الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

35/11/26

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:-  الأخبار العلاجية -  أخبار التخيير.
الرواية الثالثة:- مكاتبة الحميري[1] إلى صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه:- ( يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر فإن بعض أصحابنا قال لا يجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول بحول الله وقوته أقوم واقعد ؟ فكتب عليه السلام في الجواب:- إنّ فيه حديثين أمّا أحدهما فإنه إذا انتقل من حالة إلى حالةٍ أخرى فعليه التكبير وأمّا الآخر فإنه روي إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهد الأوّل يجري هذا المجرى وبأيهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً )[2] .
وتقريب الدلالة واضح:- فإنه بعد أن سأل الحميري عن الحاجة إلى التكبير عند القيام من التشهد الأوّل أجاب عليه السلام بوجود حديثين أحدهما يكتفي بالتكبير من الانتقال من أيّ حالة إلى حالة أخرى والآخر يقول لأجل القيام يكتفي بكلمة بحول الله أقوم وأقعد ففيه حديثان وأنت مخيّر بأن تأخذ بأيّ واحدٍ منهما فمادمت مسلّماً لحكم الله عز وجل فأنت مخيّرٌ . إذن هي دلّت على التخيير في حالة وجود حديثين وهذا هو المطلوب.
والكلام تارةً يقع من حيث الدلالة وأخرى من حيث السند:-
أما من حيث الدلالة فيمكن أن يقال:- إنّ الامام عليه السلام لو كان قد افترض حديثين كلّيين من دون تقييدهما بمورد خاص بأن كان يقول هكذا:- ( إذا جاءك حديثان في موردٍ وكانا متعارضين فبأيهما أخذت من باب التسليم كان صواباً ) إنّه إذا كان الإمام يفترض الحدثين كحديثين كلّيين فالدلالة تامّة ونوافق آنذاك على دلالة الحديث على التخيير ونسلّم بذلك، أمّا بعد أن فرض أنّ الإمام قد افترض وجود حديثين في هذا المورد الخاص - وهو مورد القيام من التشهد - وأجاب بالتخيير فهنا  يمكن أن نستنتج أنّ الحكم في المتعارضين بشكلٍ عام هو التخيير بل لعلّ حكم المتعارضين ليس هو التخيير ولكن في خصوص المقام أنت أيها المكلف مخيّر بينهما لخصوصيّةٍ في المورد وهي أن حكم الله الواقعي هو التخيير، إنّ هذا احتمالٌ وجيهٌ ما دمنا قد افترضنا أنّ الحديثين في واقعة خاصّة وليست في واقعة كليّة، وهذا كلامٌ سيّال نقوله في أيّ مورد من هذا القبيل، فكلّ رواية تأتي بها لتستدلّ بها على التخيير فنحن نلاحظ إذا كانت عامّة لم يفترض فيها المورد الخاص فنسّلم دلالتها أمّا إذا كانت خاصّة بموردٍ معيّن فحينئذٍ نحتمل أنّ هذا التخيير لخصوصيّة في المورد وهو أنّ حكم الله والواقعي هو التخيير، إنّ هذا كلامٌ سيّالٌ ونطبقه في هذا المورد كما طبقناه في الرواية السابقة . فإذن لا نتمّكن أن نستنتج من هذه الرواية التخيير بشكلٍ عام بل لعلّه توجد خصوصيّة في المورد . وأنا لا أريد أن أجزم بأنّ التخيير هنا حتماً هو لأجل أنّ الحكم واقعاً هو التخيير بل أقول يحتمل ذلك ويكفيني إبراز الاحتمال، وأنت في المقابل لا يمكن أن تناقشني وتقول:- إنّ هذا التخيير هو من ناحية وجود حديثين بلا خصوصيّة للمورد، فإني أجيبك:- بأنّه من أين لك هذا ؟!! بل احتمال الخصوصيّة موجودٌ لأنّ الإمام فرض الحديثين في المورد الخاص.
والخلاصة:- إنّ هذا التخيير الذي ذكره الإمام لعلّه من باب التخيير الواقعي في خصوص المورد ولا يمكن أن نستفيد منه التخيير بين المتعارضين بشكلٍ عام.
وأمّا من حيث السند:- فقد رواها الطبرسي في احتجاجه والشيخ الطوسي في كتاب الغيبة، وحينما نقلها صاحب الوسائل نقلها عن الطبرسي قائلاً ما نصّه:- ( أحمد بن علي أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج في جواب مكاتبة محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عليه السلام )[3] ثم ذكر نصّ الحديث وفي نهايته قال:- (  ورواه الشيخ في كتاب الغيبة بالإسناد الآتي ).
إذن مصدر هذا الحديث كتابان كتاب الاحتجاج وكتاب الغيبة:-
أما بالنسبة إلى الاحتجاج:- فالطبرسي لم يذكر سنده إلى محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري فالإرسال واضحٌ، وكما قلنا إنّ الطابع العام على كتاب الاحتجاج هو ذلك . فإذن لا يمكن الاعتماد على الرواية المذكورة من ناحية الإرسال هذا من ناحية رواية الاحتجاج.
وأمّا بالنسبة إلى رواية الشيخ في كتاب الغيبة:- فالمفروض أنّ صاحب الوسائل قال:- ( رواه الشيخ في كتاب الغيبة بالإسناد الآتي )، وما المقصود من الإسناد الآتي ؟ المقصود يعني الآتي في آخر الوسائل في الفائدة الثانية فإنه(قده) يعقد فوائد في آخر الوسائل وفي الفائدة الثانية[4] نقل سند الشيخ إلى مكاتبة الحميري وجميع المكاتبات للحميري حيث قال:- ( واعلم أنّه قد روى الشيخ في كتاب الغيبة جميع مسائل إسحاق بن يعقوب وجواباتها من صاحب الزمان عليه السلام ....... وروى جميع مسائل محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان عليه السلام عن جماعةٍ عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن داود قال:- وجدت بخط أحمد بن إبراهيم النوبختي وإملاء أبي القاسم الحسين بن روح ... ) ثم ذكر المسائل التي كان يسألها والمكاتبات التي كان يكتبها محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري.
وإذا رجعنا إلى كتاب الغيبة[5] وجدنا أنّ الشيخ ذكر عند استعراضه لسند التواقيع إلى الناحية المقدّسة ما نصّه:- ( أخبرنا جماعة عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن داود القمّي قال:- وجدت بخط أحمد بن إبراهيم النوبختي وإملاء أبي القاسم الحسين بن روح رضي الله عنه على ظهر كتابٍ فيه جوابات ومسائل أُنفِذَت من قم يُسأل عنها هل هي جوابات الفقيه عليه السلام أو جوابات محمد بن علي الشلمغاني لأنه حُكِي عنه أنه قال:- هذه المسائل أنا أجبت عنها ؟ فكتب إليهم على ظهر كتابهم " بسم الله الرحمن الرحيم قد وقفنا على هذه الرقعة وما تضمنته فجميعه جوابنا ولا مدخل للمخذول الضال المضل المعروف بالعزاقري "  ..... ).
والسؤل:- إننا عرفنا الآن سند هذه المكاتبات وأنه:- ( جماعة عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن داود القمي قال وجدت بخطّ أحمد بن إبراهيم النوبختي وإملاء أبي القاسم الحسين بن روح ) والمشكلة من ناحية:-
أوّلاً:- ذكرت في السند كلمة ( جماعة ) فمن هم هؤلاء الجماعة فإنهم مجهولون ؟ فقد يقال إنَّ هذا السند ضعيفٌ من هذه الناحية لأنّ هذه الجماعة لا نشخّصها، وهذا الكلام سيّالٌ نستفيد منه في موارد متعدّدة.
ثانياً:- هذه الجماعة تروي عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن داود القمّي، ومحمد بن أحمد بن داود القمّي هو ثقة لا مشكلة فيه لأن النجاشي قال في ترجمته ما نصّه:- ( محمد بن أحمد بن داود بن علي أبو الحسن شيخ هذه الطائفة وعالمها وشيخ القمّيين في وقته وفقيههم )، وأمّا كلام الشيخ الطوسي فقال:- ( محمد بن أحمد بن داود القمي يكنى أبا الحسن .... أخبرنا بكتبه وروايته جماعة منهم محمد بن محمد بن النعمان والحسين بن عبيد الله وأحمد بن عبدون كلّهم عنه )، فإذن هذا الرجل لا مشكلة من ناحيته.
وأمّا أحمد بن إبراهيم النوبختي الذي له الخطّ فهو شخصٌ لم تثبت وثاقته.
إذن المشكلة عندنا من ناحية الـ (جماعة ) ومن ناحية الكاتب.
وقد يقال توجد مشكلة ثالثة:- وهي أنّ أبو الحسن محمد بن أحمد بن داود القمي يقول:- ( وجدت على ظهرِ كتابٍ ) فهل هذا المقدار يكفي للاعتماد عليه، يعني أنه توجد ورقة فيها مسائل وأجوبة قد كتب على ظهرها فهل هذا صالحٌ للاعتماد عليه ؟


[1]  والمقصود من الحميري هنا هو محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، فوالده عبد الله بن جعفر من أجلة ومن ثقاة اصحابنا صاحب كتاب قرب الاسناد، ومحمد بن عبد الله بن جعفر الحميري هو ايضاً من ثقاة أصحابنا ومن الأجلّة له مراسلات ومكتبات مع المولى عليه السلام من خلال السفراء كالحسين بن روح وغيره.
[2]  وسائل الشيعة، العاملي، ج6، ص362، أبواب السجود، ب13، ح8، آل البيت.
[3]  وسائل الشيعة، العاملي، ج6، ص363.
[4]  وسائل الشيعة، العاملي، ج30، ص143، الفائدة الثانية، تحت عنوان 48.
[5]  الغيبة، الطوسي، ص373.