الموضوع:- هل
الأحكام الوضعية مجعولة ؟ – مباحث الحكم.
هل الأحكام الوضعيّة مجعولة ؟ذكرنا فيما سق أنّ الحكم ينقسم إلى تكليفي ووضعي، أمّا الحكم
التكليفي فهل هو ومجعولٌ أو لا ؟ تقدّم نقل الخلاف بن العلمين العراقي والنائيني فقال
النائيني(قده) إنّ الأحكام التكليفيّة مجعولة ولها مرحلتان مرحلة جعلٍ ومرحلة مجعول
ونحن وافقناه على ذلك من باب أنَّ واقع الحال هو كذلك وأنَّ العقلاء يفعلون ذلك،
وأمّا الشيخ العراقي(قده) فقال هي ليست مجعولة وإنّما هي عبارة عن إرادة ولازم ذلك
أنّ الأحكام التكليفيّة لا تكون مجعولة.
وأمّا الأحكام الوضعيّة:-
فقد وقع الخلاف من هذه الناحية فقد ذكر الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل
[1]
بمناسبةٍ أنَّ الأحكام الوضعيّة هي بأجمعها منتزعة، فجزئيّة السورة أمرٌ انتزاعي
وليس أمراً مجعولاً يعني هي منتزعة من الأمر بالسورة وغيرها فإنّه من هذا الأمر
ننتزع ونقول ( إذن السورة جزء والركوع جزء )، والسببيّة والشرطيّة أيضاً كذلك، فحينما
يقول ( صلِّ مع طهارة ) فننتزع من ذلك أنَّ الطهارة شرطٌ، وهكذا في المانعيّة
وغير ذلك.
هذا ولكن المناسب كما أفاد الشيخ النائيني[2]وغيره:- وهو التفصيل بين ما إذا
كان الحكم الوضعي موضوعاً لحكمٍ تكليفي وبين ما إذا لم يكن كذلك.
أمّا مثال الأوّل:- فهو
كالزوجيّة والملكيّة فإنَّ الزوجيّة موضوعٌ لوجوب الانفاق والملكيّة موضوعٌ لحرمة
التصرّف من دون إذنٍ ومثل هذا الحكم الوضعي ليس انتزاعيّاً - خلافاً للشيخ الأعظم(قده)
- وإنّما هو مجعولٌ بالجعل الاستقلالي واعتبارٌ استقلاليٌّ وليس منتزعاً من غيره.
وأمّا مثال الثاني:- فهو
كالجزئية والشرطيّة والسببيّة فإنّها ليست موضوعاتٍ لأحكامٍ تكليفيّة ومثل ذلك
يكون منتزعاً من الحكم التكليفي، يعني يكون الحق مع الشيخ الأنصاري(قده).
والوجه في ذلك:-أمّا بالنسبة إلى الأوّل:- فباعتبار
أنّه مادامت الملكيّة موضوعة لوجوب الانفاق فلابد وأن تكون متقدَّمةً على وجوب
الانفاق حتى نصبّ عليها وجوب الانفاق فإنَّ الموضوع يكون متقدّماً دائماً على حكمِهِ
ولو كانت الزوجية منتزعة من وجوب الانفاق فيلزم أن تكون متأخّرة عن وجوب الانفاق
وحينئذٍ انصب وجوب الانفاق على اللاشيء . إذن يلزم أن تكون الزوجيّة قد جعلت
أوّلاً بالجعل الاستقلالي وبعد ذلك ينصبّ عليها وجوب الانفاق وإلا يلزم أن ينصبّ
الانفاق على اللاشيء - أي بلا موضوع -.
هذا وقد يشكل ويقال:- إنّه لا
يلزم جعل الزوجية جعلاً استقلالياً في البداية بل جعلها كذلك شيءٌ لغوٌ، الوجه في
ذلك هو أنّ المولى إمّا أن نفترض أنّه لا يوجد لديه حكمٌ بوجوب الانفاق ومعه يكون
جعل الزوجيّة بلا فائدة إذ هي ليست موضوعاً لحكمٍ، أو نفترض أنّه يوجد لديه حكمٌ
بوجوب الانفاق وهنا نقول تلزم اللغوية أيضاً إذ يمكن للمولى أن يشرّع وجوب الانفاق
بلا جعلٍ للزوجيّة وذلك بأن يقول مثلاً ( كلّ امرأة تمّ العقد معها يجب الانفاق
عليها ) . إذن تمكّن المولى من تشريع وجوب الانفاق بلا جعل الزوجيّة مسبقاً فجعلها
يكون لغواً.
وجوابه:- هذا وجيهٌ لو فرض أنّ
الجاعل للزوجيّة أو الملكيّة هو المولى الشرعي، ولكن يمكن أن يقال إنّ هذه الأمور
هي ذات جذورٍ عقلائيّة، فالزوجيّة ثابتة قبل الإسلام بجعلٍ عقلائيّ والشارع أمضى
ذلك، فإن كان لك إشكالٌ فوجهه إلى العقلاء وليس إلى الشارع، بل لا إشكال حتى على
العقلاء باعتبار أنّ العقلاء يحتاجون إلى صياغةٍ مختصرةٍ قانونيّةٍ للموضوع فإنَّ
ذلك التعبير تعبيرٌ طويلٌ - أي ( المرأة التي تمّ العقد عليها ) - فاستعان
العقلاء بجعل مصطلح الزوجيّة لهذه المرأة حتى يكون إصدار الحكم بشكلٍ أيسر.
ولك أن تقول:- إنّ
العقلاء بعد أن جعلوا الزوجيّة كمصطلحٍ فصبُّ الحكم عليها لا إشكال فيه، أمّا إذا
أردت أن تقول إنّ جعلها من البداية أمرٌ ليس ضرورياً ويمكن الاستغناء عنه فنحن
نوافقك عليه ولكن بعدما جعلوا الزوجيّة كصيغةٍ وتعبيرٍ مختصرٍ وقانونيّ فإثبات
الأحكام إليها يكون أمراً وجيهاً.
والخلاصة من كلّ هذا:- إنّ الأحكام
الوضعيّة التي هي موضوعٌ لحكمٍ شرعي يلزم بمقتضى كونها موضوعاً للحكم الشرعي أن
تكون مجعولةً بجعلٍ مستقلٍّ في البداية حتى يمكن توجيه الحكم إليها.
وأمّا النحو الثاني - أعني ما يكون منتزعاً والذي هو كالجزئية -:- فالوجه في كونه منتزعاً هو شهادة واقع الحال بذلك، فإنَّ واقع
الحال يشهد بأنّنا ننتزع الجزئية للشيء بسبب تعلّق الأمر به وبغيره فنقول ( إذن هو
جزءٌ ).
بل يمكن أن نصعّد اللهجة ونقول:- إنّه لا يمكن الجعل الاستقلاليفي مثل هذا بل دائماً يكون المناسب هو
الجعل الانتزاعي - إنّ صحّ التعبير -، يعني لا يمكن أن يقول المولى ( جعلت السورة
جزءاً للصلاة ) والوجه في ذلك هو أنَّه حينما يريد أن يجعل الجزئيّة بالجعل
الاستقلالي ويقول ( جعلت الجزئية للسورة ) نسأل هل إنَّ ذلك الأمر المتعلّق
بالصلاة توسّع وشمل السورة بأن تغيّر من تعلقه بتسعٍ إلى تعلقه بعشرةٍ التي منها
السورة أو لا ؟ فإن فرض أنّه تغيّر وتعلّق بالعشرة التي منها السورة فذلك يكفي
لتحقّق جزئيتها ويكون جعل الجزئية بعد ذلك تحصيلاً لما هو حاصل ولغو، وأمّا إذا
فرضنا أنّه لم يتغيّر وبقي مستقراً على التسعة من دون السورة فيلزم محذور التناقض
إذ كيف تكون السورة جزءاً والأمر بالمركب باقٍ على التسعة ولم يتغيّر ويتعلّق
بالعشرة ؟!! إنّه تناقضٌ وهو لا يمكن.
فهذا الاحتمال باطلٌ وكذلك الاحتمال الأوّل، وبهذا ثبت أنَّ جزئيّة
السورة مثلاً ليست قابلة للجعل الاستقلالي.
إن قلت:- نحن نشعر بالوجدان
أنّه يصحّ أن يقول المولى ( جعلت السورة جزءاً ) فلماذا تشكك في القضايا
الوجدانيّة وهذه صناعة خادعة في مقابل الوجدان ؟
قلت:- إنَّ القول المذكور -
يعني ( جعلت الشيء الفلاني جزءاً ) - هو في الحقيقة تعبيرٌ آخر عن تعلّق الأمر
بالعشرة ولكن أبدلت التعبير بتعبيرٍ أيسر فأريد أن أقول إنَّ مقصودي صار أوسع فهو
يتعلّق بعشرةٍ ولكن استعنت لا بذاك التعبير بل بهذا التعبير فهو تعبيرٌ مرآتي لا أنّي
جعلتها جزءاً - يعني بقطع النظر عن ذلك الأمر -، كلّا بل أريد أن أقول إنَّ الأمر
قد تغيّر وصار متعلقاً بالعشرة بدل تعلّقه بالتسعة لكن أتيت بما يشير إلى هذا
التغيّر فقلت ( جعلتها جزءاً ).
والخلاصة من كلّ هذا:- هي أنّه ينبغي التفصيل في الأحكام الوضعيّة.
هذا وقد ذهب صاحب الكفاية(قده)[3]إلى التفصيل:- وقال بأنَّ الأحكام
الوضعيّة على ثلاثة أقسام، الأوّل لا يقبل الجعل الاستقلالي ولا الانتزاعي ومثّل
لذلك بسببية الزوال لوجوب صلاة الظهر وشرطية الاستطاعة لوجوب الحج، والثاني ما
يكون مجعولاً بالانتزاع والتبع وذلك كالجزئيّة أو الشرطيّة للمأمور به، والثالث
ما يكون مجعولاً بالاستقلال وذلك كالزوجيّة والملكيّة.
ونحن نوافقه فيما ذكره(قده) بالنسبة إلى القسم الثاني والثالث فهو
ليس شيئاً مخالفاً لما ذكرناه فإنَّ الثالث كان هو الذي يكون مجعولاً بالجعل
الاستقلالي مثل بالزوجيّة والملكيّة وهذا ما ذكرناه بعنوان القسم الأوّل . وأمّا
الثاني فهو قال إنَّه مجعولٌ بالانتزاع ونحن وافقناه على ذلك . ولئِن كان لنا خلافٌ
معه فهو في القسم الأوّل - يعني ما يكون بنحو السببيّة أو الشرطيّة للوجوب كسببية
الزوال لوجوب الصلاة وشرطيّة الاستطاعة لوجوب الحج - فهو قال بأنّها ليست مجعولة
استقلالاً ولا تبعاً.