الموضوع:- تنبيهات الأخبار
العلاجية- التنبيه الثاني.
الوجه الثاني:- إن أخبار الترجيح
يلزم حملها على الاستحباب وذلك لبيانين
[1]:-
البيان الأوّل:- لو لم تحمل أخبار
الترجيح على ذلك يلزم أن يكون إطلاق أخبار التخيير وارداً لبيان الفرد النادر وهو
مستهجنٌ عرفاً، فإن الاطلاق وإن كان يشمل الفرد النادر ولكنه لا يختصّ به وهنا
نريد أن ندعي أنّه يلزم اختصاص أخبار التخيير بالفرد النادر لو حملنا أخبار
الترجيح على اللزوم دون الاستحباب، ولماذا يلزم ذلك ؟ باعتبار أنّ حالة فقدان
جميع المرجّحات بين المتعارضين هي حالة نادرة فإنه عادةً يوجد أحد المرجّحات لا
أنّ جميع المرجّحات مفقودة، إنّ حالة فقدان جميع المرجّحات هي حالة نادرة فلو
كانت أخبار الترجيح واردة لبيان اللزوم إعمال المرجّحات فسوف تصير أخبار التخيير
ناظرة إلى حالة عدم وجود المرجّحات وهي كما قلنا حالةٌ نادرةٌ ومن المستهجن ورود
المطلق لبيان الفرد النادر، فالمطلق وإن كان يعمّ الفرد النادر ولكن اختصاصه به
شيءٌ مستهجن.
البيان الثاني:- لو كان إعمال المرجّحات
لازماً والتخيير لا يجوز إلا عند فقدان المرجّحات يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، يعني أنّ أخبار التخيير تكون واردة للعلاج وفي مورد حاجة المكلف ولكن مع ذلك يؤخر
الامام البيان وأنّ إعمال التخيير مشروطٌ بفقدان المرجّحات فلو كان إعمال المرجّحات
لازماً فهذا يعني أنّ إعمال التخيير مشروطٌ بفقدان المرجّحات والامام قد أخّر هذا
وهو تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو مستهجنٌ قبيح ولا يجوز ويتنافى مع حكم
الحكيم.
إذن
يلزم أن نقول إنّ إعمال المرجّحات ليس بلازمٍ وإنما هو أفضل ومستحب فلا يلزم
حينئذٍ من تأخير بيان المرجّحات تأخيرٌ للبيان عن وقت الحاجة وإنما يلزم تأخير
بيان الشيء المستحب والراجح.
ويرد عليه:-أمّا بالنسبة إلى البيان الأوّل ففيه:-
إنّا لا نسلّم أنّ حالة فقدان المرجّحات فردٌ نادرٌ فإن من له مراجعات فقهيّة يعرف
هذا المعنى، فالكثير من المسائل لا يوجد حكمها في الكتاب الكريم كتفاصيل الخمس
والزكاة والصلاة والحج والاعتكاف ...، فعلى هذا الأساس يمكن أن نفترض أنّ الحكم
لم يتعرّض له الكتاب الكريم من قربٍ ولا من بُعدٍ.
وهكذا
بالنسبة إلى مخالفة القوم إذ يمكن أن يكون القوم مختلفون فيما بينهم وما داموا
مختلفين فلا ترجيح بمخالفتهم وهذه حالة ليست نادرة.
وخذ
مثالاً على ذلك وقِس غيره عليه:- فمثلاً بالنسبة إلى طهارة ونجاسة الكتابي فقد وردت
طائفتان من الروايات بعضها يستفاد منها نجاسة الكتابي وبعضها يستفاد منها الطهارة، ففي مثل هذه الحالة إذا رجعنا إلى الكتاب الكريم هل توجد فيها آية يستفاد منها
الطهارة أو النجاسة للكتابي ؟ إنّه بناءً على أنّ الآية الكريمة التي تقول:-
﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ﴾
[2]هي ناظرة إلى النجاسة المعنويّة دون النجاسة الخبثيّة الفقهيّة فالآية لا تعرّض
لها إلى الطهارة أو النجاسة وإنما هي ناظرة إلى قضيّة معنويّة فلا يمكن حينئذٍ الترجيح
بموافقة الكتاب أو بمخالفته، وإذا رجعنا إلى القوم فهم يوجد بينهم اختلاف، فإذن
كلا المرجّحين ليس بموجودٍ، هذه حالة ومثيلاتها ليست قليلة.
أذن
حالة فقدان المرجّحات جميعاً ليست حالة نادرة كما يقول الشيخ الخراساني(قده) حتى
يرد ما ذكره من أنّ أخبار التخيير لا يمكن حملها على حالة فقدان جميع المرجّحات،
بل إنّ مقبولة ابن حنظلة فرض فيها السائل - أعني أبن حنظلة - المعارضة بين
الروايتين اللتين استند إليهما الحاكمان والامام عليه السلام رجّح أوّلاً بالشهرة، فقال له:- إذا كانا متوافقين ؟ فرجح الامام بالكتاب الكريم ومخالفة القوم، ثم
أخذ الإمام يسترسل والسائل يفترض أنّ كلّ المرجّحات ليست موجودة إلى أن قال:-
( إذن أرجئه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهة خير من
الاقتحام في الهلكة ) [3]. إذن من هنا يتّضح أنّ
هذه الحالة ليست بنادرة فلذلك أخذ الراوي يسأل عنها.
إذن
بيانه الأوّل قابل للمناقشة بما أشرنا إليه.
وأما البيان الثاني فيرد عليه:-
إنّ ذلك يتمّ في باب القضايا الخارجية دون القضايا الحقيقيّة، ففي القضيّة
الخارجيّة يفترض أن السؤال هو عن واقعةٍ فعليّةٍ الآن بأن يفترض السائل ويقول
للإمام عليه السلام أنا عندي خبران بالفعل خبرٌ دلّ على نجاسة الخمر وخبرٌ آخر دلّ
على طهارته فماذا أصنع تجاه هذين الخبرين ؟ إنه سؤالٌ عن قضيّةٍ خارجيّةٍ ويريد
السائل أن يتصرّف الآن فإذا حُكم بتقديم أخبار الطهارة فحينئذٍ يمكنه أن يساور
الخمر ولا يغسل ثوبه إذا أصابه الخمر.
أو
لو فرض أن السائل سأل وقال ( دمٌ خرج من يدي ) والامام قال ( اغسله ) وأطلق ولم
يبيّن أنه اغسله ثلاث مرات فلو كان الواجب هو الثلاث مرات يلزم تأخير البيان عن
وقت الحاجة إذ أنّي سوف اغسله مرّةً واحدةً والحال أنّه يحتاج إلى ثلاث مرّات وهذا
قبيحٌ ولا يجوز، أمّا إذا فرض أن السؤال كان سؤالاً كلّياً - وليس عن قضيّة
فعليّة خارجيّة وقعت بالفعل ونريد أن نتعامل معها بالفعل - وهذا هو الطابع العام
في النصوص فإنها عادةً ناظرة إلى القضايا الكلّية والقضايا الحقيقيّة فلا يلزم من
ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة إذ وقت الحاجة ليس هو الآن إذ لم يفترض وقوع
الحادثة الآن حتى يلزم من تأخير البيان تأخيره عن وقت الحاجة لأنّا لم نفترض قضيّةً
فعليّةً خارجيّةً وإنما هي قضيّة فعليّة كليّة - وهذه نكتة يجدر الالتفات إليها -،
وحيث إنّ مقامنا من القضيّة الكليّة الحقيقيّة دون الخارجيّة فلا محذور في التأخير
ولا يلزم محذور تأخير البيان عن وقت الحاجة.
على أنه يمكن أن يقال:- إنّه حتى في القضايا
الخارجيّة لا محذور في تأخير البيان ما دمنا نفترض أنّ التدرّج في بيان الأحكام هو
لأجل المصلحة، فإنه مادام لأجل المصلحة فلا بأس بتأخير البيان في القضيّة الخارجيّة
والفعليّة، وهذه نكتة ينبغي الالتفات إليها أيضاً.
وأمّا ما أفاده في الوجه الثالث فيرد عليه:-
إنّ ما أفاده وجيهٌ لو كان المستند منحصراً بهذين ولكن تقدّم منّا أنّه يوجد مستدٌ
آخر ليس بضعيف السند وهو لم يشر إليه بل ولا استاذه الشيخ الأعظم، وهو رواية
الراوندي فإنها واردة في الخبرين دون الحاكمين والسند يمكن تتميمه على ما أشرنا
إليه خصوصاً على مباني القدماء - لأن مبانيهم في باب الرجال والأسانيد مبنية على
السهولة لا على الدقّة التي نُعمِلها نحن -، فعلى هذا الأساس لا إشكال من هذه
الناحية بعدما كان السند والدلالة تامّين.