -.
الجواب:- يمكن أن يقال إنَّ الآية الكريمة أجنبيّة عن هذا المطلب
تماماً فهي كناية عن حفظ الفرج من الزنى يعني لا يتصرّف في فرجها إلّا زوج واحد، فهذا
العنوان قد استعمل ولكنّ المقصود ليس معناه المطابقي بل المعنى الكنائي.
وعلى
هذه الأساس لا يمكن التمسّك بهذه الآية الكريمة ولا بالحديث لإثبات وجوب التستر.
ولكن من باب الكلام يجرّ الكلام ربما يقول قائل:- إنَّ
ما ذكرته من أنّ المقصود من الأوّل الكناية عن الزنى والثاني - أي الآية الكريمة -
الكناية عن الزنى لطيفٌ ولكن مجرّد اللطافة لا تصلح سنداً علميّاً فكيف تثبت أنّ المقصود
هو هذا وعلى هذا الأساس نتساير مع العنوان المغاير لا مع العنوان المذكور في الآية
أو الرواية لأنّك لم تثبت لنا أنّ العنوان المغاير هو المقصود حتماً وإنما هذا الذي
ذكرته هو مجرّد احتمالٌ لطيفٌ وهو لا ينفع في باب القضايا العلميّة ؟
والجواب:- إنّ هذا الاحتمال الذي ذكرناه مادام وجيهاً
عرفاً فلا يعود للكلام ظهورٌ في إرادة المعنى المطابقي، فلا يمكن أن نتساير مع المعنى
المطابقي فيعود الكلام مجملاً - أي الآية والرواية - من هذه الناحية.
إذن
ثبت أنّه لا يمكن أن يستدلّ بهذه الآية على وجوب الستر وبتلك الرواية على حرمة التلقيح
الصناعي مادام كلّ واحدٍ من الاحتمالين وجيهٌ بحدٍّ واحدٍ، فحينئذ يصير إجمالٌ في
النصّ.
القاعدة الثالثة عشرة:- إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.
هذه
القاعدة من القواعد التي تداولها لسان أهل العلم وليس لها مدرك من آية أو رواية فهل
هذه هي مقبولة او لا ؟
والجواب:- إنّ هذه القاعدة لا يمكن أن نقول هي
مقبولة بعرضها العريض كما لا يمكن أن نقول هي مرفوضة بل هي مقبولة في مجالٍ
ومرفوضة في آخر.
أما المجال الذي تكون فيه مرفوضة:- هو ما إذا فرض
أنّ الاحتمال جاءنا وكان موجوداً في مقابل حجّة شرعيّة فهذا الاحتمال المخالف لا يقف
أمام الحجة الشرعيّة ولا يمكن تطبيق هذه القاعدة لأنّه توجد حجّة شرعيّة، كما هو الحال
في باب الظهور فإن الكلام إذا كان ظاهراً في معنىً معيّن فيوجد حتماً احتمالٌ مخالفٌ
وإلا صار المورد من الصريح والنصّ دون الظاهر فلازم الظاهر وجود احتمالٍ مخالفٍ ولكن
هذا الاحتمال لا يُعار له أهمّية لوجود حجّة شرعيّة وهو الظهور.
ومن
هذا القبيل ما إذا جاءنا خبر الثقة وشهد أن هذا الشيء نجس أو أنَّ الوقت قد دخل أو
شهد بأنّه رأى الهلال وغير ذلك فهنا يوجد احتمالٌ مخالفٌ ففي رؤية الهلال نقول
يحتمل أنّه مشتبه برؤية الهلال فهذا الاحتمال موجودٌ وإلا لحصل لنا القطع، ولكن هذا
الاحتمال لا يضرّ بالاستدلال.
إذن ننتهي إلى أنّ هذه القاعدة مرفوضة فيما
إذا فرض أنّ الاحتمال كان في مقابل الحجّة الشرعيّة.
وأما المجال الذي تكون فيه مقبولة:- فهو متعدّد، ومن
جملة موارد قبول هذه القاعدة ما إذا فرض أنّ المورد كان بحاجة إلى تحصيل القطع كما
هو الحال في باب السيرة فالسيرة على حجيّة خبر الثقة مثلاً فهي منعقدة جزماً ولكنها
ليست حجّة إلا أن يثبت الإمضاء والإمضاء يستفاد من عدم الردع ولكن بشكلٍ يلزم أن نحصّل
القطع بالإمضاء وليس الظنّ بالإمضاء.
وربما
يقال:- إنّه يوجد ما يردع عن هذه السيرة وهو مثل رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله
عليه السلام:-
( كلّ شيءٍ لك حلال حتى تعرف أنّه حرامٌ بعينه
فتدعه من قِبَل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة والمملوك عندك لعلّه
حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع فقهراً أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك والأشياء كلّها
هكذا حتى يتبيّن لك غير ذلك أو تقوم به البينة )[2].
إنّ
هذه الرواية يمكن التمسّك بها في عدّة مجالات فيمكن أن نستشهد بها على قاعدة الحلّية
حيث قالت:-
( كلّ شيء هو لك حلال حتى تعرف أنه حرام ) ،
ويمكن أن نتشهد بها على حجّية البيّنة لأن الإمام عليه السلام قال:-
( أو تقوم به البيّنة ) ، ويمكن أن نستشهد بها في موردنا
فإنّ قوله عليه لسلام:- ( أو تقوم به البيّنة ) يدلّ على أنّ الحجيّة تعود إلى البيّنة
أما خبر الثقة الواحد فليس بحجّة فتكون السيرة العقلائية على الأخذ بخبر الثقة مردوعة
بهذه الرواية لأنّ هذه الرواية جعلت المدار على البيّنة - يعني أنَّ خبر الثقة لا يجدي
- وإلا إذا كان خبر الثقة يجدي لكان من المناسب أن يقول ( الثقة ) ولا يقول ( البينة
) لأنها اثنين لأنّه عندما قال الامام اثنين يعني أنَّ الواحد لا يكفي فتكون هذه الرواية
رادعة عن السيرة، وعلى هذا الأساس لا يمكن التمسّك بالسيرة لاحتمال أنَّ هذه الرواية
رادعة عنها.