الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

36/03/06

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- تقسيم المباحث الأصولية.
تقسيم المباحث الأصولية:-
جديرٌ بالطالب أن يلتفت إلى كيفية تقسيم المباحث الأصوليّة، والشيخ الخراساني(قده) في الكفاية لم يتعرّض إلى هذه القضيّة تحت عنوان ( تقسيم المباحث الأصولية ).
ومقصودي من جدارة تقسيم المباحث الأصولية ليس هو تقسيمها كيفما اتفق وإنما تقسيمها على أساسٍ فنّي، فإنّا نعرف أن علم الأصول دوره دور المموّن والمساعد للفقيه في عمليّة الاستنباط فلابد من تقسيم مباحث علم الأصول على ضوء هذا بحيث يبرز التقسيم هذا الجانب - أيّ جانب مقدّميّة علم الأصول لعلم الفقه - هكذا يلحظ في القسمة، أو يلحظ أساسٌ فنّي آخر.
والمهم الذي أريد أن أقوله هو أنَّ القسمة كيفما اتفق ليست مطلوبةٌ مقبولةٌ وإنما القسمة المقبولة هي التي تقوم على أساسٍ فنّي.
وقسّم صاحب الكفاية(قده) المباحث الأصولية:- فإنّه بعد أن ذكر المقدّمة التي تشتمل على ثلاثة عشر أمراً دخل بعد ذلك في المباحث الأصولية تحت عنوان ( مقاصد ثمانية ) ذكر خمسةً منها في الجزء الأوّل وثلاثة في الجزء الثاني بإضافة خاتمةٍ في الاجتهاد والتقليد، والمقصد الأول كان هو الأوامر والثاني النواهي والثالث المفاهيم والرابع العام والخاص والخامس المطلق والمقيّد والسادس مباحث الحجج والسابع الأصول العمليّة والثامن التعادل والتراجيح والخاتمة في الاجتهاد والتقليد - واعتبرت هذه خاتمة باعتبار أنّها خارجة عن علم الأصول -.
وهذا التقسيم كما ترى:- فإنّه لا يقوم على أساسٍ علميّ وفنّي وإنما حاول(قده) في هذا التقسيم أن يفرز هذا المبحث عن ذاك بحيث لا تتداخل المباحث بعضها في البعض الآخر إلّا أن هذا وحده لا يكفي بل يلزم إضافةً إلى نكتة عدم تداخل المباحث أن يلاحظ في القسمة الأساس الفني.
والشيخ الأصفهاني (قده) في كتابه المعروف بـــ( الأصول على النهج الحديث[1]) ذكر تقسيماً جديداً للمباحث الأصوليّة فقال:- نقسّم المباحث الأصولية إلى أربعة أقسام الأوّل هو المباحث العقلية والثاني هو المباحث اللفظيّة والثالث هو مباحث الحجج والرابع هو مبحث تعارض الأدلة.
أمّا لماذا قدّمت المباحث العقليّة والحال أنّ صاحب الكفاية(قده) قدّم المباحث اللفظيّة بل وأدخل المباحث العقليّة في اللفظيّة ؟
قال:- لشرافة المباحث العقليّة.
ولعل مشكلٍ يشكل ويقول:- اين مباحث الأصول العمليّة إذن ؟
أجبت:- لعلّه أدخلها في مباحث الحجج، يعني هو يفسّر الحجّة بالمعنى اللغوي العام الذي يشمل الأمارات والأصول العمليّة، يعني أنّ الحجة هو ما يكون عذراً ومعذّراً بيد المكلف.
وقال الشيخ المظفر في أصول الفقه:- ( وهذا التقسيم تبنه إليه الشيخ الأصفهاني في دورته الأخيرة وقال إنّه التقسيم الصحيح لأنّه يجمع مسائل علم الأصول ويدخل كلّ مسألة في بابها )[2].
ونحن نقول:- نحن نقبل ذلك ولكن الهدف ليس فقط هو فرز المطالب الأصولية بعضها عن بعضٍ بحيث لا تتداخل بل لابد وأن تكون القسمة كما قلنا على أساسٍ فنّيٍ وهذه القسمة ليست قائمة على أساسٍ فنّي، فهو قدّم المباحث العقليّة لشرافتها وفرزها عن المباحث اللفظيّة ولم يبرز دور المقدّميّة لعلم الأصول.
وانتهت النوبة إلى السيد الخوئي(قده):- فإنّه قام بأكثر من تقسيمٍ ولكن التقسيم الذي انتهى إليه في دورته الأخيرة في المحاضرات[3] أنّه قسّم مباحث علم الأصول إلى أربعة أقسام الأوّل المسائل التي توصل إلى القطع الوجداني بالحكم الشرعي وهي عبارة عن مباحث الملازمات العقليّة فإنها تورث للفقيه القطع العقلي فهي تنتهي إلى القطع الوجداني بالحكم الشرعي،  والقسم الثاني هي المسائل التي توصل إلى القطع التعبّدي بالحكم الشرعي وهذا تدخل فيه مباحث الأمارات - يعني مباحث الحجج فإنها تورث العلم التعبّدي وهو ما يعبّر عنه بالظنّ الخاص -، والقسم الثالث مبحث الأصول العمليّة الشرعيّة، والرابع مبحث الأصول العمليّة العقليّة.
ولا أدري أين يصير مبحث التعارض ؟!! فهل هو ليس من علم الأصول ؟!! وهو غريبٌ.
ولكن الاشكال المتقدّم يأتي:- وهو أنّ هذا التقسيم لم يقم على أساسٍ علمّي.
وقد تدافع وتقول:- إنّه يقوم على أساس علميّ فإن الفقيه في مرحلة الاستنباط يأخذ بالقطع الوجداني بالحكم الشرعي إن كان، فإن لم يكن فالحجة الشرعية - يعني القطع التعبدي -، فإن لم يكن فالأصل العملي، فبالتالي الفقيه يسلك في مرحلة الاستنباط هذه الخطوات الثلاث.
قلنا:- ليست المسائل التي توصل إلى القطع الوجداني بالحكم الشرعي في مرحلة الاستنباط هي مقدّمة على المسائل التي توصل إلى القطع التعبّدي بل القطع التعبّدي قد يكون هو المتقدّم على ما تقتضيه الملازمات العقليّة، فمثلاً إذا انتهينا في مبحث الملازمة إلى أنّ وجوب الشيء يلازم وجوب مقدّمته وحصل القطع العقلي بذلك ولكن إذا كان هناك نصٌّ شرعيٌّ يقول ( لا تجب المقدّمات شرعاً ) فنأخذ بالنقل بلا إشكالٍ فصارت الحجّة الشرعيّة مقدّمة على القطع والملازمة العقليّة، وهذه قضية مسلّمة.
نعم هناك قضيّة فنيّة:- وهي أنّه كيف يتهافت الحكم العقلي مع الحكم الشرعي فإنّه إذا حصل قطعٌ عقليٌّ بوجوب المقدّمة كيف يحكم الشارع بالجواز ؟
وجوابه:- إنّ هذا الحكم العقلي هو حكمٌ تعليقيٌّ، فالعقل يقول إذا وجب الشيء وجبت مقدّماته إذا لم يقل الشارع لا تجب أمّا إذا قال الشارع لا تجب فأنا أسحب حكمي، وهذا بخلاف مثل حكمه بحرمة الظلم ووجوب العدل فإنه حكمٌ تنجيزيّ ليس قابلاً للعليق، أمّا هذا الحكم في غير موردَي العدل والظلم فعادةً هو حكمٌ تعليقيٌّ وليس تنجيزياً
.
إذن إذا حكم الشرع بأن المقدّمة ليست واجبة شرعاً فالعقل يسحب يده عن حكمه، فحينئذٍ صار الشرع مقدّماً على العقل، فليس القطع العقلي والملازمة العقليّة تكون مقدّمة دائماً على القطع التعبّدي.
إذن هذا التقسيم لو لاحظ فيه السيد الخوئي(قده) أنّ الفقيه يسلك ذلك في مرحلة الاستنباط فيرد عليه ما أشرنا إليه، وعلى هذا الأساس يكون هذا التقسيم ليس قائماً على أساسٍ فنّي أيضاً.
والأنسب أن يقال:- إنّ الفقيه في مرحلة الاستنباط يأخذ بالدليل الاجتهادي إن كان - والمقصود من الدليل الاجتهادي بمعناه الواسع فالأمارات كالخبر وغيره أدلة اجتهاديّة وكلّ الظواهر أدلّة اجتهادية والأحكام العقليّة أدلة اجتهادية - وإن لم يكن فالأصل العلمي أو ما يعبّر عنه بالدليل الفقاهتي، وعلى هذا الأساس مادام في عملية الاستنباط هو يسلك الدليل الاجتهادي أوّلاً ثم الدليل الفقاهتي فمن المناسب أن نقسّم المباحث الأصوليّة إلى قسمين قسمٌ يرتبط بمبحث الدليل الاجتهادي وقسٌم يرتبط بمحث الدليل الفقاهتي، إنّ هذا تقسيمٌ قائمٌ على أساسٍ فنّي حيث إنّه أُبرِز فيه دور علم الأصول حيث إنّ دوره دور المقدّميّة إلى علم الفقه فمن المناسب أن تكون الأبحاث بهذا الشكل.
نعم نذكر قبل ذلك مبحثاً عن القطع باعتبار أنّ النتائج التي ننتهي إليها في مباحث الدليل الاجتهادي لا تكون إلا إذا بلغت درجة القطع فلابد وأن نبحث أنّ القطع من قال هو حجّة ؟! فيذكر هذا في البداية لأنّه أصلٌ لابدّ من تنقيحه وجميع الأمور ترجع إلى حجيّة القطع فلابد من إثبات حجيته في المرحلة الأولى.
كما نقوم بتقسيماتٍ ثانويّةٍ داخل هذا التقسيم الأساسي فالتقسيم الأساسي هو مبحث الدليل الاجتهادي ثم مبحث الدليل الفقاهتي وفي مبحث الدليل الاجتهادي توجد تقسيماتٍ ثانويةٍ متعدّدة نقوم بها كما لو جعلنا فصلاً في حجيّة الظهور وفصلاً في إثبات أصل الصدور وفصلاً في ما هي الظواهر الثابتة، وهذه التقسيمات الثانوية ليست مهمّة والمهم هو التقسيم الأوّلي الأساسي، ثم بعد ذلك نذكر مبحثاً عن تعارض الأدلة.
فتصير النتيجة:- هي أنّ بحث عن القطع يكون أوّلاً ثم بحث الدليل الاجتهادي ثم بحث عن الدليل الفقاهتي ثم عن تعارض الأدلّة فإنّ هذا قائمٌ على أساسٍ فنّي كما أشرنا ليه.
ولعل هذا قريبٌ من التقسيم الذي ذكره الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل فإنّه قال في الرسائل:- ( بسم الله الرحمن الرحيم فاعلم أن المكلف إذا التفت غلى حكم شرعي فإما أن يحصل له القطع أو الظن أو الشك ) ثم أخذ يبحث مرّة عن القطع ثم عن الظن - الذي هو مبحث الأمارات - ثم عن الشك الذي هو مبحث الأصول العمليّة، ولكن الشيخ الأعظم(قده) ذكر حالات للمكلّف وأنّ حالاته إذا التفت إلى الحكم الشرعي فهي لا تخلو من أحد أمورٍ ثلاثةٍ هي إمّا القطع أو الظنّ أو الشك، وقال إنّ حكم القطع الحجيّة وأثبت ذلك، وقال إنَّ حكم الظنّ التمسّك به إن كان ظنّاً خاصّاً، وهو بحكم الشكّ إن كان ظنّا غير خاصٍ، وحكم الشك هو الرجوع إلى الأصول العمليّة.
وهو تقسيمٌ فنّيٌ ولكن بلحاظ حالات المكلّف، بينما التقسيم الذي أشرنا إليه فهو تقسيمٌ بلحاظ ما يسلكه الفقيه في مقام الاستنباط مضافاً إلى إبراز دور علم الأصول، فما ذكرناه هو التقسيم المناسب.


[1]  الأصول على النهج الحديث، الاصفهاني، ص22، ط جامعة مدرسين في قم المقدسة.
[2]  أصول الفقه، المظفر، ج1، ص7.
[3]  محاضرات في أصول الفقه، الخوئي، ج1، ص6 ط قديمة، تراث السيد الخوئي، تسلسل43، ص1 ط جديدة.