الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

36/03/04

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- تنبيهات الأخبار العلاجية- التنبيه الخامس.
قلت:- نحن نسلّم أنّ تساوي دائرة الخاصّين يجعل ظهور الخاصّين بلحاظ مادّة الاجتماع أقوى من ظهور العام، ولكن في نفس الوقت ندّعي أنّ الخصوصيّة الثانية اليت أشرنا إليها هي بنفسها صالحة للتمسّك بها بقطع النظر عن أقوائية الدلالة فإنها نكتة مستقلّة وإن عاش إلى جنبها قوّة الدلالة وصار الخاصّان أقوى دلالةً ولكن هي بنفسها صالحة لأن تكون نكتة لتساقط الخاصيّن دون العام باعتبار أنّ مادّة المعارضة كما نعرف هي الطائر الذي لا يؤكل لحمه والخاص الأوّل الذي قال ( كلّ ما يطير فلا بأس ببوله ) هي ناظرة إلى هذه مادّة الاجتماع لأن المفروض أنّه أخذ عنوان الطائر في هذه الرواية ومادّة الاجتماع أخذ فيها عنوان الطائر أيضاً غايته مع إضافةٍ - يعني إضافة ما لا يؤكل لحمه - فهذه الرواية أخذت قيد الطائر وبالإطلاق تشمل ما لا يؤكل لحمه - يعني من الطائر - والرواية الثانية أخذت عنوان ما لا يؤكل لحمه الذي هو جزءٌ من مورد مادّة المعارضة، فصارت الروايتان ناظرتين إلى مادّة الاجتماع بينما العام لم يؤخذ فيه عنوان الطائر كما لم يؤخذ فيه عنوان ما لا يؤكل لحمه بل أخذ فيه عنوان ( البول يصيب الثوب )، وعلى هذا الأساس يمكن أن يقال إنّه مادام الخاصّان ناظرين إلى مادّة الاجتماع نظراً مباشرياً بخلاف العام فإنه ليس ناظراً كذلك فهذه بنفسها نكتة صالحة لأن تختصّ المعارضة بالخاصّين بقطع النظر عن قوّة دلالتهما، والذي يشهد بما نقول هو أننا نشعر بالوجدان في مثال الخمر التي اختلفت الروايات فيها -  أي في الخمر - أنهما جميعاً متعارضة فهذه الطائفة تعارض تلك إذ الجميع ناظر إلى الخمر ومحطّ النظر هو الخمر غايته تلك الطائفة تنجّسه وهذه تطهّره ومادام كذلك فنشعر بالمعارضة وبلزوم التساقط جميعاً، ونشعر بأنّ ما ذكره السيد الشهيد(قده) هو شيءٌ على خلاف الوجدان، نعم هو صناعيٌّ ظريفٌ إلا أنّ ظرافة الصناعة شيءٌ والوجدان شيءٌ آخر ولا ينبغي أن نهجر الوجدان لأجل الصناعة، فنحن نشعر بوجود فارقٍ بين مثال الخاصّين وبين مورد مثال الخمر ففي مورد الخاصّين وجداننا يقتضي كما فعل الفقهاء ووافق السيد الشهيد على ذلك - يعني تحتص المعارضة بالخاصين والعام يكون مرجعاً -،  كما يقتضي وجداننا ًفي مثال الخمر ما ذكره الفقهاء أيضاً - لا ما ذكره السيد الشهيد – من أنّ المعارضة متحقّقة بين هذه الطائفة بكلّها مع تلك الطائفة بكلّها والمناسب سقوط الجميع، والذي يبرر هذا الوجدان هو ما أشرنا إليه من أنّ روايات الطائفة الثانية ناظرة إلى موضوعٍ واحدٍ وهو الخمر ولكنّها اختلفت في الحكم فبعضها يقول هو طاهرٌ وبعضها الآخر يقول هو ليس بطاهرٍ، فالمعارضة مستتبّة كما هي مستتبّة بين الخاصّين - يعني في مثال الخاصين -.
إذن كون الدليلين ناظرين إلى موضوعٍ واحدٍ بدرجةٍ واحدةٍ هو نكتةٌ عرفيّةٌ صالحة لاختصاص التعارض والتساقط بهذين الدليلين بقطع النظر عن مسألة قوّة الدلالة وضعفها.
إن قلت:- أوليس قد قرأنا أنّ ذا القرينة لا يعارض القرينة ؟ فإنّ هذا الكلام لا شكّ فيه وهو شيءٌ مقبولٌ ولا أظن أنّ أحداً يرفضه وأنت الآن تريد أن تجعل ذا القرينة معارضاً للقرينة إذ لو رفضنا كلام السيد الشهيد(قده) كانت النتيجة هي أنّ ذا القرينة يعارض القرينة ؟!
قلت:- نحن نقبل هذه الفكرة لكن بشرط أن نكون نحن مع ذا القرينة والقرينة من دون زيادةٍ، أمّا إذا افترضنا وجود زيادةٍ بأن كانت القرينة في نفسها معارَضة فلا نقبل في مثل هذه الحالة أنّ ذا القرينة لا يعارض القرينة بل نقول إنّ الجميع يدخل في عمليّة المعارضة وتلك القاعدة خاصّة بما إذا كان هذا بانفراده وذاك بانفراده من دون انضمام معارضةٍ إلى القرينة.
إن قلت:- إنّا نعرف من مشرب الفقهاء أنّ الصريح مقدّمٌ على الظاهر وبناءً على هذا يكون المناسب هو ما أفاده السيد الشهيد(قده) حيث إنّه يوجد عندنا صريحٌ في روايات نجاسة الخمر وظاهرٌ في طهارته والصريح مقدّمٌ على الظاهر، فبالتالي يكون الحقّ بحسب النتيجة مع السيد الشهيد(قده).
قلت:- إنَّ الصريح مقدّمٌ على الظاهر إذا فرض أنّه لم يكن الصريح معارضاً بصريحٍ مثله، والمفروض في مقامنا أنّ الصريح من هذا الجانب معارضٌ بالصريح من ذلك الجانب فلا تأتي قاعدة أن الصريح مقدّمٌ على الظاهر.
والخلاصة من كل ما ذكرناه:- إنّ ذا القرينة وإن كان لا يعارض القرينة لكن شريطة أن القرينة لا يكون لها معارض وإلا دخل الجميع في المعارضة . وعرفنا أيضاً أنّ الصريح مقدّمٌ على الظاهر ولكن شريطة أنّ الصريح لا يكون معارَضاً بصريحٍ مثله وإلا دخل الجميع في المعارضة . وعرفنا أيضاً أنّ الوجدان قاضٍ بصحّة ما ذكره الفقهاء في كِلا الموردين وتبرير هذا الوجدان لا يتمّ إلا بما أشرنا إليه، ففي مورد الخاصّين خصّصوا المعارضة بالخاصّين باعتبار أنّهما ناظران إلى مادّةٍ واحدةٍ وموضوعٍ واحدٍ ونفس النظر إلى موضوعٍ واحدٍ هو بنفسه صالحٌ لاختصاص التعارض بهذين الدليلين الناظرين إلى الموضوع الواحد، وفي ذلك المورد جعلوا المعارضة بين الجميع أيضاً هو المناسب لأنّ الجميع ناظر إلى الخمر ولكن البعض يطهّره والبعض الآخر لا يطهّره فالمناسب أن تقع المعارضة بين الجميع.
المناقشة الثانية:- إنّه وورد في صحيحة الراوندي والتي يأخذ بها السيد الشيد أيضاً:- ( إذا جاءكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله .. ) والسؤال هو :- على ماذا ينطبق عنوان الحديثان المختلفان في المورد الأول - يعني في مثال الخاصين - وفي المثال الثاني - يعني في مثال روايات الخمر - ؟ وتماشى أنت مع وجدانك، فإنه في المورد الأوّل ينطبق عنوان حدثين مختلفين على الخاصّين - يعني على الرواية التي تقول ( كلّ ما يطير فبوله طاهر ) وعلى الرواية الثانية التي تقول ( ما لا يؤكل لحمه من الحيوان فهو نجس ) - أما تلك الرواية التي تقول ( البول يصيب الثوب، قال:- اغسله مرتين ) - يعني أنّه نجس - فلا يصدق عليها عرفاً أنّها من الحديثين المختلفين، فعنوان الحديثين المختلفين ينطبق على الخاصّين فقط وهذا ما يوافقنا عليه السيد الشهيد(قده) أيضاً، فمادام التعارض كان مستقراً فنلاحظ الموافق للكتاب والمخالف للقوم ... وغير ذلك، وهذه نقطة موافقة بيننا وبين السيد الشهيد.
ونذهب إلى المورد الثاني - يعني الروايات المختلفة في مسألة الخمرة - فعلى ماذا ينطبق عنوان الحديثين المختلفين ؟ إنّه يصدق على هذه الطائفة الدالة على النجاسة بجميع مراتبها وعلى تلك الطائفة الدالة على الطهارة بجميع مراتبها، فهو صادق على الاثنين معاً لا أنّه صادقٌ على ما تساوت فيهما الرتبة فقط ويبقى الأخير - وهو الأضعف ظهوراً - ليس داخلاً في عنوان الحديثين المختلفين، كلّا بل هو مشمولٌ لهذا العنوان، وعلى هذا الأساس من المناسب أن نلاحظ هذه الطائفة بمجموعها وباختلاف مراتبها مع تلك الطائفة بمجموعها وباختلاف مراتبها فإنّ الوجدان قاضٍ بذلك، فإذا أردنا أن نتساير مع صحيحة الراوندي فالمعارضة مستتبّة بالشكل الذي ذكرناه لا أن نقول إنَّ المعارضة تكون بين ما تساوت فيه الرتبة فقط ويبقى الأخير الذي هو أضعف ظهوراً هو المرجع فإنّ هذا كلامٌ مرفوضٌ، بخلافه في المورد الأوّل فإنّه كلامٌ  مقبولٌ فنقول إنّ عنوان الحديثين المختلفين ينطبق على الخاصّين فقط فإن كان هناك مرجّحات فبها وإن لم تكن هناك مرجّحات فيحصل التساقط ويكون المرجع هو ذلك العام.
إذن هذا الكلام - أي حديثين مختلفين - مقبولٌ على الخاصّين في المورد الأوّل دونه في المورد الثاني.
أذن فكرة التصنيف إلى الرتب فكرة مخالفة للوجدان، نعم ربما تكون موافقة للصناعة وإن كانت مخالفة لصحيحة الراوندي.

وبهذا تنتهي الدورة الثالثة من بحث الأصول بحمده ومنّه.