الموضوع:- حذف المتعلق دليل العموم -
قواعد وفوائد.
المورد الثاني:- باب العادات والسير.
فإنا
وإن ذكرنا سابقاً بأنّا نرجع إلى العرف في هذا المجال ولكن اشترطنا إمضاء الشرع
لتلك العادة والسيرة بأن تكون العادة أو السيرة حاصلة في زمان المعصوم عليه السلام
حتى يكون سكوته كاشفاً عن الامضاء، وأمّا إذا احتمالنا أنّها سيرة جديدة حدثت بعد
زمان المعصوم - ويكفينا الاحتمال - فلا يجوز الرجوع إليها والتمسّك بها، والنكتة
واضحة حيث إنّ السيرة بما هي سيرة ليست حجّة وإنما الحجيّة تعود إلى الإمضاء وشرط
الإمضاء هو المعاصرة لعهد المعصوم عليه السلام.
ويترتّب
على هذا أنّه لا يمكن أن نستند إلى السيرة على معاملة الأطفال فإنّه لا يصح بيع
الصبي لعدم الدليل على صحّة بيعه.
وإذا
قلت:- إنّ السيرة موجودةٌ الآن على معاملة الصبي.
قلت:-
من المحتمل إنّ هذه السيرة حدثت بعد عهد المعصوم ولا نجزم بأنّها حادثة في زمانه.
وهكذا
بالنسبة إلى البيع المعاطاتي في مقابل البيع اللفظي فلا يمكن إثبات حجّيته بالسيرة
إذ من قال إنّ البيوع التي كانت في عهد المعصوم كانت تجري بالمعاطاة، نعم إذا أثبتَّ
بالقرائن ذلك وحصّلت الجزم والاطمئنان فلا مشكلة ولكن إذا لم يحصل عندنا اطمئنان
أو جزم بأنّ المعاطاة كانت قضيّة معهودة في زمن المعصوم فيشكل حينئذٍ الاستناد
لإثبات مشروعيتها بالتمسّك بالسيرة على المعاملات المعاطاتيّة.
وهذه
قضيّة يبغي الالتفات إليها:- وهي أنّ كلّ سيرة يحتمل أنها تجدّدت بعد عهد المعصوم
لا يجوز التمسّك بها لإثبات الشرعيّة، أمّا أنْ تتمسّك بها لا لإثبات الشرعية فقد
تقدم أنّه جائز، يعني نتمسّك بها لإثبات الشرط الضمني فهي سيرة قد حدثت بعد عهد
المعصوم ونريد التمسّك بها لإثبات الشرط الضمني فهذا تنقيحٌ لصغرى الشرط الضمني ولا
مشكلة فيه كما إذا فرضنا أنّه صار عرفٌ عند أهل التجارة بأنّ الشخص إذا استأجر
المحلّ فلا يجوز لصاحب الملك أن يخرجه من دون رضا من أستأجره ولو بسبب قانون
الدولة الذي صار عرفاً وصار شرطاً ضمنيّاً، فهذا نرجع إليه رغم أنّه حصل بعد زمن
المعصوم ولا مشكلة فيه وذلك لأنّه ينقّح لنا صغرى الشرط الضمني .
إنما
كلامنا هو في السيرة والأعرف التي نريد أن نثبت من خلالها رضا الشارع وإمضائه وهذا
لا يصحّ إلّا إذا جزمنا بأنها كانت ثابتة في عهد المعصوم.
المورد الثالث:- بعض الموضوعات الخاصة، فإنه لا يجوز إثبات
حال الموضوع من خلال نظر العرف.
من
قبيل البويضة التي تؤخذ من المرأة وتلقّح بحيمن الرجل ثم توضع بعد ذلك في رحم
المرأة فلمن يكون الطفل ؟ والمفروض أنَّ كلامنا أنّ هذا لم يكن بين الزوجين أمّا
لو كان بين الزوجين ووضعت البويضة بعد التلقيح في رحم الزوجة فلا إشكال في أن هذا
الطفل هو لهما وهذا خارج عن محلّ الكلام، ولكن كلامنا فيما ما إذا وضعت البويضة
الملقّحة في رحم امرأة أخرى أو في رحم نفس الزوجة ولكن البويضة لم تكن منها فالأم
من هي ؟
قد
يجب شخص ويقول:- إنَّ الام هي هذه أو تلك.
فنقول
له:- إنّ كلامك لا عبرة به فإنّ هذا تشخيصُ موضوعٍ خارجيّ وفي تشخيص الموضوع
الخارجي لا يرجع إلى العرف.
نعم
بإمكانك أن تجعل العرف مرجعاً في تعيين المفهوم فتقول قد ورد عندنا في القرآن
الكريم كلمة الأم ورُتّب الحكم على هذا العنوان في النصوص الشرعيّة فنرجع إلى
العرف في تحديد عنوان الأم فهل الأم هي من ولدت الطفل من رحمها أو من كان الطفل
جزءاً منها ؟ فإذا قال العرف هي من ولدته فهذا لا بأس به فإنّه رجوعٌ إليه في
المفهوم ونقول آنذاك إنّ هذا الطفل لمن ولدته - أي التي وضعت هذه البويضة في رحمها
- وإن لم تكن منها ولكن بالتالي هي التي ولدته، فنرجع إلى العرف في تحديد المفهوم
وبالتالي نحكم بأنّ الأم هي هذه المرأة، ولكن هذا صار رجوعاً إلى العرف لا لتحديد
الموضوع الخارجي بل لتحديد المفهوم وهو لا بأس به.
وعلى
هذا المنوال توجد أمثلة كثيرة من قبيل أن يضع شخص أموالاً في البنك بهدف الإيداع
والحفظ - ولم يضعها بداعي الأرباح - ولكن نفترض أنّ هذه الأموال لم تكن ملكاً له
بل هي وديعة عنده من قبل شخصٍ آخر وعندما وضعها الأوّل في البنك فقد وضعها باسمه
والبنك أعطى فوائد فالفوائد تكون لأي منهما ؟
قد
يقول شخص:- بما أنّي عرفٌ فأقول إنَّ الأنسب أن تكون لهذا أو لذاك.
فنقول
له:- إنّ العرف لا نرجع إليه هنا، فإن نظره هنا لا دليل على حجّيته.
وواضح
أنّه في هذا المورد تارةً يكون البنك أهلياً وأخرى يكون وحكومياً، فإن كان حكوميّاً
فماله مجهول المالك ومجهول المالك يصير ملكاً لأيّ شخصٍ يضع يده عليه، ولكن الحاكم
الشرعي لا يتمكّن أن يقول بذلك بل يقول لابد من إجازة الحاكم الشرعي، ولا تطالبي
بدليلٍ على ذلك فقد تكون هناك رواية – وهي واردة في مجهول المالك - ولكن حتى لو لم
يكن هناك دليل نقول يعتبر إذن الحاكم الشرعي لحفظ النظام، والحاكم الشرعي يقول في
مثل هذه الحالة أنّه يلزم العمل حسب القانون الذي وضعه البنك حتى نحفظ النظام، فإذا
كان قانون البنك يقول ( أنا أعطي الفائدة لمن سُجّل المال المودع باسمه أمّا أنّه
مالك واقعاً أو ليس بمالكٍ واقعاً فلا ربط لي بذلك ) والحاكم الشرعي قد يمضي هذا
المقدار وبه ينحلّ النزاع . فنأخذ بنظره هنا من باب حلّ الخصومة.
وإذا
فرضنا أنّه كان أهلياً فهو يستطيع أنّ يقول ( أنا أعطيه لأيّ واحدٍ منهما ) ونأخذ
بنظره من باب أنّه الصاحب الشرعي فنظره هو الفيصل الواقعي لا أنّه لأجل أن لا تقع
خصومة.
والمقصود
أنّه في مثل هذه الأمور لا نرجع إلى العرف لعدم الدليل على مرجعيّته في هذه الأمور
كما أوضحنا.
وهذه
الموارد التي ذكرناها هي لا من باب الحصر بل من باب المثال ولعله بالتأمل وبالسير
الفقهي يُعثَر على موارد أخرى، وهكذا موارد عدم الرجوع.
القاعدة الحادية عشر:- حذف المتعلّق دليل العموم.
وفي البداية نلفت النظر إلى قضيّة جانبية:- وهي أنّه هل
المناسب التعبير بالمتعلَّق - بفتح اللام - أو بالمتعلِّق - أي بكسر اللام - ؟
ربما يقال:- المناسب هو بالكسر دون الفتح وهذا غلطٌ
شائع، فمثلاً قوله تعالى
﴿ وأنزلنا لكم من
السماء ماءً طهوراً ﴾[1]فلماذا هو طهورٌ ؟ هل هو طهورٌ للملابس أو للإنسان أو للأرض ؟ فهذا المحذوف
- أي الأرض أو الملابس - هل هو متعلِّق أو متعلَّق ؟ إنّه متعلِّقٌ بالطهور حيث
قالت الآية الكريمة
﴿ وأنزلنا لكم من السماء
ماءً طهوراً ﴾ فالجار والمجرور - وهو ( لكم ) – متعلِّقٌ بطهور.
ولكن في المقابل يمكن أن يقال:- إنّه لابد من
التفصيل بين الموارد، ففي بعض الموارد المناسب أن يعبّر بالمتعلِّق كما في هذا
المورد، وفي بعض الموارد الأخرى المناسب أن يعبّر بالمتعلَّق من قبيل
﴿ حرّمت عليكم أمهاتكم ﴾[2]فمتعلّق التحريم ما هو ؟ إنّه إمّا النظر أو النكاح أو ما شاكل ذلك والنظر
والنكاح ليس متعلِّقاً - فهو ليس جاراً ومجروراً وليس ظرف - وإنما هو متعلَّق
التحريم، فالتحريم لابد وأن يقع على فعلٍ، فحُذِفَ متعلَّق التحريم وليس متعلِّقه.
إذن
ربما يفصّل بهذا التفصيل وهذه قضيّة جانبية ليست مهمّة.
ولابد
من الالتفات أيضاً إلى أنّ هذه القاعدة تتمّ فيما إذا فرض أنّه لم يكن هناك أثرٌ
ظاهر، أمّا إذا فرض وجود أثرٍ ظاهر في البين فأستبعد أنهم يقولون في مثل هذا
المورد من أنّ حذف المتعلّق يدلّ على العموم، مثل
﴿
حرمت عليكم أمهاتكم ﴾ فإن الأثر الظاهر مثلاً هو نكاح الأمّهات أو
ما يرتبط بذلك ففي مثل هذه الحالة لا نقول إنّ حذف المتعلّق يدلّ على العموم.
والذي أريد أن أقوله:- هو إنّه من المناسب
أن نخصِّص هذه القاعدة بالمورد الذي لا يوجد فيه أثرٌ ظاهر، وأما إذا كان يوجد أثر
ظاهر فمن البعيد أن يكون حذف المتعلق دالاً على العموم.
وما الفارق بين باب الإطلاق وبين باب حذف المتعلق يدلّ على العموم ؟ فإنّه
في الإطلاق يوجد حذف أيضاً والمحذوف هو القيد وبذلك صار المطلق ظاهراً في الإطلاق،
فما الفارق بين قاعدة حذف المتعلّق يدلّ على العموم وقاعدة الإطلاق، أو أنّ المطلق
ظاهرٌ في الإطلاق بعد الالتفات إلى أنّه في كليهما يوجد حذف ؟
والجواب:- إنّه في قاعدة حذف المتعلّق يوجد محذوفٌ
جزماً ومن دون افتراض المحذوف لا يتمّ الكلام، فمثلاً قوله تعالى:-
﴿ حرمت عليكم أمهاتكم ﴾ فإنه من دون
تقدير فعلٍ من الأفعال فسوف يكون الكلام ناقصاً لأنّ العين لا تقبل نسبة التحريم
إليها فالأحكام تتعلّق بالأفعال دون الأعيان، فلابد إذن من وجود محذوفٍ.
وهذا
بخلافه في باب الإطلاق فإنّه ليس من الحتم وجود محذوفٍ فيحتمل وجوده ويحتمل عدمه
إذ لو أريد الإطلاق فلا يوجد آنذاك محذوف ٌ، ولكن هذا فارقٌ جانبي.