الموضوع:- مقتضى
القاعدة الثانوية في المتعارضين / أحكام التعارض المستقر.
الأمر السادس:- ما هو المقصود من أنّ
المخالف للكتاب باطل وزخرف وأن الذي يؤخذ به هو الموافق ؟ فهل يراد أنّ الموافق
يؤخذ به إذا كان الخبر واجداً لشرائط الحجيّة أعني أنه خبر ثقةٍ وأنّ المخالف يطرح
حتى لو كان خبر ثقةٍ أو أنّ المقصود أوسع من ذلك فيراد أن يقال إنّ الموافق يؤخذ
به ولو كان ليس خبر ثقة فهو مادام موافقاً فيؤخذ به ؟ فهل المقصود هو الاحتمال الأوّل
أو الاحتمال الثاني؟
وبكلمة أخرى:- هل لسان هذه
الروايات التي تقول هو زخرف أو ما شاكل ذلك يريد أن يضيف شرطاً جديداً على شرائط
حجيّة الخبر ويريد أن يقول إنّ من جملة الشرائط مضافاً إلى كونه خبر ثقة أن لا
يكون مخالفاً أو أنه يريد أن يبيّن ميزان الحجيّة وأن الميزان الوحيد للحجيّة لا
غير هو الموافقة للكتاب فيؤخذ به والمخالفة فلا يؤخذ به ؟
وهذا
احتمالٌ موجودٌ وثابتٌ فالفقهاء قد اختلفوا في أنّ الخبر الحجّة ما هو ؟ وهناك رأي
يقول إنّ الخبر الحجّة هو الخبر المشهور الذي عمل به الأصحاب سواء كان الراوي ثقة
أو لا وسواء كان كذا أم لا والمهم هو أنه قد عمل به الأصحاب وهذه قضيّةٌ موجودةٌ
فهو يجعل ميزان الحجيّة هو المشهور، ولعل هذا هو الرأي السائد عند القدماء، رأيٌ
يقول إنّ الميزان على الوثوق فإن حصل وثوقٌ في الخبر والمقصود هو الاطمئنان النوعي
ولو بسبب أنه موجودٌ في كتبٍ معتبرةٍ فيكون حجّة وإلا فلا، وهناك رأيٌ ثالث يقول
إنّ المدار على أن يكون الراوي ثقة سواء حصل وثوقٌ أم لم يحصل وسواء عمل به
المشهور أم لم يعمل به، وهذه الطائفة التي تقول ( ما خالف قول ربنا فهو زخرف )
لعلّها تريد أن تشير إلى ميزانٍ جديد للحجيّة وهو أنّ المدار في حجيّة الخبر ليس
على الوثوق ولا على عمل المشهور ولا على كون الراوي ثقة ولا غير ذلك بل المدار على
أن يكون موافقاً للكتاب وليس بمخال.
إذن هذا الاحتمال موجودٌ في البين، فأي الاحتمالين هو الصواب وهو
المناسب والأجدر ؟
والجواب:- المناسب أن يكون المقصود هو اضافة
شرطٍ جديدٍ فإنه من البعيد أن يكفي في حجيّة الخبر عدم كونه مخالفاً للكتاب الكريم
وإن كان الراوي ليس بثقة ولم يعمل به المشهور وغير ذلك كما لو فرض أنه جاءنا خبرٌ
يقول ( من شكّ في صلاة الصبح في عدد الركعات فيبني على الأكثر ولا تبطل صلاته ) - مثلاً
- إنّ هذا مضمونٌ لا يخالف الكتاب الكريم إذ لا يوجد في الكتاب الكريم تعرّضٌ إلى
هذا المطلب من الأساس فالخبر المذكور لا يصدق عليه أنّه مخالفٌ، فهو بالتالي
موافقٌ بمعنى أنّه ليس بمخالفٍ، إنّه لو جاءنا خبرٌ من هذا القبيل ولكن كان
الراوي كما قلنا ليس بثقة ولم يعمل به المشهور فهل يحتمل أنّ مثل هذا الخبر حجّة
لمجرد أنّه ليس بمخالفٍ للكتاب ؟ إنه بعيدٌ في حدّ نفسه ولا نحتمل أنّ فقيهاً يمكن
أن يلتزم به بمجرد أنّه ليس بمخالفٍ للكتاب الكريم.
وإن شئت قلت:- إن لسان هذه الطائفة
الذي يقول:- ( ما خالف كتاب الله فهو زخرف ) هو ارشادٌ إلى قضيّة عقلائيّة وليست
تعبّديّة فإن الخبر إذا كان مخالفاً للكتاب الكريم فهذا أمارة عقلائية على أنّه كاذبٌ
ولم يصدر منهم عليهم السلام، فهي تريد أن تجعل لنا أمارة عقلائيّة وهذه الأمارة
إنما تنفع إذا فرض أن الخبر كان واجداً في حدّ نفسه لشرائط الحجية يعني كأن كان
الراوي ثقة أو عمل به المشهور حينئذٍ تأتي وتقول إذا لم يكن مخالفاً فلا يوجد مانع
من تأثير المقتضي، ومقتضي الحجيّة ما هو ؟ هو كون الراوي ثقة أو عمل به المشهور، أمّا إذا فرض أنه لم يكن فيه مقتضي الحجيّة في حدّ نفسه بل فقط وفقط لم يكن
مخالفاً للكتاب الكريم فهذا في الحقيقة قد انتفى عنه مانع الحجيّة وانتفاء المانع
لا يحقق المقتضي للحجيّة.
الأمر السابع:- إنّ الخبرين
المتعارضين اللذين لا يمكن الجمع العرفي بينهما - وإنما قيدنا بذلك باعتبار أنّ
هذا هو محل كلامنا فإنا ذكرنا سابقاً أنه إذا أمكن الجمع العرفي فلا يوجد تعارض بل
يجمع عرفاً ولا مشكلة وإنما الكلام فيما إذا استقر التعارض ماذا نصنع ؟ وذكرنا أنّ
القاعدة الأوليّة تقتضي التساقط ولكن يمكن أن نستفيد من النصوص شيئاً آخر وفي هذا
المجال ذكرنا أنّ النصوص على نوعين أخبار عرضٍ وأخبار علاجٍ فمحل الكلام إذن هو
فيما إذا لم الجمع العرفي – لا يخلوان من إحدى حالات ثلاث:-
الحالة الأولى:- أن يكون سند النصّين
قطعيّاً، فسند هذا قطعي ويسند ذاك قطعي، ولكن من حيث الدلالة هما ظاهران بظهورٍ
متعارضٍ لا يمكن الجمع العرفي بينهما، كما إذا فرض أنه تعارض ظاهر آيةٍ مع ظاهر
آيةٍ أخرى بحيث لا يمكن الجمع العرفي بين الظهورين، أو تعارض ظاهر آيةٍ مع ظاهر
روايةٍ متواترةٍ بحيث لا يمكن الجمع العرفي بين الظهورين، وفي مثل هذه الحالة لا
يمكن التصرّف في السندين باعتبار أنهما قطعيّان فإذا أريد التصرف فلابد وأن يكون
في الدلالة حيث إنها ظهورٌ ولكن بما أنّ الظهورين لا يمكن الجمع بينهما عرفاً فمن
المناسب آنذاك التساقط عن الحجيّة - أعني سقوط الدلالة لا سقوط السند - فيسقطان من
حيث الدلالة عن الحجيّة لعدم إمكان الجمع بينهما كما هو المفروض.
إن قلت:- لماذا لا نؤولهما مهما أمكن فإن
ذلك أولى من طرح الدلالة رأساً ؟
قلت:- إنّ ذلك التأويل إذا كان له مستندٌ
عرفيٌّ نأخذ به ويكون حجّة ولكن هذا خلاف الفرض فيتعيّن أن لا يكون هناك مستندٌ
عرفيٌّ ومادام كذلك فلا يكون له - أي التأويل - مدركٌ وبالتالي لا يكون حجّة بل
تطرح الدلالتان رأساً.
الحالة الثانية:- أن يكون سند أحدهما
قطعياً وسند الآخر ظنيّاً، كما إذا فرض أنّه تعارض ظاهر آيةٍ كريمةٍ مع ظاهر
روايةٍ معتبرةٍ وليست قطعيّة من حيث السند وكان بين الظهورين تعارض بنحوٍ لا يمكن
الجمع، وفي مثل هذه الحالة يأتي ما تقدّم حيث ذكرنا أنّه إذا خالفت الرواية
دليلاً قطعياً وحكماً قطعياً فتسقط عن الاعتبار لما دلّ على أنّ ما خالف قول ربنا فهو
زخرف وباطل والمفروض هنا ذلك إذ قد فرضنا أنّه لا يمكن الجمع العرفي والمفروض أنّ
ذلك المعارض هو قطعيٌّ من حيث السند فتسقط هذه الرواية عن الحجيّة، وهذا ليس فيه
شيء جديد وإنما أشرنا إليه سابقاً.
الحالة الثالثة:- أن يكون سند الاثنين معاً ظنيّاً
والدلالتان تكونان ظاهرتين لا يمكن الجمع العرفي بينهما، ومصداق هذا كثيرٌ في
الفقه إذ ما أكثر ما نواجه روايتين من هذا القبيل، وهذا هو مورد العلاج فإنها
ناظرة إلى ما كان من هذا القبيل، فهل الحكم هو التخيير أو الترجيح أو التوقف أو
التساقط أو غير ذلك ؟