الموضوع:- قاعدة مرجعية العرف -
قواعد وفوائد.
وهناك بعض الأمور المرتبطة بهذا الموضوع نشير إليها كما يلي:-الأمر الأوّل:- ذكرنا أنّه
قد يتمسّك بإطلاق روايات الاستصحاب لإثبات أصالة عدم النقل، ونحن أشكلنا وقلنا لو
كان الإطلاق ثابتاً فلا يمكن التمسّك به من باب أنّه يلزم محذور الأصل المثبت،
وكيف ذلك ؟ باعتبار أنّ الاستصحاب يثبت وحدة المعنى الموضوع له اللفظ وأنّ المعنى
واحدٌ ولم يتغيّر أمّا أنّ هذا اللفظ قد استعمل في هذا المعنى الواحد فهذا لا
يثبته الاستصحاب إلّا بضمّ ملازمة عقلية أو عرفيّة عاديّة، فبالتالي هي غير شرعيّة
فيلزم محذور الأصل المثبت.
إن قلت:- إنّ هذا وجيهٌ إذا
أجرينا الاستصحاب في المعنى الموضوع له وذلك بأن نقول إنَّ المعنى الموضوع له في
زماننا لصيغة ( اِفعل ) مثلاً هو الوجوب بقرينة التبادر وبالاستصحاب - أي الاستصحاب
القهقرائي - نثبت أنّ هذا المعنى الموضوع هو نفس المعنى الموضوع له - وهو الوجوب -
في زمان النبي صلى الله عليه وآله فالمعنى الموضوع له واحد، إنّه بناءً على هذا
يلزم محذور الأصل المثبت فإنّ الأثر الشرعي مترتّب على الاستعمال في هذا المعنى
الواحد لا على نفس وحدة المعنى.
ولكن لِـــمَ لا نجري الاستصحاب في المعنى المستعمل فيه دون المعنى
الموضوع له وذلك بأن نقول:- إنّ صيغة ( اِفعل ) تستعمل في زماننا في الوجوب وبالاستصحاب
يثبت أنّها تستعمل في الوجوب سابقاً أيضاً، فعلى هذا الأساس ثبت المعنى المستعمل
فيه من خلال الاستصحاب وبالتالي لا يلزم محذور الأصل المثبت.
قلت:- إنّ غاية ما يثبته
الاستصحاب هو أنّ المعنى المستعمل فيه في كِلا الزمانين واحدٌ أمّا أنّ المعصوم
عليه السلام أراد هذا المعنى المستعمل فيه الواحد فهذا لا يثبت إلّا بضم الملازمة، والأثر ليس مترتّباً على وحدة المعنى المستعمل فيه بل على إرادة المتكلّم الذي
صدر منه النصّ الشرعي على إرادة هذا المعنى المستعمل فيه الواحد، وكونه أراد هذا
المعنى المستعمل فيه ليس أثراً شرعيّاً لوحدة المعنى المستعمل فيه وإنما هو ثابتٌ
بالملازمة غير الشرعيّة فعاد المحذور كما هو.
إذن محذور أصل المثبت لا مناص عنه.
الأمر الثاني:- ذكرنا
فيما سبق أنّا نرجع إلى العرف في تحديد مفاهيم الألفاظ، وما هو الدليل على أنّه
يجوز الرجوع إلى العرف وأنه حجّة في هذا المجال ؟ لعلّه تمسّكنا بالسيرة، والآن
استدرك وأقول:- إنّ المناسب التمسّك بفكرة الظهور الحالي وذلك بأن يقال إنّ ظاهر
حال كلّ متكلمٍ أنّه قصد من اللفظ الصادر منه ما هو المفهوم والمتداول بين الناس
والعرف، والظهور الحالي حجّة كالظهور اللفظي من دون فرقٍ بينهما.
الأمر الثالث:- إنّ أصالة
عدم النقل التي مستندها كما اتضح الأمور الأربعة التي أشرنا إليها، فنحن نتمسّك
بها إذا لم يلُح من القرائن تغيّر المعنى، أمّا إذا كانت هناك بعض المؤشرات التي
تساعد على وجود تغيّرٍ في المعنى فلا يمكن التمسّك بأصالة عدم النقل فإنّ الوجوه
الأربعة التي ذكرناها ليست ذات إطلاقٍ لفظيّ حتى نتمسّك به بعرضه العريض وإنما هي تثبت
حجيّة أصالة عدم النقل في الجملة، ومادام لا يوجد إطلاق لفظيّ فالقدر المتيقّن
منها هو ما إذا لم تكن هناك قرائن تساعد على حصول التغيّر وإلا فسوف لا نتمسّك بأصالة
عدم النقل بعد فرض عدم وجود الإطلاق اللفظي، فمثلاً كلمة الظن في زماننا قد يفهم
منه شيءٌ في مقابل العلم كــنسبة 70% مقابل العلم الذي هو بنسبة 100% ولكن بعض
الاستعمالات القرآنية أو غير القرآنية قد تساعد على أنّ الظن يستعمل بمعنى العلم،
من قبيل قوله تعالى:-
﴿
الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ﴾[1] فهذه صفةٌ للمؤمنين ولا معنى للظن بمعناه المعروف وإنما المقصود من
الظن هنا هو العلم، أو من قبيل قوله تعالى:-
﴿ وظنوا ما لهم من محيص ﴾[2] فهذه صفة لغير المؤمنين يعني أنّه بعد ذلك سوف يتّضح لهم ويعلمون
أنّه ولا مفرّ من الله عزّ وجلّ لهم بل أحيط بهم وهنا من الوجيه أن يكون المقصود
من كلمة ( يظنون ) هو بمعنى يعلمون.
هكذا كلمة الشكّ فإنه لو رجعنا إلى كلمات اللغويين فإنهم يفسّرون
الشكّ ولا يخصصونه بحالة تساوي الطرفين، ومن هنا يقال إنّ روايات الاستصحاب
يستفاد منها جريان الاستصحاب حتى في موارد الظن بالبقاء أو عدم البقاء ولا يتوقّف
على الشكّ بمعنى التساوي بين الطرفين فإنّه وإن كانت الروايات قالت
( لا تنقض اليقين بالشك )
ولكن المقصود من الشك هو غير العلم فيصدق على الظنّ المصطلح عندنا اليوم وعلى الشك
فلا نتمسّك بأصالة عدم النقل في هذا المجال، وعلى هذا المنوال لعلّه توجد أمثلة
أخرى.
الأمر الرابع:- إنّ
الرجوع إلى العرف تارةً يكون لتحديد المدلول المطابقي للفظ وهذا هو الطابع العام
في الرجوع إلى العرف فصيغة ( اِفعل ) مثلاً يفهم منها العرف الوجوب فيرجع إليه في
ذلك والوجوب يكون مدلولاً مطابقياً، وأخرى نرجع إليه لا لتحديد المدلول المطابقي
بل لتحديد المقصود أعمّ من كونه مدلولاً مطابقيّاً أو غير مطابقيّ من قبيل كلمة
الثوب الواردة في النصوص فلو قال النص ( اغسل ثوبك من ابوال ما لا يؤكل لحمه ) فإنّ
العرف يفهم من الثوب عموم الملبوس وإن كان هذا ليس مدلولاً مطابقيّاً للفظ الثوب
في اللغة فالثوب في اللغة ليس هو كلّ ملبوسٍ فالعباءة لا تسمّى ثوباً ولكن العرف
هنا لمناسبات الحكم والموضوع يفهم أنّ المقصود منها ذلك.
وهكذا بالنسبة إلى باب الإحرام فإنّه ورد أنّه يحرم على المحرِم خمسة
من أفراد الطيب وهي الزعفران والعود والورس والمسك والعنبر، وليس من البعيد أنا
لو رجعنا إلى العرف فإنّه يقول إنِّ الأمر لا يختصّ بهذا ففي زماننا قد حصلت عطور
أحسن من هذه الخمسة وليس من البعيد أنّ هذه الخمسة ذكرت من باب المثاليّة للأفراد
البارزة في تلك الفترة الزمنيّة فلو ظهرت أفرادٌ ثانية في فترةٍ زمنيةٍ أخرى
فحينئذٍ تكون مشمولةً للنصّ والعرف يقول إنّ المقصود هو هذا، وهذا رجوعٌ إلى
العرف ليس لتحديد المدلول المطابقي بل لتحديد المدلول الذي هو أوسع منه.
وإذا لم تقبل بهذا المثال فسوف نمثل بمثالٍ آخر وهو في باب السبق
والرماية فقد وردت روايات تدل على أن السبق يكون بالسهم والقوس أو بالسيف أو
بالخيل، وهذه الأمور ليست موجودة في زماننا وهل تحتمل أنّ قضية السبق والرماية قد
مضت وانتهت ؟!! كلّا لا يحتمل ذلك فإنّ قضيّة التدريب على الوسائل الحربية مطلوبٌ،
فعلى هذا الأساس يمكن أن يقال إنَّ هذه الأشياء ذكرت من باب كونها هي الأفراد
البارزة في تلك الفترة وأمّا في زماننا فلابد وأن يكون السبق في الوسائل الحاليّة
كالدبّابات وما شاكل ذلك، وهذا رجوعٌ إلى العرف ولكن لا لتحديد المدلول المطابقي.
الأمر الخامس:- يوجد كلام
لصاحب الحدائق(قده) في حدائقه يظهر منه عدم قبول مرجعيّة العرف وقد ذكر هذا في
مسألة أنّ المحرِم إذا قتل حمامةً في الحلّ فقد دلّت الرواية أنّ عليه شاة، وقد
وقع كلامٌ بين الفقهاء بأنّه ماذا يقصد من الحمامة فهل المقصود منها ما كان له
هدير
[3]
ويعبّ
[4] الماء، أو أنّ المقصود هو ما
كان لها طوقٌ في عنقها، أو نقول ما كان يوجد فيه أحد هذين الأمرين ؟
وفي هذا المجال ذكر صاحب المدارك(قده) كلاماً فقال:- نحن نترك ما ذهب إليه أهل اللغة ونذهب إلى العرف فما صدق عليه أنّه
حمامة فنأخذ به وإذا لم يصدق عليه فنتركه، فرجع إلى العرف في هذه المسألة.
وعلق صاحب الحدائق وقال يرد عليه:-أولاً:- إنّ العرف قد يختلف
باختلاف الأقاليم فقد يقول بعضهم أنّ هذا حمامة وأمّا البعض الآخر فيقول هذا ليس
بحمامة ولا يمكن أن نحوّل أحكام الشارع التي هي منضبطة على العرف الذي هو مختلفٌ
وغير منضبط فلا نرجع إلى العرف.
ثانياً:- لو تنزّلنا وافترضنا
أنّ العرف متّفقٌ ولكن مع ذلك لا نرجع إليه لأنّ المدار على عرف عصر الأئمة عليهم
السلام وليس على عرفنا في هذا الزمان، وحينئذٍ إن عرفنا عرفهم أخذنا به وإن لم
نعرفه فلابد وأن نأخذ بالاحتياط.
والمهمّ ما ذكره في الردّ الأوّل فإنّه ذكر أنّ العرف لا نرجع إليه،
وهو وإنْ ذكره في هذا المورد ولكن يمكن أن نقول إنَّ هذا كلام سيّال منه(قده) يسري
في جميع الموارد . فصاحب المدارك(قده) قال نرجع إلى العرف إن لم يظهر من أهل اللغة
ما يخالف ذلك، وهو قال لا نرجع إلى العرف، ونصّ عبارة صاحب الحدائق(قده):-
( وقال سبطه في المدارك ... والذي تقتضيه القواعد وجوب الحمل على
المعنى العرفي إن لم يثبت اللغوي[5].... أقول:- فيه أولاً ....
العرف لا انضباط له .... فلكلّ إقليم عرفٌ يعمل أهله عليه .... والأحكام الشرعيّة
أمورٌ مضبوطة معيّنة لا تغيّر فيها ..... وثانياً إنّ المستفاد من الأخبار..... أنّه
يجب الرجوع في كلّ حكم حكم إلى عرفهم عليهم السلام وما ورد عنهم عليهم السلام فإنْ
ثبت هناك شيء ... وإلا وجب الوقوف على ساحل الاحتياط )
[6].