الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

36/05/18

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- حرمة التسبيب إلى الحرام -  قواعد وفوائد.
القاعدة الخامسة:- حرمة التسبيب إلى الحرام.
ذكر السيد الخوئي(قده) أنّ فعل الحرام محرّمٌ كشرب الماء المتنجّس والتسبيب إليه محرّم أيضاً فأنا كما يحرم عليّ أن أشرب الماء المتنجّس يحرم عليّ أن أسبّب إلى ذلك بأن أدفع الماء المتنجّس إلى ضيفٍ وهو لا يعلم بذلك.
وإذا سألناه وقلنا:- صحيحٌ أن أشربه أنا حرام ولكن لماذا يحرم تقديمه إلى الغير فما هو الدليل ؟ يقول:- إني كعرفٍ أفهم من نفس ( لا تشرب النجس ) أنّه لا تشربه أنت ولا تسبّب إلى شربه بتقديمه إلى جاهل.
وإذا قبلنا بهذا المطلب فهذا معناه أنَّ حرمة التسبيب إلى الحرام حرامٌ كمباشرة الحرام.
وقبل أن نذكر دليله على ذلك نقدّم توضيحاً:- وهو أنّ الجاهل تارةً يفترض أنّه لا حكم في حقّه وإنما يختصّ الحكم بالعالم - من دون أن يلزم محذور التصويب -، وأخرى نفترض أنّ الحكم لا يختصّ بالعالم بل يعمّ العالم والجاهل واقعاً، ومثال الأوّل الصلاة في النجاسة المجهولة فإنّ من جهل أنّ عباءته متنجّسة فالروايات قد دلّت على أنّه إذا التفت بعد الصلاة فصلاته صحيحة فالعلم بالنجاسة أخذ في موضوع بطلان الصلاة فتبطل الصلاة إذا كان هناك علمٌ بنجاسة الثوب فالحكم بالبطلان يختصّ بالعالم بالنجاسة ولا يلزم محذور التصويب واختصاص الأحكام بالعالمين لأنّه هنا العلم بموضوعٍ قد أخذ موضوعاً لحكمٍ آخر فالعلم بالنجاسة أخذ موضوعاً للحكم ببطلان الصلاة فالصلاة باطلة إذا علم بنجاسة الثوب وهذا ليس فيه محذور التصويب واختصاص الأحكام بالعالمين.
وإذا فرضنا أنّ الحكم من هذا القبيل فحينئذٍ لا يكون التسبيب إليه محرّماً، فلو جاء ضيفٌ واراد الصلاة فقدّمتُ له ثوباً متنجّساً فهذا لا محذور فيه إذ لا تسبيب للحرام والباطل لأنّ صلاته سوف تكون صحيحة، وهذا خارجٌ عن محلّ الكلام.
وإنما الكلام في أن أقدم له عصيراً متنجّساً وحرمة العصير المتنجّس لم يؤخذ في موضوعها العلم بخلاف بطلان الصلاة  فالحرمة ثابتة واقعاً، نعم لا يوجد تنجّز مادام الشخص جاهلاً  لا أنه لا حرمة في حقّه.
فهنا هل التسبيب إلى الحرام حرام أو لا ؟
قال السيد الخوئي(قده) لا يجوز التسبيب إلى الحرام لوجوهٍ ثلاثة:-
الوجه الأوّل[1]:- الفهم العرفي، فلو قيل لشخصٍ ( لا يدخل عليّ أحد هذا اليوم ) فكما لا يجوز لهذا الشخص أن يدخل كذلك لا يجوز له أن يسبّب الدخول لشخصٍ آخر.
وبكلمة أخرى:- العرف يفهم من ( لا تشرب النجس ) مثلاً يعني لا تشربه مباشرةً ولا تشربه بنحو التسبيب، فانتساب الشرب إليك مباشرةً بأن تشربه أنت أو تسبيباً بأن تقدمه الآخر يفهم العرف حرمته - أي الايجاد التسبيبي والايجاد المباشري -.
الوجه الثاني[2]:- إنّ هذا الإنسان الذي يجهل أنّ هذا محرّم ومتنجّس لم ترتفع الحرمة عنه واقعاً فإن حديث الرفع يرفع التنجّز ولا يرفع الحكم من الأساس إذ لو كان يرفعه من الاساس لزم من ذلك اختصاص الأحكام بالعالمين وهذا باطل لأنّه تصويب فهو يرفع التنجّز فالحرمة والمبغوضيّة موجودة والغرض المولويّ موجودٌ وأنت بتقديمك الطعام المتنجّس إلى الجاهل تكون قد فوّت غرض المولى وتفويت غرض المولى قبيحٌ عقلاً ومحرّمٌ شرعاً.
الوجه الثالث[3]:- إنّه قد ورد في بعض الروايات أنّه لابدّ من إعلام المشتري في بيع الطعام المتنجّس - كالدهن المتنجّس - حيث ورد في الرواية:- ( بعه وبينه لمن اشتراه ليستصبح به )[4]، وعلى منواله أحاديث أخرى بهذا المضمون في نفس الباب، فقول الإمام عليه السلام ( وبينه لمن اشتراه ) نستفيد منه أنّ التسبيب حرامٌ، فإذا لم يبيّن صار تسبيباً.
ولكنه(قده) ذكره بنحو المؤيد لأجل أنّه قد يقول قائل إنّ هذه قضيّة خاصّة بالمورد ولا يمكن أن نستفيد منها هذا العنوان العام - وهو أنّ التسبيب إلى الحرام حرامٌ بشكله  الكلّي -.
 وفيه:-
أما بالنسبة إلى الوجه الأوّل فنقول:- هو(قده) استشهد بمثال ( لا يدخل عليّ أحد ) وهذا المثال له خصوصيّة فالعرف يفهم في هذا المثال أنّ المولى متعبٌ هذا اليوم ولا يريد أن يدخل عليه أحد بالمباشرة أو بالتسبيب، ولو غيرنا المثال بمثالٍ آخر كما لو قيل ( لا تشرب النجس ) فلا نسلّم أنّ المفهوم منه أنّه لا تشرب بالمباشرة ولا تسبّب فإنّ هذا ليس واضحاً لأنّ ( لا تشرب ) على مَن نطبّقه ؟ فهل نطبّقه على المسبّب ونقول له ( لا تشرب ) ؟! والذي يتلاءم مع مقصوده هو هذا، وهذا خلاف الوجدان فإن المسبّب لا ينسب إليه الشرب عرفاً فلا يقال له شربت أو لا تشرب فهو بتسبيبه لا يقال أنّه شرب كما لا يقال له لا تشرب فإنّ ذلك ليس له معنىٍ حتى بنحو المجازيّة.
وإذا أراد أن يطبّقه على المباشر يعني أنّ المباشر يقال له عرفاً ( لا تشرب ) - وهذا أوجه من الأوّل وإن كان الأنسب لمقصوده هو الأوّل لأنّ الذي يمارس الشرب نقول له لا تشرب مادام سُبِّب إلى شربه - فجوابه واضح فإنّ ( لا تشرب ) ناظر إلى العالم الذي يريد أن يعصي أمّا الذي فرض أنّه ليس بعالمٍ ولا عصيان في حقّه فلا يكون مشمولاً بخطاب ( لا تشرب ) فإنّ المستفاد من ( لا تشرب ) العصيان للشرب والعصان للشرب إنّما يصدق في حقّ العالم وأمّا الجاهل فلا عصيان في حقّه.
ولا يبقى للسيد الخوئي(قده) أن يقول:- إني لا أطبّقه على المسبّب ولا أطبقه على المباشر وإنما يوجد شقّ ثالث - ولعل هذا هو مقصوده - وهو أنّه يُفهَم من ( لا تشرب ) أنّ الشرب مبغوضٌ مباشرةً وتسبيباً.
وهذا وجيه ولكن نقول:- هذا يفهم في بعض النواهي التي نحرز من الخارج مبغوضيتها المطلقة كالدماء ولعلّه يلحق بها الزنا وما شاكل ذلك، فهذه الأمور التي تُعلَم مبغوضيتها المطلقة فالتسبيب إليها يكون مبغوضاً كالمباشرة، أمّا التي لا يُعلَم من الخارج مبغوضيتها المطلقة كالماء المتنجّس فلا يأتي فيه هذا الكلام.
وأمّا ما أفاده في الوجه الثاني فيردّه:- أنّا نسلم بأنّ التسبيب إلى فعل المبغوض المنجّز والمحرّم المنجّز هو قبيحٌ، أمّا إذا لم  يكن منجّزاً فقبحه وحرمته أوّل الكلام باعتبار أنّ الشخص إذا كان جاهلاً بكون هذا نجساً فنفس الجهل يُضعِفُ من درجة الملاك إذ لو لم يُضعِف ويقلّل من درجته وكان الملاك باقياً على حاله لكان المناسب حالة الشك أن يجعل المولى على المكلف أصالة الاحتياط لا أصالة الطهارة، فيظهر أنّ الغرض ينقص حين الجهل، وعلى هذا الأساس تفويت مثل هذا الغرض الذي هو ليس بمنجّز والذي يرجع بالتالي إلى نقصانٍ في درجة الغرض لم يثبت أنّه قبيحٌ وإنّما القبيح هو تفويت الغرض الكامل.
وأما ما أفاده في الوجه الثالث:- فهو موارد خاصّة والخروج منها بقانونٍ عامّ شيءٌ مشكلٌ، فنحن نريد أن نستفيد أنّ التسبيب إلى الحرام على إطلاقه وبعرضه العريض حرامٌ، ونحن نقول:- إنّه في خصوص باب الأكل لا بأس بهذا فالروايات تفيد التعميم، أما في غير باب الأكل فالتسبيب إلى الحرام حرام شيءٌ مشكلٌ واستفادته من الروايات شيءٌ مشكل.


[1]  التنقيح في شرح العروة الوثقى، الخوئي، ج2، ص333، ط قديمة، ج2، ص277، ط جديدة.
   محاضرات في الفقه الجعفري، الخوئي، ج1، ص117.
[2]  موسوعة السيد الخوئي( مصباح الفقاهة)، الخوئي، تسلسل35، ص185.
[3]  وهذا قد ذكره بنحو المؤيد.
[4]  وسائل الشيعة، العاملي، ج17، ص98، ابواب ما يكتسب به، ب6، ح4، آل البيت.