الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول
36/05/10
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الرخصة المعلقة على عنوان وجودي - قواعد وفوائد.
ويرد على هذه الأدلة الثلاثة ما يلي:-
أما بالنسبة إلى الدليل الأوّل:- فنسلّم انعقاد السيرة العقلائية على لزوم الفحص ولكن قياس الشرعيات على هذا قياس مع الفارق ، ووجه الفرق هو أنّه في الشرعيات قد جعل الشرع لنا قاعدةً باسم قاعدة البراءة عن الشيء المشكوك والمجهول وهي ليست موجودة لدى العقلاء ، وحيث لا يوجد عند العقلاء مثل هذه القاعدة بل المولى يقول مثلاً ( أعط كلّ عالم من هذه البلدة ديناراً ) ولم يقرن ذلك بقوله ( ورفع عنك ما لا تعلم ) فمادام لم يقرن ذلك فيفهم منه عرفاً أنّه لابدّ وأن تفحص ولا يجوز لك أن تتمسّك بالبراءة ، وهذا بخلافه في الشرع فإنّه قد جعل البراءة فلا يلزم آنذاك الفحص لأنّ دليل البراءة مطلقٌ فنتمسّك به.
إنّ قلت:- إنه يوجد عند العقلاء ما يسمّى بالبراءة أعني قاعدة قبح العقاب بلا بيان فإنها قاعدة عقلائية ثابتة لدى العقلاء فلماذا تقول إنّ البراءة ثابتة شرعاً فقط ولم تثبت لدى العقلاء ؟
قلت:- إنّ البراءة الشرعيّة دليلٌ لفظيّ والأدلة اللفظية قابلة للتمسّك بإطلاقها ، فالمولى حينما قال:- ( رفع عن امتي ما لا يعلمون ) لم يقيّد بما بعد الفحص بل هو مطلقٌ فنتمسّك باطلاقه ، وهذا بخلافه بالنسبة إلى البراءة العقليّة فإنها ليست دليلاً لفظياً حتى يتمسّك بإطلاقه بل هي قضيّة عقليّة وعقلائيّة فنرجع إلى العقل والعقلاء والقدر المتيقن منها هو ما بعد الفحص أمّا ما قبل الفحص فثبوت هذه القاعدة أوّل الكلام.
وأمّا ما ذكره من الدليل الثاني فيردّه:- أنّه ما المقصود من لزوم المخالفة كثيراً ؟
فهل يراد أنّه لو لم أفحص أنا ولم يفحص غيري سوف يلزم مخالفة أحدنا حتماً فيحصل علم إجماليّ إمّا بمخالفتي أو بمخالفة غيري ؟
أو أنّ المقصود هو أنّي في حقّ نفسي يحصل لي العلم بالمخالفة الكثيرة بقطع النظر عن غيري ، يعني أنا سوف أعلم بأنّه قد خالفت إمّا في هذه السنة أو السنة الماضية أو في السنة التالية فالمخالفة موجودةٌ جزماً في إحدى السنوات أو نقول بصياغة أخرى وهي أني أعلم بالمخالفة الكثيرة إمّا من جهة الحجّ لو لم أفحص أو من جهة الخمس لو لم أفحص أو من جهةٍ أخرى ؟
فإن كان المقصود هو الأول فيردّه:- أنّ هذا علم إجماليّ مردّد بيني وبين غيري وأطرافه إمّا أنا أو غيري ومثل هذا العلم الإجمالي ليس منجّزاً فإنّ العلم الإجمالي إنما يكون منجّزاً فيما إذا ولّد علماً بالتكليف المتوجّه إليّ بأن علمت جزماً أنّه ثبت تكليفٌ في حقيّ ووجه منجزيّته واضحٌ وهو أني أعلم بوجود تكليفٍ ثابتٍ في حقّي غايته لا أدري هل اجتنب هذا الاناء أو ذاك فإنّ الأمر بالاجتناب قد توجّه إليّ وقيل ( يا فلان اجتنب الإناء النجس ) فإنا أعلم وأجزم بأنّ التكليف قد توجه إليّ فيصير هذا منجزاً لأنّه علمٌ بالتكليف ، وأما إذا علمت بأنّه إمّا أنه تنجست ملابسي أو ملابس غيري وذلك الشخص لا أصلّي خلفه جماعة أو غير ذلك فهو ليس محلّ ابتلائي من هذه الناحية فمثل هذا العلم الإجمالي مرجعه إلى الشك البدوي فصورةً هو علم إجمالي ولكن واقعاً هو شكّ بدوي لأني بالتالي لا أتمكن أن أقول أنا اجزم بأنه قد توجه إليّ هذا الحكم - وهو طهّر ملابسك أو بدك - ، نعم إنّي أعلم أنّه قد توجه التكليف إمّا لي أو لصاحبي وهذا مرجعه إلى الشكّ البدوي ، ولذلك في مسألة الثوب المشترك بين الصديقين إذا رأيا فيه قطعة منيّ لا يجب عليّ الغسل ولا عليه وسوف لا يلزم مخالفة علم إجمالي منجّز بالتكليف ، نعم إذا كان عادلاً وأنا أصلي خلفه جماعةً فسوف يتكوّن علم إجمالي بهذه الصورة وهي ( إن كنت الجنب فيجب عليك الغسل وإن كان صاحبك جنباً فلا يجوز أن تصلّي خلفه جماعة ) وسوف يتوجّه إليَّ التكليف ، أمّا إذا فرض أنَّ صاحبي لم يكن من هذا القبيل ففي مثل هذه الحالة سوف لا يصير علم إجماليّ بل يوجد شكّ بدوي.
ولكن قد يقال دفاعاً عن الشيخ الأنصاري(قده):- إنّه لا يريد أن يتمسّك بالعلم الإجمالي فهو لم يعبّر بالعلم الاجمالي حتى تقول إنّ هذا مرجعه إلى الشك البدوي بل يقول إنّ المخالفة الكثيرة بنفسها وبعنوانها بقطع النظر عن روح العلم الإجمالي نعلم بأنّها باطلة ويرفضها الشرع وإن كانت تلزم منّي أو تلزم من غيري.
وإذا كان هذا هو مقصوده فجوابه:- أنّه من أين لك أنّ المخالفة بهذا الشكل يوجد فيها محذورٌ وهي مبغوضة ؟! فإنّه لا دليل على أنّها بهذا الشكل مبغوضة شرعاً.
وإذا كان مقصوده هو الثاني:- فهذا شيءٌ وجيهٌ من حيث الكبرى وأنّه بالتالي يجب الفحص حتى يخرج الشيء عن الطرفيّة للعلم الإجمالي ولكن هذا معناه تشكّل علم إجماليّ بوجود المخالفة إمّا بنحو التدريجية أو بنحو العرضيّة ، فبالنسبة إلى الحج يكون بنحو التدريجية فهو إمّا في هذه السنة أو السنة الآتية أو السنة الماضية وهذه أطرافٌ تدريجيّةٌ ، وقد تكون دفعيّة كما إذا كنت أعلم أني خالفت في الحج أو في الخمس أو في شيءٍ آخر فهذه أطراف دفعيّة ، وهذا علمٌ إجمالي نسلّم به ويكون منجّزاً وهو شيءٌ صحيح ولكن من أين لك هذا العلم الإجمالي - صغرىً - فإنّ صغرى العلم الإجمالي ليست بثابتة ، كما لو فرضنا أنّ الشك كان في سنةٍ من السنين وشككت الآن هل أنَّ أموالي بمقدار الاستطاعة أو لا - فقد لا أشك في السنة الثانية ولا في السنة الثالثة بل شككت في هذه السنة - فحينئذٍ أين العلم الاجمالي حتى يجب الفحص وتلزم المخالفة ؟! ، وهكذا إذا لم أفحص أموالي بالنسبة إلى الخمس فمن قال أنه يوجد عندي أموال زائدة ؟! ، وكذلك مال الزكاة فلعلّه ليس موجوداً ؟!! فصغرى العلم الإجمالي ليست واضحة في كلّ الموارد ، نعم هي واضحة في بعض الموارد وفي حقّ بعض الأشخاص ولكن لا يمكن أن نعطي صيغةً عامّةً ونقول إذا لم تفحص فسوف تلزم المخالفة الكثيرة في حقك دائماً فإنّ هذا ليس بواضحٍ ، نعم قد يلزم في حقّ بعض الأشخاص وذاك نلتزم به أمّا الأشخاص الذين يوجد عندهم شكّ في الاستطاعة مثلاً كما أوضحنا فلا يلزم مثل ذلك ، فنحن نناقش صغروياً في أنّ هذا ليس بثابتٍ وإن كان لو تمّت الصغرى فالكبرى مسلّمة.
وأمّا ما ذكره من الدليل الثالث - والذي ذكره الميرزا القمّي -:- فيردّه عدم الفرق من هذه الناحية غايته إذا كان الشرط هو العلم بالاستطاعة لا الاستطاعة الواقعية فهنا نقول إنّه حيث إنّي لا أعلم بأنّي مستطيع فلا يجب عليّ الحجّ بلا حاجة إلى إجراء البراءة لأنّ شرط الوجوب هو العلم وأنا لا علم لي فلا جوب جزماً فالوجوب منفيٌّ جزماً بلا حاجة إلى البراءة ، وهذا بخلاف ما إذا كان الشرط هو الاستطاعة الواقعيّة فهنا أحتاج إلى إجراء البراءة لاحتمال أنّي مستطيع واقعاً وبالتالي احتمل ثبوت الوجوب واقعاً فتجري البراءة آنذاك عن وجوب الحجّ مثلاً.
إذن لا فرق بين ما إذا كان الشرط لوجوب الحجّ مثلاً هو العلم بالاستطاعة أو هو الاستطاعة الواقعيّة فعلى كِلا التقديرين لا يجب عليّ الفحص.
القاعدة الرابعة:- الرخصة المعلّقة على عنوانٍ وجودي.
ذكر الشيخ النائيني(قده) قاعدة وهي أنَّه ( متى ما كان لدينا حكم إلزامي أو ما هو ملزوم للحكم الإلزامي واستثني منه وحكم بالرخصة ولكن الرخصة توجهت إلى عنوانٍ وجوديّ فهنا لا تثبت الرخصة لدى العرف والعقلاء إلا إذا أُخرِزَ ذلك العنوان الوجودي ومع عدم الإحراز لا تثبت الرخصة فنتمسّك بعموم الحكم الإلزامي )[1] [2] ، ومثّل بمثالٍ فقال:- لو فرض أنّ المولى قال لعبدة ( لا تدخل عليّ اليوم أحداً إلا أصدقائي ) وجاءه شخصٌ فإن أحرز أنّه من أصدقائه فسيوف يدخله عليه وإن أحرز أنه ليس من أصدقائه فسوف يمنعه من الدخول ولكن لوشك واحتمل أنّه من أصدقائه فماذا يصنع ؟ قال الشيخ النائيني(قده):- إنّ العقلاء والعرف يقولون لا يجوز لك إثبات الرخصة والتمسّك بها إلا إذا أحرزت أنّه من الأصدقاء فمن دون إثبات الرخصة عليك أن تتمسّك بعموم الحكم الإلزامي - الذي هو ( لا تدخل عليَّ أحداً )-.
وأمّا مثال ملزوم - أو ملازم - الحكم الالزامي فهو مثل ( كلّ ماءٍ إذا لاقى النجاسة ينجّس إلّا إذا كان بمقدار كرّ فيجوز لك أن تطبّق الطهارة السابقة عليه ) ، فالنجاسة ليست حكماً تكليفيّاً إلزاميّاً بل هي حكم وضعيّ ولكنها علّة لحكمٍ إلزاميّ وهو حرمة التناول وغيرها واستثني من ذلك حكمً ترخيصيّ وقيل ( ألا إذا كان كرّاً فيجوز لك أن تطبق الطهارة السابقة عليه ) فلو فرض أنّه كان يوجد عندي ماء لا أعلم أنه كرّ أو لا ولاقته نجاسة جزماً فهل نحكم بطهارته - أي بالرخصة - أو لا ؟ قال(قده):- كلّا لأنّك مادمت لا تعلم بأنّه كرّ أو ليس بكرّ فلا تستطيع تطبيق الرخصة بل لابد من تطبيق العموم الذي قال ( كلّ ماءٍ إذا لاقته نجاسة ينجس ).