الموضوع:- تتميم لتقسيم الحكم –
مباحث الحكم.
تتميمٌ لتقسيم الحكم:-ذكرنا فيما سبق أنّ الحكم ينقسم إلى تكليفي ووضعي وذكرنا الفارق
بينهما وقلنا إنّ الفارق هو أنّ الحكم التكليفي يستبطن عنصر الاقتضاء - أي اقتضاء
الفعل أو الترك - أو التخيير بينما الحكم الوضعي لا يستبطن ذلك.
وقد يضاف إلى ذلك فارقٌ آخر:- وهو أنّ الحكم التكليفي يستلزم عنصر الجزاء بالعقوبة على المخالفة
والثواب على الموافقة وأما الحكم الوضعي فلا يستبطن ذلك.
إذن يوجد فارقان بين الحكمين إلّا أن الفارق الأساسي هو الأول فإنّه
فارقٌ بما هو داخلٌ في الصميم، بخلاف الفارق الثاني فإنّه فارقٌ بما هو لازمٌ
وخارج.
وذكرنا أيضاً أنّ الأحكام التكليفية خمسة على كلامٍ في الاباحة وهذا
عندنا، وأمّا عند غيرنا كما ينسب إلى الأحناف فعندهم مصطلحات إضافيّة من قبيل
الفرض والواجب والسنّة المؤكدة والسنّة غير المؤكّدة وكراهة تحريم وكراهة تنزيه، ويقصدون
من الفرض الواجب الذي دلّ الدليل القطعي على ثبوته، وأمّا ما دلّ الدليل الظنّي
على وجوبه وليس القطعي فيعبرون عنه بالواجب، وأمّا السنّة المؤكدة وغير المؤكدة
فيقصد به أنّه ما واضب النبي صلى الله عليه وآله على فعله فهو سنّة من دون أن يكون
واجباً فهذا هو سنة مؤكّدة، وأمّا إذا فرض أنّه لم يواضب عليه بل كان يأتي به
أحياناً دون أحيانٍ أخرى فهذا سنّة غير مؤكدّه، كما ويقصدون من كراهة التحريمٍ الحرمة
لأنّ المحرّم مبغوضٌ ومكروهٌ بنحو التحريم، بينما كراهة التنزيه فيقصدون منها
الكراهة المصطلحة عندنا يعني المبغوض الذي ليس على مستوى الحرمة، هذه أقسام
ومصطلحات عندهم كما جاءت في كتاب مباحث الحكم عند الأصوليين
[1].والذي نقوله:- هو أنَ هذه تقسيمات زادة لا ثمرة فيها والتقسيم إنّما
يكون وجيهاً وصحيحاً فيما إذا كان مثمراً.
وذكرنا في سبق أيضاً أنّ الإباحة يمكن أن يقال هي ليست حكماً مجعولاً
باعتبار أنّ الهدف منها إذا كان هو نفي الإلزام بالفعل ونفي الإلزام بالترك فيكفي
عدم إيجاب الفعل وعدم التحريم في تحقّقها بلا حاجة إلى جعلها فإنه جعلٌ وتحصيلٌ
لما هو حاصل..
والآن نقول:- قد يقال إّنه يمكن أن نتصوّر فائدةً لجعل الإباحة وذلك
من خلال الوجهين التاليين:-
الوجه الأوّل:- إنّ الإباحة
إذا جعلت فالمكلف يكون أظهر في العبوديّة والطاعة، فهو يأتي بالفعل أو يتركه من
باب أنّه يقول ( يا ربّ أنت قد أبحته لي ) وهذا نحوٌ من العبوديّة والطاعة، وهذا
بخلاف ما إذا لم يجعل المولى الإباحة وإنما هو فقط لم يُلزِم بالفعل ولا بالترك
فإنَّ هذه العبوديّة لا تحصل بشكلها القوي بل غاية ما يقول ( إني أفعل لأنّك لم
توجب عليّ الترك ) أو ( إنّي تركت لأنك لم توجب عليّ الفعل) وهنا تكون جنبة
العبوديّة أضعف.
الوجه الثاني:- أنّ
يقال إنّ المولى إذا جعل الإباحة فسوف يكون ارتكاب المكلّف للفعل أو الترك ناشئاً
من ثبوت المقتضي لذلك والمقتضي للترك أو للفعل هو جعل الإباحة، أمّا إذا لكم يجعل
المولى الإباحة بل فقط لم يوجب الفعل ولم يحرّمه فهنا يكون الفعل والترك من باب أنّه
لا مانع لا من باب وجود المقتضي - وهو وجود التخيير والإباحة - وكفى بذلك فائدةً.
وفي مقام التعليق نقول:-
إنّ المحذور تارةً يكون هو محذور تحصيل الحاصل - يعني جعل الاباحة يلزم منه محذور
تحصيل الحاصل - وأخرى يكون المحذور هو اللغوية وعدم الفائدة، فإن كان المحذور هو
لزوم اللغويّة من جعل الإباحة فيأتي مثل هذا الكلام وأنّ جعل الإباحة يمكن أن نتصوّر
له فائدةً بأحد الوجهين المتقدّمين، أمّا إذا كان المدّعى هو أنّه لا يمكن جعلها
باعتبار محذور تحصيل الحاصل فحينئذٍ لا ينفع ما ذكر في هذين الوجهين إذ هما لا
يصيّران الشيء ممكناً وإنما يوجبان تحقّق فائدة فيرتفع محذور اللغويّة.
إذن
النتيجة:- هي أنّ جعل الإباحة شيءٌ غير ممكنٍ إذا فرض أنّ منشأها كان هو عدم لزوم
الفعل وعدم لزوم الترك إذ لا معنى لجعلها بل لا يمكن ذلك لأنّه يلزم محذور تحصيل
الحاصل.
إن قلت:- نحن قد نجد في بعض
النصوص ما يدلّ على أنّها مجعولةً، من قبيل قوله تعالى:-
﴿ أحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ﴾، وهكذا قوله تعالى:-
﴿
أحلّ لكم صيد البحر ﴾، ومن قبيل
الحديث الذي يقول:-
( إن الله تعالى يحب أن
يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه ) .....
وهكذا . إذن المستفاد من هذه النصوص هو أنّ الإباحة قضيّة مجعولة كما هو واضح.
وفيه:- إنّه يمكن أن يقال:- إنّ
المقصود من الإحلال هنا إمّا هو الإشارة إلى أنّه لم يحرّم عليكم ذلك، فليلة
الصيام لم يحرّم عليكم الرفث، فالإحلال عبارة أخرى عن عدم التحريم لا أنّه شيءٌ
آخر يقابله.
أو يقال:- إنّ هذه إباحة امضائيّة
حيث أنّه إذا لم يحكم الله عزّ وجلّ بوجوب الفعل أو بالحرمة فالعقل يحكم بالتخيير
بين الأمرين ومباحٌ لك الفعل والشرع يمضي هذا الحكم العقلي، فالإحلال إحلالٌ
إمضائي لا تأسيسي.
وعلى أيّ حال بعد البناء على ما ذكرنا من محذور تحصيل الحاصل يلزم
تأويل هذه النصوص بما أشرنا إليه أو غيره.
وهل هناك ثمرة في هذا البحث ؟الجواب:- نعم هناك فائدة في
بعض الأبحاث العلميّة، من قبيل أن يقال إنّ السيد الخوئي(قده) في مبحث استصحاب الأحكام
الكلّية - على ما تعلمناه وعلى ما سيأتي في باب الاستصحاب - قال إنَّ الاستصحاب في
الأحكام الكلّية لا يجري فلو شككنا أن صلاة الجمعة في زمن الغيبة واجبة أو ليست بواجبة
فاستصحاب بقاء الوجوب من زمن الحضور إلى زمن الغيبة لا يجري لأنّ هذا الوجوب - أي الوجوب
الفعلي الذي يعبر عنه بالمجعول - معارَضٌ بأصالة عدم الجعل الزائد، يعني نقول إنَّ
المولى قبل الإسلام أو في بدايته لم ينشئ الوجوب لصلاة الجمعة وإنما هو جاء بعد الإسلام
والذي نجزم به هو إنشاء الوجوب في فترة الحضور أمّا في فترة الغيبة فهل أنشأ
الوجوب أو لم ينشئه ؟ إنّا نشك في ذلك فنستصحب عدم جعل الوجوب من بدايات الإسلام
فنقول إنّه سابقاً لم ينشئ الوجوب غايته أنّه أنشأه بهذا المقدار أمّا بالمقدار
الزائد وأنّه أنشاه أو لا فنستصحب عدم الإنشاء السابق، فهو لم ينشئ الوجوب -
بمقتضى الاستصحاب - لهذه الفترة الزمنيّة فيقع هذا الاستصحاب معارضاً لاستصحاب
بقاء الوجوب الفعلي، وعلى هذا الاساس لا يجري استصحاب الأحكام الكلّية لأجل فكرة
المعارضة، يعني أنَّ دليل الاستصحاب - الذي هو
( لا تنقض اليقين بالشك ) -
لا يشملهما معاً وشموله لأحدهما دون الآخر بلا مرجّح، ومن هنا قال(قده) بعدم
جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، وهذا من آرائه الواضحة وفاقاً للشيخ
النراقي(قده).
وقد يشكل ويقال:- إنّك في
المعارِض قد استصحبت أصالة عدم الجعل الزائد للوجوب في الفترة المشكوكة - وهي فترة
الغيبة - ؟!!
ونحن نقول:- إنَّ
هذا الاستصحاب يوجد له معارِضٌ فيتساقطان فيبقى استصحاب بقاء الوجوب الفعلي بلا
معارضٍ لأنّ معارضه قد سقط بسبب المعارض الخاص به، والأصل المعارض لاستصحاب عدم
جعل الوجوب في الفترة الزائدة هو أن نقول:- إذا لم يكن الوجوب مجعولاً فماذا يكون
المجعول في فترة الغيبة ؟!! إذن الإباحة هي المجعولة، ونحن نشك هل جعلت الإباحة
لصلاة الجمعة أو لم تُجعَل ؟ فعلى هذا الأساس نستصحب عدم جعل الإباحة في هذه
الفترة الزائدة إذ قبل الإسلام أو في بداياته لم يجعل لصلاة الجمعة - أو أيّ حكمٍ
من الأحكام -، فإذن نحن نشك هل جعل الوجوب في الفترة الزائدة أو جعلت الإباحة فيها
؟ فعلى هذا الأساس يكون استصحاب عدم جعل الوجوب معارضاً باستصحاب عدم جعل الإباحة
فيتعارضان ويتساقطان فيبقى استصحاب بقاء المجعول بلا معارضٍ.
وإذا كان في هذا المثال شيءٌ من الخفاء فيمكن أن نبدله بمثالٍ آخر:- وهو المرأة التي طهرت من حيضها ولكنها بَعدُ لم تغتسل، فالزوج يشكّ
أنّ هذه الزوجة إذا نقت ولم تغتسل بعدُ هل يجوز مقاربتها أو لا ؟ فحينما كان ينزل عليها
الدم كانت هناك حرمة فعليّة فتوجد قابلية لجريان استصحاب الحرمة، والسيد الخوئي(قده)
يأتي ويبرز المعارِض وهو استصحاب عدم جعل الحرمة في الفترة المشكوكة - يعني في
فترة انقطاع الدم وقبل الغسل -، ونحن نبرِز معارضاً لهذا لاستصحاب الثاني فنقول
نحن نشكّ هل جُعلت الحرمة في الفترة الزائدة المشكوكة أو جعلت الإباحة ؟ فاستصحاب
عدم جعل الحرمة في الفترة الزائدة يكون معارضاً باستصحاب عدم جعل الإباحة في
الفترة الزائدة فيتعارض هذان الاستصحابان ويتساقطان ويبقى ذلك الاستصحاب - أي
استصحاب بقاء المجعول أي الحرمة الفعليّة - بلا معارضٍ . وهكذا نقول للسيد الخوئي(قده)
في كلّ شبهةٍ حكميّة، وهذا إشكال قويٌّ إن تمّ.
فهذه المعارضة تتمّ فيما إذا قلنا أنّ الإباحة من الأمور المجعولة، أمّا
إذا قلنا بأنّها ليست من الأمور المجعولة فلا يأتي هذا الكلام . إذن هذا البحث له
ثمرات أحدها هذا المورد.