الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

36/04/06

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:-  التنافي بين الأحكام، بم تتعلّق الأحكام - مباحث الحكم.
التنافي بين الأحكام:-
لا إشكال في الأحكام متنافية فيما بينها فوجوب الصلاة ينافي حرمة الصلاة، ولكن من أين تنشأ المنافاة ؟
قد يتصوّر أنّ منشأ ذلك هو أنّ الوجوب نفسه ينافي الحرمة بنفسها فالتنافي إذن هو بين ذات هذا وذات ذاك كالبياض والسواد فإنَّ التنافي بينهما بذاتيهما وهنا أيضاً كذلك.
وهذا واضح البطلان فإنّ الوجوب اعتبارٌ والحرمة اعتبارٌ ولا تنافي بن الاعتبارين، فالآن أنا اعتبرك عالماً وفي نفس الوقت أعتبرك جاهلاً وهذا شيءٌ لا بأس به - إمّا باعتبارٍ واحدٍ أو باعتبارين -، نعم هو لغوٌ من الحكيم ولكن ليس بمستحيلٍ في حدّ نفسه . إذن منشاء الاستحالة لابد وأن يكون شيئاً آخر وهو عبارة عن الملاك والارادة فإنّ الوجوب له ملاك وهو عبارة عن المصلحة والحرمة لها ملاك وهي المفسدة فإذا صار الشيء الواحد واجباً ومحرّماً يعني ذلك وجود مصلحة ومفسدة فيه، فنكتة الاستحالة هي لزوم اجتماع مصلحةٍ ومفسدةٍ في شيءٍ واحد، وهكذا من حيث الارادة والكراهة فإنّ الوجوب مسبوق بالإرادة والحرمة مسبوقة بالكراهة فيلزم من اجتماع الوجوب والحرمة في شيءٍ واحدٍ اجتماع إرادةٍ وكراهةٍ . إذن التنافي بين الأحكام هو من هذه الناحية وهذا منشأ من مناشئ التنافي . وهناك تنافٍ ثانٍ وهو أنّ الوجوب يكون امتثاله بصدور الفعل بينما الحرمة يكون امتثالها بترك الفعل، فلو كأن الشيء الواحد واجباً وحراماً يلزم فعله وتركه.
إذن التنافي بين الأحكام إمّا من حيث عالم المبادئ والارادة أو من حيث عالم الامتثال[1].
بساطة الأحكام:-
قرأنا في المعالم أنّ الوجوب مركّب من طلب الفعل زائداً المنع من الترك، يعني هو مركبٌ من جزأين فهو ليس ببسيطٍ، بل لعله في بعض المواضع قد يظهر منه أو من غيره أنّه مركبٌ من ثلاثة أجزاء.
وعلى أيّ حال هل الأحكام مركّبة أو بسيطة ؟ وأين تظهر الثمرة ؟
إنّه(قده) رتّب ثمرةً في نسخ الوجوب مثلاً فقال إذا نسخ الوجوب فيكفي في نسخه وإزالته رفع الفصل أعني المنع من الترك فيبقى الجزء الأوّل وهو إمّا الإذن في الفعل - حيث جعل في بعض عبائره(قده) الجزء الأوّل هو الإذن في الفعل - أو طلب الفعل على حاله فيكون النسخ دالّاً حينئذٍ على بقاء الجواز.
وكان من المناسب حذف هذا البحث من علم الأصول.
إنّما المهم هو أن نعرف أن الحكم بسيطٌ أو هو مركب ؟
والجواب:- المناسب أن يكون بسيطاً، والوجه في ذلك:- هو أنّ الوجوب إذا قلنا بحكم العقل كما يذهب إليه غير واحدٍ فالأمر واضحٌ حيث قالوا إنّ المولى إذا طلب الفعل فنفس طلبه له يكون موجباً لحكم العقل فالعقل يحكم بلزوم الانبعاث والتحرّك بعدما طلب المولى ذلك، فإذا قال ( جئني بالماء ) فهذا طلبٌ للفعل أمّا الوجوب فلس مدلولاً لفظيّاً وإنما العقل يقول بعدما طلب المولى الماء يجب عليك الاتيان به فهو حكمٌ عقليٌّ وليس مدلولاً لفظيّاً وهذا ما ذهب إليه جماعة، وبناءَ على هذا المبنى لا معنى للتركّب إذ المفروض أنّه حكمٌ عقليٌّ ولا تركّب في الأحكام العقلية[2]، وأما إذا قلنا أنّه مدلولٌ لفظيٌّ يعني أنّ صيغت ( افعل ) وضعت للوجوب بحيث صار الوجوب مدلولاً وضعيّاً فيمكن أن نقول إنّ الوجوب هو عبارة عن طلب الشيء الذي يكون معرِّفُهُ المنع من الترك، فالمنع من الترك ليس جزءاً من مدلول الصيغة يعني أنَّ الصيغة لا تدل على طلبٍ مع منعٍ من الترك وإنما تدلّ على طلبٍ شديدٍ معرِّفُهُ هو المنع من الترك، فالمنع من الترك ليس جزءاً بل هو معرِّفٌ لتلك الدرجة من شدّة الطلب . إذن الوجوب الذي هو مدلول صيغة افعل ليس مركّباً.
وأضيف شيئاً:- وهو أنّ الألفاظ المفردة دائماً تكون مدلولاتها مفردة أيضاً، فكلمة باب أو إنسان مثلاً هي ألفاظٌ مفردةٌ ومدلولها ليس مركباً وإنما هو شيءٌ واحدٌ منتزعٌ من هذا المركّب لا أنّ اللفظ هو بنفسه يدلّ على شيئين، حتى لفظ عشرة فهو لا يدلّ على واحد زائداً واحد زائداً واحد حتى تصير مداليله عشرة مداليل كلّا بل مدلولها واحدٌ ولكنه منتزعٌ من وحداتٍ عشرة، فالمعنى والمدلول للألفاظ المفردة دائماً يكون واحداً  والوجدان قاضٍ بذلك فإنّك لا تفهم من اللفظ الواحد إلا معنىً واحد غاية الأمر أنّ ذلك المعنى الواحد بالتحليل قد ينحلّ إلى أجزاءٍ لا أنّ نفس المعنى يكون مركّباً، وهذه قضيّة وجدانيّة والمطلب لا يستحق الاطالة أكثر من هذا.
بم تتعلّق الأحكام ؟
لعلّ المعروف بين المتقّدمين أنّ متعلّق الأحكام هو الأشياء الخارجيّة، فحينما يقول المولى تجب الصلاة يكون الوجوب متعلّقاً بالصلاة الخارجيّة لأنها هي مركز الآثار، وأكّد صاحب الكفاية(قده)[3] في مبحث اجتماع الأمر والنهي هذه القضيّة فإنّه في بداية هذا البحث عقد أموراً أحدها هو أنّ الأحكام تتعلّق بالأفعال بوجوداتها الخارجيّة ضرورة أنّها مركز الآثار ورتّب على ذلك أنّه لا يمكن اجتماع الأمر والنهي في باب الصلاة في الدار المغصوبة فلا يمكن أن نفترض وجود أمرٍ بالصلاة ونهيٍ عن الغصب لأنّ وجود هذين وجودٌ واحدٌ في الخارج فمادام الوجود واحداً فلا يمكن أن يقول المولى صلّ ولا تغصب فسوف يكون الفعل الواحد مركزاً لاجتماع الأمر والنهي وانتهى من الموضوع بهذا الشكل وكان من القائلين بامتناع توجّه الأمر والنهي إلى الصلاة في الدار المغصوبة لهذه النكتة.
هذا ولكن تغيّرت الرؤية بعد صاحب الكفاية(قده) وحدث اتجاه آخر يقول إنّ متعلّق الأحكام ليس هو الوجودات الخارجيّة وإنما هو الوجودات والصور الذهنيّة، ومن روّاد هذا الاتجاه الشيخ عبد الكريم الحائري(قده) في درره[4] وادعى أنّ هذا المطلب من الأمور الواضحة الي لا تحتاج إلى برهانٍ، ومن هؤلاء الشيخ الاصفهاني(قده)[5] والشيخ العراقي(قده)[6].
ولكن نلفت النظر إلى أنّه ليس المقصود من تعلّق الحكم بالوجود الذهني أنّه متعلّقٌ به بما هو وجودٌ ذهنيٌّ كلّا بل بما هو عين الخارج، فإنا ذكرنا في بعض الأبحاث أنّ الله عزّ وجلّ أعطى قدرةً للذهن البشري أن يرى بالصورة الذهنية الخارجَ فيجلس الانسان في غرفته ويفكّر في بعض المصائب التي طرأت عليه فيتألم وكأنّه يرى الخارج أمام عينيه ومثلّنا لذلك بالخطيب الحسيني . إذن الصور الذهنية لها القدرة في أن تحكي الخارج وكأننا نرى الخارج ونغفل عن الصورة الذهنية غفلةً تامّة، والمدّعى هو أنّ الأحكام  تتعلّق بالصور الذهنية بما هي عين الخارج لا أنها تتعلّق بما هي صور ذهنيّة وإلا لم تكن مركزاً للأثار فإنَّ هذه وجودٌ ذهنيٌّ لا تنفع شيئاً فمن يدّعي أنّ الأحكام تتعلّق بالصور الذهنّية يقصد هذا المعنى أي بما أنها عين الخارج.
يبقى من حقّنا أن نسأل ونقول:- لماذا لا تتعلّق الأحكام بالوجودات الخارجيّة ابتداءً كما يراه صاحب الكفاية(قده) ؟
والجواب:- توجد عدة مؤشّرات تنفي ذلك ولعلّ بعض هذه المؤشرات التي سنذكرها متداخلة روحاً ومعنىً غير أنها متخلفة لفظاً وهي:-
الأوّل:- إنّ الحكم قضيّة نفسيّة فكيف ينصبّ على الخارج ؟! إنّ لازم ذلك أن يدخل عالم الخارج في عالم النفس أو أنّ النفس تخرج إلى عالم الخارج . فإذن لا يمكن أن تتعلّق الأحكام بالوجودات الخارجيّة، وهذا نظير ما قيل في باب العلم ففي  باب العلم قيل إنّ متعلّق العلم ليس هو الوجود الخارجي لأنّ العلم قضيّة نفسيّة فمتعلّقه ليس هو الخارج ولا يمكن ذلك وهو مستحيلٌ بل الصورة الذهنيّة فهي المعلوم الأوّلي، وهنا أيضاً كذلك، فالحكم مادام أمراً نفسيا فلا يمكن أن يتعلّق بالخارج.
الثاني:- إنّ الحكم إذا أراد أن يتعلّق بالخارج نسأل ونقول هل يتعلّق بالخارج قبل تحقق الصلاة في الخارج أو بعد تحققها ؟ والأوّل باطلٌ لأنه قبل أن أصلّي لا توجد صلاةٌ خارجيّةٌ فكيف يتعلّق الحكم بغير الموجود ؟!! فإذا كان المدار على الخارج يلزم ثبوت الحكم بلا متعلّق، وإذا قلت يتعلّق الوجوب بعد تحقق الصلاة وانتهائها فحينئذٍ يكون طلب تحصيل الحاصل فإنّه بعدما انتهت الصلاة ما معنى أن يأتي الأمر ويتعلّق بها ؟!!
الثالث:- إّنه يلزم عدم وجود عصاة لأنّ تارك الصلاة لا يوجد أمرٌ في حقّه إذ الأمر يتعلّق بالوجود الخارجي وحيث لا وجود خارجيّ فلا أمرَ فلا عصيانَ.
الرابع:- إنّ الخارج هو ظرف السقوط وظرف الامتثال، فبواسطة عالم الخارج نحن نُسقِط الأمر ونمتثله فكيف يكون عالم الخارج - الذي هو عالم الامتثال والسقوط - هو بنفسه عالم ثبوت الحكم ؟!!
الخامس:- إنّه بناءً على أنّ الحكم يتعلّق بالوجود الخارجي ماذا نصنع تجاه الوجودات المتلازمة خارجاً كعدم المذكّى والميتة ؟! فإن الميتة وعدم المذكى شيئين فهما في الخارج شيئاً واحداً ولكنّه في عالم الذهن شيآن فلو كانت الأحكام تتعلّق بالخارج يلزم أنّه لا يمكن أن يتعلّق الحكم بهذا دون ذاك !! يعني لا يمكن أن يقول ( الميتة نجسة أمّا عدم المذكّى فليس نجساً ) إنّ هذا غير ممكنٍ والحال أنّ هذا ممكنٌ بالوجدان فالفقيه بوجدانه يشعر أنّه يمكن أن يوجّه الشارع حكم النجاسة على عنوان الميتة دون عنوان غير المذكى.
إذن هذا يكشف ويدلّ على أنّ مركز الأحكام ليس هو الوجودات الخارجيّة وإلا لما أمكن صب النجاسة على الميتة دون عنوان غير المذكّى.
 إذن متعلّق الأحكام هو الوجودات الذهنيّة ولكن بما هي عين الخارج.


[1]  وهذه قضيّة ينبغي أن تكون واضحة وسوف ننتفع منها فيما بعد عندما ندخل في شبهة ابن قبة.
[2]  - إذ التركّب لا معنى له فهو لعلّه سالبة بانتفاء الموضوع.
[3]  كفاية الاصول، الآخوند، ص158.
[4]  درر الفوائد، الحائري، ج1، ص123.
[5]  نهاية الدراية، الاصفهاني، ج1، ص273.
[6]  نهاية الافكار، العراقي، ج3، ص60.