الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

36/04/19

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- شرطية القدرة في متعلّق التكليف - مباحث الحكم.
وأما ما ذكره في المحذور الثاني - أعني جواز إزالة القدرة - فيردّه:- أنّ إزالة القدرة تارةً تكون قبل دخول وقت الواجب وقبل صيرورته فعليَّ الوجوب وأخرى يكون بعد ذلك، فعلى الأوّل نلتزم بجواز إزالة القدرة ولا محذور في ذلك كمن عنده ماءً يتمكن من الوضوء به لكنه يريقه قبل دخول الوقت فإنه لا بأس بذلك إذ قبل دخول الوقت هو ليس مكلفاً بالوضوء حتى لا تجوز له الإراقة وحينئذٍ لو أراقه فسوف يدخل عليه الوقت وهو عاجزٌ عن الوضوء فيتوجّه إليه الخطاب بالتيمم، إنّنا نلتزم بذلك ونقبله ولا محذور فيه مادامت إزالة القدرة قبل فعليّة الوجوب وقبل دخول وقت الواجب.
ومن هذا القبيل أن ينام المكلّف عمداً قبل صلاة الصبح بساعة أو بخمس دقائق مثلاً فإنّه يجوز له ذلك إذ قبل دخول الوقت لا وجوب في حقّه فالنوم حينئذٍ لا مشكلة فيه وحينما يدخل الوقت لا تكليف في حقّه لأنّ القلم مرفوع عنه حتى يستيقظ.
اللهم إلا أن يصدق عليه عنوان تضييع الصلاة، لأنّه قد يستفاد من بعض النصوص أن تضييع الصلاة محرّم أو بعض العناوين الأخرى من قبيل الآية الكريمة التي تقول:- ﴿ فخلف من بعدهم خلفٌ أضاعوا الصلاة ﴾ فربما يستفاد منها أنّ عنوان تضييع الصلاة عنوان محرّم، أو نقول إنّ عنوان المحافظة على الصلاة واجبٌ وهو بهذا الفعل سوف لا تصدق المحافظة كقوله تعالى:- ﴿ والذي هم على صلاتهم يحافظون ﴾، فإذا استفدنا أنّ عنوان الإضاعة لا يجوز أو أنّ عنوان المحافظة لازمٌ - من هذه النصوص أو من غيرها - فنقول إنَّ هذه الحالة لا تجوز.
وواضحٌ أنها لا تجوز إذا تكررت فهنا قد تصدق الإضاعة أو المحافظة، أمّا إذا فعل ذلك مرّة أو مرّتين فيمكن أن يناقش في صدق الإضاعة والمحافظة . فالمقصود أنّه بمقتضى القاعدة لولا هذه العناوين الأخرى إن ثبتت نلتزم بأنّه تجوز إراقة الماء أو النوم  قبل دخول الوقت.
وأمّا على الثاني - أي بعد دخول الوقت - فنلتزم بعدم جواز ذلك من باب أنّ الخطاب وإن سقط لأنّه فاقدٌ للقدرة الآن فإنّه بعد إراقة الماء داخل الوقت يسقط خطاب توضأ وإذا نام فخطاب ( صلِّ ) يسقط عنه ولكن هذا سقوط عصياني وبسبب تعجيز النفس، فهو في بداية الوقت مادام كان قادراً على الوضوء أو الصلاة فالملاك صار في حقّه فعليّاً والخطاب صار في حقّه فعلياً ولكن حينما يريق الماء فقد عجّز نفسه فالخطاب يسقط باعتبار أنّ القدرة ليست موجودة ولكن الملاك في حقّه صار فعلياً وقد عجّز نفسه عن تنفيذه فيكون هذا السقوط سقوطاً عصانيّاً ويستحقّ العقوبة عليه، من قبيل الإنسان الواقف في الطابق الأعلى ويريد أن يوقع نفسه فنحن نخاطبه ونقول له لا تفعلنَّ ذلك مادام هو بعدُ فوق السطح فهو قادرٌ على الامتثال أمّا إذا فرضنا أنّه أسقط نفسه وصار بين السماء والأرض فالخطاب سوف يسقط حينئذٍ لأنّه ليس له معنى ولكن هذا سقوطٌ عصيانيّ فيذمّ عليه في أثناء السقوط ولا يستطيع هو الاعتذار ويقول أنا الآن فقدت القدرة إذ نقول له إنَّ الخطاب يسقط عنك لعدم القدرة أمّا الذم فهو باقٍ لأنك عجّزت نفسك عن تحقيق الملاك الفعلي بالعصيان، وهذا معنى العبارة التي نقلها صاحب الكفاية(قده) عن المشهور ( الاضطرار بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وينافيه خطاباً ).
وأمّا ما أفاده في المحذور الثالث - اعني أنه يلزم اعتبار العلم في متعلق التكليف كالقدرة -  فيردّه:- بوجود الفرق بين القدرة والعلم، فإنّ تحصيل القدرة ليست باختيار الإنسان، فالشخص العاجز عن الحجّ أو الصوم يكون عجزه ناشئ عادةً من غير اختياره كأن كبر سنّه فضاق نفسه وضعف قلبه ورجلاه ولا يستطيع المشي، فبالتالي هو لا يتمكّن من إزالة العجز وتبديله بالقدرة فكيف تخاطبه وتقول اذهب إلى الحجّ  ؟!! إنّ هذا قبيحٌ عقلاً، وهذا بخلاف الجاهل فإنّه يصحّ توجيه الخطاب إليه باعتبار أنّه يتمكّن من إزالة جهله من خلال التعلّم.
وهذا فارقٌ نلمسه بوجداننا، فنحن نشعر في مسألة العاجز أنه يقبح توجيه الخطاب إليه بداعي التحريك أمّا الجاهل - ولا نقصد الجاهل القاطع بالعكس بل الجاهل البسيط الملتفت إلى جهله ويتمكن أن يتعلّم - فنشعر أنّه لا بأس بتوجيه الخطاب إليه وسبب عدم القبح هو أنه يتمكّن أن يتعلّم ويتمكن أن لا يتعلم.
وأما ما أفاده في وجهه الثاني - من أن الخطابات الشرعيّة هي خطابات كلّية وليست جزئية ولا تنحلّ بعدد الأفراد - فيردّه:- إنّ دعوى عدم الانحلال مخالفة للوجدان فإن لازم هذا الكلام إنّ قوله تعالى:- ﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ﴾، أو  ﴿ كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ ليس منحلاً إلى أنه كتب عليك ايها المكلف الاول وكتب عليك ايها المكلف الثاني .... وهكذا، أو إذا خاطبت الطلبة بشكل كلّي وقلت:- ( أيها الطلبة عليكم بالجدّ والاستفادة من الوقت ) فعلى رأيه يبقى هذا التكليف مركّباً على العنوان ولا ينزل إلى الأفراد وهذا مخالفٌ للوجدان.
هذا مضافاً إلى أنّه لو كان الحكم منصبّاً على العنوان ولا ينحلّ إلى الأفراد فنسأل نقول هل يبقى ثابتاً للعنوان فقط ؟ وهذا لازمه أنّ أيّ فردٍ يتمكّن أن يعصي لأنه يقول لا يوجد عندي خطاب وتكليف، فالخطاب متوجّه للعنوان ولم ينحلّ إلى الأفراد أمّا أنا الفرد فلا يلزمني الصوم لأنّ الآية الكريمة تقول:- ﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيان ﴾ فالخطاب موجّه إلى الذين آمنوا فيبقى ثابتاً إلى الذين آمنوا وليس إلى الأفراد  فأنا لا أصلي ولا يوجد عصيانٌ، وهل تلتزم بهذا الشيء ؟!! إنه لا يمكن الالتزام بذلك.
وإذا قلنا ينزل إلى الأفراد فنسأل ونقول هل ينزل إلى الأفراد بقيد المجموع الكلّي بما هو مجموع وكأنّ المجموع يُنظَر إليه وكأنّه واحدٌ أو أنّه ينزل إلى المجموع بنحوٍ متعدّد ؟ فإن كان ينزل إلى المجموع بقيد الوحدة فلازمه أنّه سوف يصير الحكم واحداً وبالتالي لا معنى لنسبة العصيان إلى شخصٍ والعصيان إلى آخر، يعني لو فرضنا أنّ مكلفاً صام والآخر لم يصم فلا نتمكن أن نقول إنَّ هذا عصى أو ذاك أطاع لأنّ الحكم واحدٌ والحال أننا ننسب إلى هذا العصيان وإلى ذاك الاطاعة وهذا يدلّ على أنّ الحكم متعدّد وليس واحداً.
فلابد من أن يلتزم بأنّه ينزل إلى الأفراد بنحو التعدّد، وهذا ما أردناه، يعني أنَّ الخطاب المتوجّه إلى العنوان الكلّي ينحلّ بعدد الأفراد.