الموضوع:- إمكان جعل الأحكام
الظاهرية - مباحث الحكم.
إمكان جعل الأحكام الظاهرية:-السبب في عقد هذا العنوان والبحث ما هو المنسوب إلى ابن قبة(قده) فإنّ
المحقق(قده) في المعارج
[1] ذكر
أنّ خبر الواحد حجّة عندنا واستدل عليه ببعض الوجوه، ثم ذكر بأنّا نقول بحجيّته
خلافاً لابن قبة وجماعة من أهل الكلام، ثم نقل له دليلاً أو دليلين لو تمّا كان
ذلك وجهاً لاستحالة جعل الحجيّة بشكلٍ مطلق من دون خصوصيّة لخبر الواحد فكلّ حكمٍ
ظاهريّ لا يمكن جعله سواء فرض حجية الخبر أو حجية القرعة أو حجية الشهرة فكلّ حجية
- التي هي حكم ظاهري لأنها تجعل حالة الشك في الحكم الواقعي - لا يمكن جعلها من دون
خصوصيّةٍ لخبر الواحد، وابن قبة(قده) كما قيل هو من علمائنا المتقدّمين وكان في
بداية أمره من الاتجاه المقابل ثم انتقل إلى الحق، وقد ذكر الشيخ النائيني(قده)
[2]
أنّه لم ينقل عن هذا الرجل رأيٌ في مطلق الأبواب سوى هذا الرأي، وسوف نلاحظ أنّ
الصيغة التي طرحها ابن قبة في الدليل هي صيغة قديمة ولكن علماءنا طوّروها وصاغوها
بصياغات جديدة.
وذكر الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل[3]له دليلين والمهم هو الدليل الثاني منهما وهما:-
الأول:- إنّه لو أمكن جعل الحجية للإخبار
عن النبي مثلاً لجاز ثبوت الحجّية للإخبار عن الله عزّ وجلّ بأن يأتي شخصٌ ويقول قال
الله لي كذا وكذا وأرسلني إليكم، وحيث إنّ التالي باطلٌ - يعني لا يحتمل إمكان جعل
الحجّية للإخبار عن الله - فالأول باطل.
أقول:- هذا دليلٌ ليس بمهم ولا يستحق
الوقوف عنده.
الثاني:- إنّه يلزم من جعل الحجيّة للخبر
تحليل الحرام وتحريم الحلال.
وهذا
الدليل ذكره المحقّق(قده) في المعارج أمّا الدليل الأول فالمذكور في الرسائل شيء وفي
المعارج شيء آخر وهذا ليس بمهم بل المهم هو الدليل الثاني وقد نقله الشيخ الأعظم
في الرسائل وكذلك المحقّق في المعارج.
وقد صيغ الإشكال الثاني بصياغات جديدة نذكر خمس صيغ منها الثلاثة الأولى
هي المهمّة وأمّا الأخيران فليسا بمهمين وهي كالتالي:-الصياغة الأولى للإشكال:- إنّه يلزم من
جعل الحجيّة للخبر - أو غير الخبر - اجتماع الضدّين أو المثلين باعتبار أنّنا
نعتقد بوجود أحكامٍ واقعيّة في حقّ العالم والجاهل ولا نرى التصويب وإنما هي عامة
للعالم والجاهل، وبناءً على هذا يكون الحكم الظاهري المجعول إن طابق الواقع لزم اجتماع
المثلين وإن خالفه لزم اجتماع الضدين، ولنصطلح على هذا الإشكال بشبهة اجتماع
الضدين أو المثلين.
وهذا
الإشكال هو المهم وبسببه وجدت مدارس أصوليّة كما سوف نلاحظ.
الصياغة الثانية للإشكال:- يلزم من جعل
الحجيّة نقض الغرض إذ لعلّ الحكم الواقعي هو الوجوب وما جعل حجّة دلّ على الاباحة
فسوف يترك المكلّف ذلك الشيء الذي هو واجبٌ واقعاً وبذلك يلزم نقض الغرض أي فوات
المصلحة أو الوقوع في المفسدة، ولنصطلح على هذا الإشكال بشبهة نقض الغرض.
الصياغة الثالثة للإشكال:- إنّه يلزم
تخصيص قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإنّ مشهور الأصوليين يبني على القاعدة
المذكورة والمقصود من البيان هو العلم يعني يقبح العقاب بلا علمٍ، وبناءً على هذا
يقال إنّ الخبر أو غيره - الذي جعل حجّة - لا يعطي علماً ولكن بعد أن جُعِل حجّة
تثبت العقوبة على من خالف ذلك الطريق الذي جُعِل حجّة والحال هو لا يفيد العلم
وهذا ما يتنافى مع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان فتصير النتيجة هي أنّه يقبح
القعاب عقلاً بلا بيانٍ إلا في مورد مخالفة ما جُعِل حجّة شرعاً كخبر الثقة وغير
ذلك من الحجج ونحن نعرف أن الأحكام العقليّة لا تقبل التخصيص فليزم من جعل الحجّية
للخبر أو غيره تخصيص قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
الصيغة الرابعة للإشكال:- لزوم طلب الضدّين، كما إذا فرض أنّ المطلوب واقعاً كان هو صلاة الظهر والأمارة دلّت على طلب صلاة
الجمعة فيصير كلاهما مطلوباً وهذا طلب للضدّين لأنّ المطلوب واحدٌ فكلاهما جزماً
ليس بمطلوبٍ.
وفرق
هذا عن الأوّل هو إنّه في الصيغة الأولى قلنا يلزم اجتماع الضدّين حالة خطأ الأمارة
بقطع النظر عن مسألة الطلب فصلاة الجمعة مثلاً ذا كانت واجبة في الواقع ودلّت الأمارة
على حرمتها لزم من ذلك اجتماع الضدّين في شيءٍ واحدٍ أمّا هنا فيلزم طلب شيئين لا
أنّ شيئاً واحداً يكون واجباً وحراماً.
الصياغة الخامسة للإشكال:- إنّه يلزم حدوث
الحكم بلا مصلحة أحياناً، كما لو فرض أن الشيء مباحاً واقعاً ودلت الأمارة على أنّه
واجبٌ فسوف يثبت الوجوب بلا مصلحةٍ إذ المفروض أنّه مباحٌ واقعاً فلا مصلحة لإيجابه
فثبت الوجوب بلا مصلحة.
هذه
خمسة إشكالات على جعل وتشريع الحكم الظاهري - أو بالأحرى الحجيّة -.
ورب قائل يقول:- إنّه يمكن دفع جميع
هذه الإشكالات بعبارة مختصرة وذلك بأن يقال:- إنّ أحد الحكمين حيث إنّه ظاهري
والآخر واقعي فلا يلزم اجتماع المثلين أو الضدّين أو غير ذلك فترتفع جميع
الاشكالات أو لا أقل يرتفع بعضها.
وجوابه واضح:- فإنّ المشكلة ليست هي
مشكلة التسمية حتى تعالج من خلال تغيير الأسماء بل هي أعمق من ذلك حيث يقال إنّ
ذلك الحكم هو ناشئ عن مصلحةٍ وهذا ناشئٌ عن مفسدةٍ فيلزم اجتماع مصلحةٍ ومفسدةٍ
مثلاً والمصلحة والمفسدة أمران تكوينيان فحينئذٍ كيف تدفع مثل هذه المشكلة ؟
جواب الصيغة الأولى للإشكال:-قد
أجيب عنه بعدة أجوبة:-
الجواب الأوّل:- ما قرأناه في الكفاية
[4]
وحاصله:- إنّ الحجية الثابتة للخمر مثلاً ماذا تعني ؟ إنّها لا تعني جعل حكمٍ
مماثلٍ على طبق مضمون الخبر حتى يلزم اجتماع الحكم الواقعي مع هذا الحكم الظاهري
المماثل الذي هو وليد جعل الحجيّة بل نحن نقول إنّ الحجيّة تعني جعل المنجزيّة
والمعذريّة، أي أنك إذا سرت عليه وكان مخالفاً للواقع كنت معذوراً وإذا لم تسر
عليه وكان مطابقاً للواقع كان الواقع عليك منجّزاً، فالتنجيز والتعذير هما عبارة
عن جعل الحجّية لا أنها عبارة عن جعل الحكم المماثل، فإذن لا يلزم إشكال اجتماع
المثلين أو الضدّين.
وقريب
منه ما ذكره تلميذه الشيخ النائيني(قده)
[5]، كما نقل السيد الخوئي(قده)
[6]
ذلك عن النائيني وارتضاه
وحاصل ما ذكره الشيخ النائيني:-
هو أنّ الحجية ليست بمعنى جعل الحكم المماثل كما قال الشيخ الخراساني(قده) ولكن لا
نفسّرها بجعل المنجزيّة والمعذريّة بل نفسّرها بجعل العلميّة والطريقيّة، فالشارع
جعل الخبر أو القرعة أو الظهور حجّة بمعنى أنّه جعله علماً وطريقاً فرفعه من الظن
إلى العلميّة غايته ليست العلميّة الحقيقيّة بل العلميّة التعبدّية.
إذن
نتمكن أن نقول هو(قده) يتفق روحاً مع الخراساني ولكن اختلف معه في مرحلة البقاء
وفي تتمة الرأي فذاك بنى على المنجزيّة وهذا بنى على الطريقيّة والعلمّية، وهذان
مسلكان أصوليان وتترتب عليهما آثار أصوليّة في مسائل أصوليّة أخرى.
يبقى سؤال:- لماذا ترك الشيخ
النائيني(قده) مسلك جعل المنجزيّة المعذريّة وصار إلى مسلك جعل العلميّة ؟
والجواب:- إنّ الذي دعاه إلى ذلك
أمران:-
الأول:- إنّه بناءً على مسلك المجزيّة
والمعذريّة يلزم تخصيص قاعدة قبح العقاب بلا بيان ونحن نعرف أنّه حكمٌ عقليٌّ لا
يقبل التخصيص إذ بناءً على المسلك المذكور تصير النتيجة هي أنّه يقبح العقاب بلا
بيان إلّا إذا دلّ الخبر على شيءٍ وخالفه المكلّف وكان ذلك الخبر مطابقاً للواقع
فإنّه يستحق العقوبة ويكون الواقع منجزاً عليه.
إذن
هذا تخصيصٌ لقاعدة قبح العقاب بلا بيان وهو لا يمكن، وهو لأجل الفرار من هذا
الاشكال قال نحن نفسّر جعل الحجيّة بجعل العلميّة فإذا صار الخبر علماً لا يلزم
آنذاك تخصيص قاعدة قبح العقاب بلا بيان إذ بالتالي صار الخبر علماً فالعقوبة عقوبةٌ
على مخالفة العلم غايته العلم التعبّدي الاعتباري دون الواقعي.
الثاني:- إنّ واقع الحال يقتضي ذلك - أي
يقتضي مسلك جعل العلميّة والطريقيّة -، وكيف ؟ أجاب:- بأنّ الأمارات من الخبر
والظهور والقرعة وغيرها هي أمورٌ عقلائية وهي حججٌ عند العقلاء قبل أن يجعلها
الشرع حجّة ودور الشرع دور الممضي، وإذا رجعنا إلى العقلاء نجد أنّهم يأخذون
بالخبر مثلاً من باب أنّه علمٌ فيتمّمون نقصانه ويغضّون النظر عن نقصان كاشفيته
ويعتبرونه كالعلم التامّ والعقلاء ببابك.