الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

36/03/15

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- ما هو الحكم الشرعي، الاحكام الشرعية مجعولة بنحو القضية الحقيقية – مباحث الحكم.
مباحث الحكم.
ما هو الحكم الشرعي ؟
الحكم الشرعي هو عبارة عن التشريع الالهي بداعي تنظيم حياة المكلف، وهذا مطلب واضح وليس بمهم، وينقسم إلى تكليفي ووضعي، وما هو الفارق بينهما ؟ يتخيّل في بيان الفارق أنّ الحكم التكليفي هو حكمٌ يرتبط بعمل المكلّف مباشرةً بينما الحكم الوضعي لا يرتبط بعمل المكلف مباشرة، فمثلاً في الوجوب الذي هو حكم تكليفي نقول ( تجب الصلاة ) فالصلاة فعلٌ للمكلف، أو ( يجب الحج ) والحج فعلٌ للمكلف، و ( تحرم الغيبة ) والغيبة فعلٌ للمكلف، و ( يستحب السواك ) والسواك فعلٌ للمكلف . إذن الوجوب والحرمة وما شاكل ذلك هما مرتبطان بفعل المكلّف مباشرةً فنقول تجب الصلاة  وتحرم الغيبة وهكذا، بينما في الحكم الوضعي فلا يوجد هذا الارتباط المباشري، فالزوجية مثلاً حكمٌ وضعيٌّ وهي لا ترتبط بعمل المكلّف مباشرةً نعم هي ترتبط بعمل المكلف بشكلٍ غير مباشر إذ عند تحقق الزوجية يجب على الزوجة أن لا تخرج من البيت من دون إذن زوجها وعلى الزوج أن ينفق عليها، فإذن حصل ارتباطٌ بين الحكم الوضعي وبين المكلّف لكنه ليس ارتباطاً مباشرياً.
ولكن الاشكال عليه واضح إذ يقال:- إنّ الصحة والبطلان بناءً على كونهما من الأحكام الوضعية هما يرتبطان بعمل الكلّف مباشرةً فتقول ( صحّت صلاته ) أو ( صلاتك صحيحة ) والصلاة فعلٌ للمكلّف والصحة تعلقت بالصلاة مباشرةً، وهكذا في الفساد فنقول ( صلاتك فاسدة ) أو ( معاملتك فاسدة ) . إذن هذه التفرقة بين الحكم الوضعي والتكليفي بالشكل المذكور قابلة للإشكال.
والمناسب أن يقال:- الحكم التليفي حكم مرتبطٌ بعمل المكلّف بنحو الاقتضاء أو التخيير بينما الحكم الوضعي فليس كذلك - يعني لا يوجد فيه ارتباط بنحو الاقتضاء أو التخيير - فمثلاً نقول ( تجب الصلاة )، إن الوجوب مرتبط بالصلاة بنحو الاقتضاء الالزامي المانع من الترك، أو نقول ( تحرم هذه المعاملة )، إنّ الحرمة مرتبطة بالمكلف بحو الاقتضاء ولكن الاقتضاء التركي، وقد نقول ( يستحب السواك )، إن الاستحباب مرتبط بعمل المكلف بنحو الاقتضاء ولكن ليس الاقتضاء اللزومي بل الاقتضاء بنحو الرجحان، والكراهة أيضاً كذلك، وأمّا الإباحة فهي ليس فيها اقتضاء وإنما فيها تخيير بين الفعل والترك . إذن الحكم التكليفي يرتبط بعمل المكلف بأحد هذين النحوين إمّا بنحو الاقتضاء - وأقسام الاقتضاء أربعة - أو بنحو التخيير كما في الاباحة، وهذا بخلافه في الحكم الوضعي فإنه وإن ارتبط أحياناً بعمل المكلف ولكن ليس فيه اقتضاء أو تخيير فهو لا يتضمّن ائت لزوماً أو رجحاناً أو يلزم أن لا تأتي وإنما الذي يتضمن خصوصيّة الاقتضاء أو التخيير هو الحكم التكليفي فقط، وهذا مطلب واضح أيضاً.
وهناك مطلب آخر:- وهو أن الحكم التكليفي ينقسم إلى خمسة أقسام وقد وقع الكلام في أنّ القسم الخامس - أعني الاباحة - هل هي حكم مجعول من قبل المولى أو أنها ليست بحكم وإنما الاحكام أربعة ؟
قد يقال:- إنها ليست بحكمٍ باعتبار أنّ الاباحة في حقيقتها هي نفي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة فإذا فرض أن الشيء ليس بواجب ولا حرام ولا مستحب ولا مكروه فالإباحة في واقعها هي عدم هذه الأحكام الأربعة، فهي في روحها ليست حكماً مجعولاً ولا يجعل المولى الاباحة بل متى لم يجعل الأحكام الأربعة فنقول حينئذٍ  مباحٌ، ونقصد من مباحٌ يعني ليس له وجوبٌ ولا حرمة ولا استحبابٌ ولا كراهةٌ وإلا فهي ليست حكماً فجعولاً، فالأحكام المجعولة في الشريعة هي أربعة لا خمسة.
ولكن يمكن أن يقال:- إنّ الاباحة على نحوين فتارةً تنشأ من ناحية عدم وجود ملاك يقتضي الالزام بالفعل أو الالزام بالترك أو استحباب الفعل أو كراهته وأخرى يفترض وجود ملاك يقتضي الاباحة إمّا تسهيلاً على العباد أو شيئاً آخر، فإذا فرض أنّه لا ملاك فيها ولنسمّها بالإباحة اللاملاكيّة - وعبّر عنها السيد الشهيد بالإباحة اللاإقتضائية - فإذا كانت غير ناشئة من ملاك فمن المناسب أن تكون غير مجعولة ويكفي في تحقّقها عدم جعلِ واحدٍ من الأحكام الأربعة، وأما إذا فرض أنها كانت بسبب ملاكٍ فمن المناسب أن تكون مجعولةً فإنّ المولى يجعل الإباحة لأجل ذلك الملاك.
الأحكام الشرعية مجعولة بنحو القضيّة الحقيقيّة:-
ذهب الشيخ النائيني(قده)[1] غلى أن الأحكام الشرعية هي مجعولة بنحو القضيّة الحقيقيّة دون الخارجية بمعنى أنّ المولى حينما يجعل حكماً يتصور عنواناً ويأخذ ذلك العنوان بنحو الفرض والتقدير ويقول ﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ﴾ يعني إن فرض وجود مستطيعٍ فلله عليه الحج، فهو يفترض وجود مستطيعٍ ويقول إن فرض تحقّق هذا العنوان فيثبت له هذا الحكم - وهو الوجوب - وهذا ما يصطلح عليه بالقضيّة الحقيقيّة، فجميع الأحكام مجعولة بنحو القضيّة الحقيقيّة، والأحكام الشرعيّة هي عادةً هكذا ولا توجد في باب الأحكام الشرعية قضية خارجية - يعني حكمٌ مجعولٌ بنحو القضيّة الخارجية عادةً - فإنه لو كان مجعولاً بنحو القضيّة الخارجية يعني أنه ينظر إلى هذا المكلّف وذلك المكلّف اللهم في مثل ( نفّذوا جيش أسامة ... ) يعني الأوامر الصادرة من النبي أو الامام فإنها صادرة بنحو القضيّة الخارجيّة فـ ( نفّذوا جيش أسامة ) ناظرة إلى الأشخاص الموجودين، وأما الأحكام الالهية من الله عز وجلّ فعادةً لا يوجد فيها ما كان نحو القضيّة الخارجيّة.
والخلاصة:- إنَّ الطابع العام في الأحكام الشرعية هو أنّها مجعولة بنحو القضيّة الحقيقيّة.


[1]  فوائد الاصول، النائيني، ج1، ص170 – 177.
 أجود التقريرات، الخوئي، ج1، ص125- 127.