الموضوع:- تنبيهات الأخبار
العلاجية- التنبيه الأول.
ومقصودي
من عدم الشمول هو الانصراف، يعني أنَّ هذا العبير منصرفٌ عرفاً عن حالة إمكان
الجمع العرفي، فلا يقولن قائل إنّ العام والخاص يصدق عليهما أنهما حكمان مختلفان
وحديثان مختلفان، فإذا قال أحدٌ الحديثين ( كلّ بيعٍ حلال ) والحديث الثاني قال (
بيع المجهول أو البيع مع الصبي ليس بممضي ) فهذا يصدق أنّه مختلفان، فجوابنا له:-
هو نعم أنّ هذا بادئ ذي بدءٍ يصدق وكألفاظ ولغة يصدق ولكن كعرفٍ فهو يرى الانصراف
لذلك فلو بيّنا للإنسان العرفي وقلنا له إنّ هذا عامّ وخاصّ فالخاص سوف يخصّص
العام فيقول نعم هذا صحيحٌ ولكنّي لم أكن ملتفتاً إلى ذلك، يعني هو يشعر أنّ حكمه
بأنه مختلفان هي قضيّة بدويّة وإلا فالانصراف موجودٌ.
الوجه الثاني:- لا إشكال في أنّ
عمومات الكتاب الكريم ومطلقاته قابلة للتخصيص بالأخبار والتقييد بها ولا نحتمل أنّ
فقيهاً يتوقّف في ذلك إذ لو لم نخصّص أو لم نقيّد عمومات الكتاب أو مطلقاته
بالأخبار المقيّدة أو المخصّصة يلزم من ذلك تأسيس فقهٍ جديدٍ، فالكتاب الكريم يقول:-
﴿ أحل الله البيع ﴾ وجاءت روايات
دلّت على أنّ بيع المجهول باطل وبيع الصبي باطل وبيع الكالي بالكالي باطل وبيع
المشتمل على شرطٍ حرامٍ باطل ... وهكذا الكثير، إنّه لا نحتمل أنّ فقيهاً يتوقف
في تخصيص تلك العمومات أو الاطلاقات بهذه الأخبار الخاصّة وإلّا فسوف ينشأ فقه جديد
. فجزماً عمومات الكتاب ومطلقاته يجوز تقييدها بالروايات الخاصّة أو المقيّدة وهذا
لا ينبغي الكلام فيه.
بل
يمكن التقييد والتخصيص بين آية وآية أخرى بلا إشكال وهو شيءٌ مقبولٌ ووجيهٌ، من
قبيل قوله تعالى:-
﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن
ثلاثة قروء ﴾[1]، وهي كما ترى مطلقةٌ أو عامّةٌ تشمل كلّ مطلّقة، وجاءت آية ثانية وقالت:-
﴿ اللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن
ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾[2].إذن
هذه الآية أخرجت الحامل من الآية السابقة وجعلت عدّتها وضع الحمل، كما وأخرجت
اللائي لم يحضن والمرتابة فإن العدّة فيها ثلاثة أشهر، فهذه الآية مقيّدة لتلك
الآية ولا نحتمل أنّ فقيهاً لا يُعمِل هذا التقييد ويقول إنَّ بينهما تعارضاً ولا
نُعمِل التقييد.
ومثل
قوله تعالى:-
﴿ يا ايها الذين آمنوا إذا نكحتم
المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهنَّ فمالم عليهن من عدّة تعتدّونها فمتعوهن
وسرحوهنَّ سراحاً جميلاً ﴾[3]، تدل هذه الآية الكريمة على أنّ الرجل إذا طلق زوجته قبل أن يمسّها فالحكم هو (
متعوهن ) يعني يدفع إليها المتعة يعني الهدية - وهل هذا حكم مستحب أو واجب فهذا
مطلب آخر - فالآية دلّت على أنّ التي لم تُمسّ تدفع إليها المتعة وهي مطلقة سواء
فرض أنّه كان هناك مهرٌ قد قرّر في العقد أو لا، وجاءت آية أخرى وقالت:-
﴿ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو
تفرضوا لهن فريضة فمتعوهنَّ على الموسر قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقّاً
على المحسنين، وإن طلقتموهنَّ من قبل أن تمسوهنَّ وقد فرضتم لهنَّ فريضةً فنصف ما
فرضتم ﴾[4]
[5]إنّها
دلت على أنّ المرأة المطلّقة قبل الدخول إذا فرض أنه قد قرّر لها مهر فيدفع نصف
المهر، فهل يقول قائل إنّ هذه الآية معارضة لتلك الآية ولا نُعمِل عمليّة التقييد
أو التخصيص ؟ إنّه لا يحتمل هذا، فهذه تكون مقيّدة لتلك الآية التي دلت على ثبوت
المتعة بنحو الإطلاق من دون تفصيلٍ بين أن قرّر المهر أو لم يقرّر المهر.
إذن
عمليّة التقييد عمليّة أو التخصيص مسلّمة حتى بين آيةٍ وآية أخرى.
بل
نقول أكثر:- وهو أنّ صحيحة الراوندي يفهم منها أنّ الخبر يخصّص الكتاب من دون مانعٍ
وليست هذه معارضة ولا نُعمِل المرجّحات لأنها قالت:-
(
إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه )، يعني عند المعارضة بين الخبرين نرجّح الموافق للكتاب أمّا إذا لم يكن
بينهما تعارضٌ بأن جاء الخبر وحده من دون وجود معارضٍ له فحينئذٍ يؤخذ به حتى إذا
لم يكن موافقاً للكتاب - بأن كان مقيّداً أو مخصّصاً - وإنما يقدّم الموافق للكتاب
في حالة المعارضة وإلا ففي حالة عدم المعارضة يؤخذ بالخبر رغم أنّه مخالفٌ للكتاب
ويُعمَل التخصيص فيخصّص الكتاب أو يقيّده.
فإذا
قبلنا بهذا فيلزم أن يخصّص الخبر الآخر أيضاً، يعني إذا صحّ أن يخصّص الخبرُ
الآيةَ صحّ أن يخصّص الخبرُ الخبرَ الآخر ـ فإذا جاء خبرٌ عامٌّ فهذا الخبر الخاص
يخصّصه إمّا لعدم الفرق أو بالأولويّة . فإذن لا وجه للتوقّف من هذه الناحية ولا معنى
لتطبيق أخبار المرجّحات أو التخيير في مورد إمكان التخصيص أن التقييد.
نعم
هذا الوجه الذي ذكرته يختصّ بموارد التقييد والتخصيص فقط ولا يعمّ كلّ موارد الجمع
العرفي وإنما هو في هذه الدائرة الضيّقة، فيثبت من خلال هذا البيان أنّه في موارد
الخاص والعام أو المطلق والمقيد لا نطبّق أخبار الترجيح أو أخبار التخيير وإنما نُعمِل
التخصيص أو التقييد.
إذن
هذا الوجه الثاني ينفعنا ولكن في هذه الدائرة الضيّقة كما أشرت.
الوجه الثالث:- إنّ سيرة المتشرّعة
من الفقهاء قد جرت على أنّه في موارد الجمع العرفي يجمع بين الخبرين، ولا يقولن
قائل إنّ هذه السيرة مردوعٌ عنها بنفس أخبار الترجيح أو أخبار التخيير فتسقط عن
الحجيّة، كلّا فإنّ هذا مرفوضٌ إذ يتمّ فيما إذا كانت السيرة سيرة عقلائية فإن
شرط حجّيتها هو عدم الردع عنها ولكن نحن ندّعي في هذا الوجه انعقاد سيرة المتشرعة
يعني وصلت إليهم من الشرع – وإلا فسوف لا تكون سيرة متشرعة - فحينئذٍ لا تحتاج إلى
إمضاءٍ وعدم ردعٍ فهي حجّة وتكون مقيّدة لمطلقات أخبار الترجيح أو أخبار التخيير -
بعبارة أخرى الأخبار العلاجيّة -.
بل
حتى لو كانت إطلاقات أخبار الترجيح والتخيير فهي مادامت بمرأى وبمسمع من المتشرعة
ورغم ذلك لا يعيرون أهميّة لها فذلك يدل على أنها ليست صالحة للردع وأن المقصود
بها هو شيء آخر غير مورد إمكان الجمع العرفي.
إذن
هذه ثلاثة وجوه يمكن التمسك بها في هذا المجال والفارق بينها واضحٌ، فالأول ناظرٌ
إلى انصراف أخبار العلاج، والثاني ناظر إلى أنّ عمليّة التقييد والتخصيص مقبولة
بلحاظ الآيات الكريمة فكيف بالروايات الشريفة، والثالث ناظر إلى سيرة المتشرّعة
وأنّها تكون مخصّصة لإطلاق أخبار العلاج سواء كانت أخبار ترجيحٍ أو أخبار تخييرٍ،
هكذا ينبغي أن يقال في توجيه عدم شمول أخبار العلاج لمورد إمكان الجمع العرفي.
ولكن
استدرك وأقول:- إنّ هذا الوجه الثالث يختصّ بموارد الجمع العرفي الواضحة عند العرف
بحيث انعقدت عليه السيرة جزماً ولا يعمّ جميع موارد الجمع العرفي بل القدر المتيقن
منها والذي انعقدت السيرة عليه بنحو الجزم . وهذا الوجه أيضاً دائرته ضيّقة
كالثاني، والذي ينفعنا بلحاظ الجميع هو الأوّل فقط.
هكذا
ينبغي أن يقال في توجيه عدم شمول أخبار العلاج لموارد الجمع العرفي لهذه البيانات
الثلاثة.
لا أن يقال:- بأنّ ظاهر أخبار
العلاج هو تحيّر السائل فالسائل يسأل عن الخبرين المتعارضين وظاهره التحيّر والتحيّر
إنّما يكون في موردٍ لا يمكن فيه الجمع العرفي أمّا إذا أمكن الجمع العرفي فلا تحيّر، فنفس ظهور أخبار العلاج في التحيّر هو قرينة على عدم نظرها إلى مورد إمكان الجمع
العرفي.
فإنّ هذا البيان قابل للمناقشة وذلك:-أوّلاً:- باعتبار أنّ بعض أخبار العلاج لم
يرد فيها السؤال وإنما الإمام عليه السلام ابتداءً أعطى الحكم فنتمسّك بإطلاق هذه، نعم التي فيها سؤال من السائل يصير نفس السؤال قرينةً على التحيّر - يعني على
عدم إمكان الجمع العرفي - أما هذه التي ليس فيها سؤالٌ من السائل فيعود إطلاقها
ثابتاً ولا مانع من التمسّك به، من قبيل رواية الراوندي فإنّه ورد فيها
:- ( إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله
.. ).ثانياً:- إن التحيّر لا يصير قرينةً على
الاختصاص بمورد التعارض المستقر وعدم الشمول لمورد التعارض غير المستقر وذلك إمّا
باعتبار أنّ التحيّر موجودٌ حتى في موارد إمكان الجمع العرفي ولكنه تحيّرٌ بدويٌّ
– إن صح التعبير - فلأجل التحيّر الابتدائي سأل السائل، من قبيل أنّ يأتي الآن
شخصٌ ويسأل سؤالاً وعنده حيرةٌ ولكنها حيرة ابتدائية ولكنّه بعد ما يُجاب يقول (
عفوا إني لم أكن ملتفتاً إلى ذلك )، فالحيرة الابتدائية قد تدعو بنفسها إلى طرح
السؤال، والحيرة الابتدائية يمكن أن يقال هي موجودةٌ في مورد التعارض غير المستقر، أو أن الحيرة ناشئة من احتمال أنّ الشارع ردع أو يردع عن هذه الطريقة العرفيّة،
فهو متحيرٌ من هذه الناحية - أي من ناحية احتمال وجود ردع شرعي - فهو يسأل ويقول (
ماذا نفعل ؟ ) من باب أنّه يحتمل وجود ردعٍ عن هذه الطريقة العقلائيّة العرفيّة، أو
أنّ الحيرة ثابتة باعتبار الحكم الواقعي فإن الحكم الواقعي ليس بواضحٍ للسائل
فحيرته تكون بلحاظ الحكم الواقعي وإن لم تكن حيرة بلحاظ الحكم الظاهري حيث إنّ
الحكم الظاهري يقتضي الجمع بالتخصيص ولكن له حيرة بلحاظ الحكم الواقعي دعته إلى
طرح السؤال.
إذن المناسب في توجيه اختصاص
أخبار العلاج بمورد التعارض المستقر بأحد الوجوه الثلاثة التي أشرنا إليها لا بهذا
البيان - وهو أن السائل يظهر عليه الحيرة ولا حيرة في مورد أمكان الجمع العرفي - إذ
يرد عليه ما أشرنا إليه.