الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

36/03/21

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- الأحكام الشرعية مجعولة بنحو القضية الحقيقية – مباحث الحكم.
ذكرت في الدرس السابق أنَّ السيد الحكيم(قده) تبنّى رأي استاذه، ولعلني قلت أنّه فسّر الحكم بالإرادة وجعل شرط الارادة هو الوجود اللحاظي لا الوجود الخارجي للشرط.
وأستدرك الآن وأقول:- إنّه لا توجد في عبارة السيد الحكيم أنَّ الحكم هو إرادة، ويظهر من تعبيره بلزوم التفكيك بين الجعل والمجعول أنّه يتبنّى رأي أستاذه الشيخ النائيني(قده) وأنّ الحكم هو عبارةٌ عن جعلٍ واعتبارٍ وله مرحلتان مرحلة جعلٍ ومجعولٍ، ولكنه وافق الشيخ العراقي(قده) في أنَّ الشرط الذي يتحقّق بتحقّقه المجعول هو الوجود اللحاظي دون الوجود الخارجي . فإذن هو وافق استاذه النائيني في نصف المطلب وخالفه في النصف الآخر.
عود إلى صلب الموضوع:-
ذكرنا أنّ تحقيق الحال فيما أفاده العلمان يقع في نقطتين:-
الأولى:- نبحث فيها قضيّة أنّ الاعتبار هل هو عنصرٌ ضروريٌّ ولازمٌ في الحكم أو أنّه واقعٌ وشيءٌ قد جرى عليه العقلاء من دون أن يكون ضرورة ؟
وفي هذا المجال نقول:- أمّا بالنسبة إلى الضرورة - أي ضرورة الاعتبار في حقيقة الحكم - فنحن لا نسلّمها ونقول إنّه لو اطلعنا على الارادة وحدها فهي تكفي لترتيب آثار الحكم - أعني وجوب الامتثال والتنجّز -، فلو اطلعنا على أنّ المولى يريد الشيء الفلاني من دون أن يعتبر ويقول ( عليك أن تفعل الشيء الفلاني ) بل عرفنا بشكلٍ وآخر أنَّ الارادة موجودةٌ عنده كفى ذلك في لزوم الامتثال.
وإذا قلت:- إنّ هذا لا يسمّى بالحكم مادام هو مجرد إرادة.
قلت:- سمّي بذلك أو لم يُسَمَّ فإنّه شيءٌ ليس بمهمّ، فنحن لا نفتّش عن مصطلحاتٍ وإنما المهم هو ملاحظة أثار الحكم وهي وجوب الامتثال والتنجزّ وهذه الآثار تترتّب إذا علمنا بتحقّق الارادة في نفس المولى وإن لم يكن هناك اعتبار.
أجل يمكن أن نقول:- إنّ الارادة لو علمنا بتحقّقها في نفس المولى فمثلاً يريد أن تؤتى له بالشاي مع الماء فتارةً يفترض أنّه يتمكّن من إبراز ذلك ولكنه لا يبرزه بل يسكت ولا يوجد عليه محذورٌ في الابراز، وأخرى نفترض أنّه يريد ذلك ولكن لا يمكنه الابراز، فإذا فرض أنّه يتمكن من الكلام والابراز ومع ذلك لم يتكلّم فيمكن أن نقول بعدم وجوب الامتثال عقلاً، نعم إذا لم يتمكّن من الابراز فآنذاك يحكم العقل بوجوب الامتثال ولكنّ هذه قضيّة أخرى . إذن نحن سلّمنا أنّ الارادة وحدها تكفي ولو من دون اعتبارٍ - ولو في مساحة ضيّقة - إلى لزوم ترتيب آثار الحكم - أعني وجوب الامتثال والتنجّز -، فلو كان الخلاف بين العلمين خلافاً على مستوى ضرورة الاعتبار وعدم ضرورته فالحقّ مع الشيخ العراقي(قده) فإنّه لا ضرورة للاعتبار، وأمّا إذا كان النزاع هو في واقع الحال وما عليه الأمر خارجاً لدى العقلاء فالشيخ النائيني مثلاً يدّعي أن العقلاء وإن لم يكن الاعتبار عندهم ضرورة ولكن جرت سيرتهم على أنّه بعد الارادة يوجد عندهم اعتبار ثم يبرزونه بعد ذلك فالحكم هو الاعتبار دون الارادة، فالاعتبار وإن لم يكن عنصراً ضرورياً إلّا أنّه عنصرٌ عقلائيٌّ قد جرت عليه السيرة العقلائيّة، فإذا كان النزاع على هذا المستوى فالحقّ مع الشيخ النائيني(قده).
والوجدان العرفي والمتشرّعي - إن صحّ التعبير - يقتضي ذلك:-
أمّا الوجدان العرفي والعقلائي:- فلاحظ مجالس التشريع الآن فإنهم بعدما يناقشون القوانين وينتهون إلى وجود مصلحةٍ في قضيّةٍ ما وبعد تحقّق الارادة عندهم يعتبرون ذلك وأنّه كلّ من يريد السفر إلى بهذا البلد فعليه أن يأخذ التأشيرة من السفارة التي في بلده ثم يبرزون هذا الاعتبار على مستوى الإعلام والصحافة، ولكنّ هذا إبرازٌ للحكم، ولكنهم قبل إبرازه - أي مادام في مجلس النواب - فهم يتّفقون بينهم ويسجّلونه كمادّةٍ قانونيّةٍ بأنه ( على كلّ شخص يريد أن يدخل البلد فلابد من أن يحصل على التأشيرة .. )، فالاعتبار قضيّة عقلائيّة يسير عليها العقلاء، وهو أيضاً وسيلةٌ لتحديد ما تشتغل به الذمّة فإنّه أحياناً قد توجد للمولى إرادة لهذا أو ذاك ولكن إِشغال الذمّة لا يكون إلا بلحاظ أحدهما فيستعين بفكرة الاعتبار، من قبيل الصلاة فإنّها مقدّمة للانتهاء عن الفحشاء والمنكر، وهذه الغاية - أي الانتهاء عن الفحشاء والمنكر - يريدها المولى وإلا إذا لم يريدها فلماذا يوجب الصلاة ؟! وهل يحتمل أنّه يوجب الصلاة لغايةٍ لا يريدها ؟!! إنّه لا يحتمل ذلك، فالصلاة يريدها والغاية يريدها ولكن الذي أَشغَل ذمتنا به هو الصلاة أمّا الغاية فهو لم يشغل الذمّة بها، فالواجب علينا هو إقامة الصلاة أمّا الانتهاء عن الفحشاء الذي هو الغاية لم يوجبه علينا بهذا العنوان . أذن الوسيلة لتحديد ما تشتغل به الذمّة في حالة وجود الارادة في موردين - في الصلاة وفي غايتها مثلاً - هو الاعتبار، فالاعتبار وسيلةٌ عقلائيّةٌ يستعين به العقلاء، وإلا فماذا يصنع المولى على رأي الشيخ العراقي(قده) ؟ فإذا لم يكن هناك اعتبارٌ فلا يتمكن أن يحدّد ما تشتغل به الذمّة.
وهو وسيلةٌ شرعيّةٌ:- فإذا قرأنا بعض الآيات الكريمة يمكن أن نفهم منها أنّ الشرع يستعين بفكرة الاعتبار، من قبيل:- ﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ﴾ إنَّ هذا ابرازٌ للاعتبار ونحوٌ من أنحائه والآية الكريمة قد أبرزته، أو قوله تعالى:- ﴿ كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ فالكتابة تعني الاعتبار يعني اعتبر في ذمتكم الصيام كما اعتبره في ذمّة من كان قبلكم، أو في قوله تعالى:- ﴿ ما جعل الله من بحيرة .... ﴾، إنّ التعبير بقوله ( ما جعل ) واضحٌ في مسألة الاعتبار، وإلا على رأي الشيخ العراقي(قده) يلزم أن لا يعبّر بعبارة ( ما جعل ) بل يعبر بعبارة ( ما أراد )، وكقوله تعالى:- ﴿ ما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾ فأيضاً استُعِينَ بلفظ الجعل وهذا يدلّ على أنّ الحكم اعتبارٌ، وهناك آياتٌ أخرى قد يستفاد منها ذلك.
بل يمكن أن نصعّد اللهجة ونقول:- إنّه بناءً إنكار على فكرة الاعتبار وأنّ الحكم هو إرادة يلزم عدم صحّة النسخ، فالمولى ينسخ ماذا فهل ينسخ إرادته ؟ إنّه لا معنى لذلك . إذن فكرة النسخ التي هي مسلّمة بين المسلمين - ولو في عهد النبي - لا تتمّ بناءً على تفسير الأحكام بالإرادة.
وأيضاً لدينا حديث الرفع – أي ( رفع عن أمتي تسعة اشياء ) - فالرفع أمرٌ ممكنٌ في حدّ نفسة ولا يتوقّف في إمكانه أحدٌ والحال أنّه على رأي الشيخ العراقي لا معنى للرفع لأنّه سوف يكون رفعاً للإرادة والارادة لا معنى لرفعها .
وأيضاً بماذا يفسّر الشيخ العراقي الأحكام الوضعيّة - كالزوجيّة والحريّة والرقيّة وما شاكل ذلك - فهل يفسّرها بأنّها إرادات أو أنها اعتبارات ؟ أنّها واقعاً اعتباراتٌ، فنفس الزوجيّة لا تتضمّن معنى الارادة، نعم الزوجية وقعت موضوعاً لحكمٍ فنقول الزوجيّة أرادها الشرع أمّا نفس الزوجيّة فهي حكمٌ وضعيٌّ بلا إشكال، فحينئذٍ إذا كان الحكم عبارة عن الإرادة فيلزم أن تكون الزوجيّة عبارة عن إرادة ولا معنى لأن تكون الزوجيّة إرادة وإنما هي مجرّد اعتبار.
إذن هذه بعض الشواهد على أنّ الفكرة الصحيحة هي فكرة الاعتبار لا فكرة الارادة .
القضيّة الثانية:- لو سلّمنا أنّ الحكم عبارة عن الإرادة - كما ذكر الشيخ العراقي - ولكنّه ذكر أنّ شرط هذه الارادة هو الوجود اللحاظي دون الوجود الخارجي، ونحن لا نسلّم بذلك بل شرط فعليّتها هو الوجود الخارجي.
ودعواه مرفوضةٌ من ناحيتين لأنّها مخالفةٌ للوجدان ومخالفةٌ للبيان - وسوف نناقش أدلّته فما بعد -:-
أمّا أنّها مخالفة للوجدان:- فلأننا نشعر بوجداننا أنّه ليست لنا إرادة عند لحاظ الشرط، فمجرد لحاظ الشرط لا يكفي لفعليّة الارادة، فمثلاً أنا أريد الزواج بعشرة نساءٍ إن شرّع الله عزّ وجلّ ذلك وأنا الآن لاحظت هذا الشرط فهو موجودٌ كلحاظٍ فهل توجد عندي أرادة الآن للزواج بعشرة ؟!!، وأريد قتل النبيَّ إن أمرني الله عزّ وجلّ بذلك ولاحظت هذا الشرط من دون تحقّقه خارجاً فهل معنى ذلك أنّ إرادتي بقتل النبيّ صارت فعليّة فيقال إني الآن أريد قتل النبي ؟!!، وأنا أريد الكفر إذا شرّع الله جوازه فهنا لو كان لحاظ الشرط كافياً لصيرورة الارادة فعليّة فهل إنّي أريد الكفر بالفعل الآن ؟!! إنّ هذا شيءٌ مخالفٌ للوجدان.
وأمّا أنّه مخالفٌ للبيان:- فلأجل أنّ الارادة تحدث للإنسان لأيّ نكتة - فأنا الآن أريد أن آكل الطعام - ؟ لأن الطعام يلائم طبعي فأريده، وأريد شراء الدار ولماذا ؟ وأريد السفر ولماذا ؟ لأنّ شراء الدار والوجود فيها يتلاءم مع طبعي فتحصل إرادةٌ آنذاك، وهكذا بالنسبة إلى السفر، فالارادة للشيء إنّما تحصل لملاءمة ذلك الشيء للطبع، ومعلومٌ أنّ مجرد اللحاظ لا يكفي لصيرورة الشيء ملائماً للطبع، ففي مثال ( أنّي أريد القتل إن أمرني الله عزّ وجلّ به ) إنما تحصل الارادة إذا كانت ملائمة لطبعي وأحاسيسي المقبولة العقلائيّة وهذه الملائمة لا تتحقّق بمجرّد تصوّر أنّ الله عزّ وجلّ يأمر بذلك وإنّما تحصل إذا حصل الأمر خارجاً وبالفعل، وأمّا لحاظ الشرط فلا يكفي لتحقّق الملائمة.