الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

35/07/20

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- أحكام التعارض المستقر.
الإشكال على الشقّ الثاني:-
وأمّا ما ذكر في الشق الثاني - من أن الترجيح بلا مرجّح باطل فلا يمكن تطبيق دليل الحجيّة على هذا الخبر بخصوصه دون ذاك - فهو وجيهٌ لو فرض أنهما متساويان في ملاك الطريقية بأن كانا من حيث الوثاقة والفقاهة بدرجةٍ واحدةٍ، إمّا إذا اختلفا واحتملنا أو جزمنا أنّ الأوثقيّة توجب قوّة في الطريقيّة فالترجيح آنذاك يكون مع المرجّح وليس بلا مرجّح.
إذن هذا الشق الثاني يتمّ في حالةٍ دون حالةٍ، فهو يتمّ إذا تساويا في ملاك الطريقية، أما إذا اختلفا جزماً أو احتمالاً فلا يكون الترجيح بلا مرجّح، ولعل هذا مطلبٌ واضحٌ ومقبول.
إن قلت:- لماذا لا نناقش هذا الشق الثاني بمناقشة أخرى بأن نقول:- من قال إن الترجيح بلا مرجّح باطل ؟!! كلّا إنه ليس بباطلٍ وليس بقبيح، ولذلك ترى الجائع يجوز أن ينتخب أحد الرغيفين فما إذا تساويا من جميع الجهات، وكذلك الهارب ينتخب أحد الطريقين مع تساويهما من جميع الجهات، أفهل يُشكِل أحدٌ بأن هذا ترجيح بلا مرجّح ؟!! إنَّ هذا لا يمكن الالتزام به إذ هو مخالفٌ للوجدان وللعقل والعقلاء.
إذن بطلان الترجيح بلا مرجّح أوّل الكلام، وإنما الباطل هو الترجّح بلا مرجّح، أعني وجود أحد الشيئين بلا مرجّح وتحقّق أحدهما بلا مرجّح فإن هذا باطلٌ إذ مآله إلى تحقّق المعلول بلا علّة، وأما الترجيح بلا مرجّح الذي هو فعلٌ اختياريٌّ للإنسان فهو شيءٌ معقولٌ ووجيهٌ بل واقع ٌكما في مثالي الهارب والجائع.
قلت:- إن هذا وجيهٌ إذا فرض ضرورة ايقاع الجامع - يعني لابد من أكل أحد الرغيفين ولابد من سلوك أحد الطريقين -، إنه إذا افترض وجود ضرورةٍ لإيقاع الجامع فهنا نسلّم بما ذكر من أنّه لا بأس بانتخاب أحدهما بعد ضرورة إيقاع الجامع حتى ولو لم يكن مرجّح لخصوص هذا الطرف، أمّا إذا فرض أنَّ الجامع لم تكن له ضرورة من الأساس فسوف يكون الترجيح بلا مرجّح باطلاً وليس عقلائياً كما هو الحال في المقام فإن دليل الحجيّة لا يلزم أن نطبقه على باب التعارض فإنه لا توجد ضرورة لذلك بل يبقى له مجالٌ في غير باب التعارض، أمّا في باب التعارض فلا ضرورة لإعماله، ومادام لا ضرورة لإعماله فتطبيق المكلّف له على هذا دون ذاك يكون بلا وجهٍ فيكون باطلاً وليس عقلائياً، ولا نقول هو مستحيلٌ بل نقول هو ليس بعقلائي وليس مقبولاً.
والنتيجة هي:- أن تطبيق دليل الحجيّة على أحد المتعارضين دون الآخر إنما يكون باطلاً ومرفوضاً لو فرض أن ملاك الطريقيّة أقوى جزماً أو احتمالاً في أحدهما وإلّا كان تطبيقه على أحدهما ترجيحاً بلا مرجّح، فهذه المناقشة المذكورة بلحاظ هذا الشقّ مناقشة وجيهةٌ ومقبولة.
الإشكال على الشقّ الثالث:-
وأما الشق الثالث - أعني تطبيق دليل الحجيّة على الأحد الذي هو الجامع وعدم تطبيقه على هذا أو على ذاك بالخصوص فهو باطلٌ باعتبار أنَّ ظاهر دليل الحجيّة هو حجيّة المعيّن لا حجيّة الجامع غير المعيّن - فيمكن أن يقال:- إنَّ بالإمكان تطبيق دليل الحجيّة في باب التعارض من دون أن يلزم ما ذكر من المحذور - أي مخالفة ظاهر الدليل - وذلك بأن نطبقه على هذا بالخصوص بشرط كذب ذاك كما ونطبقه على ذاك بشرط كذب الأوّل، إنه بناءً على هذا لا يلزم محذور الترجيح بلا مرجّح حيث طبقناه عليهما بالتساوي، ولا يلزم مخالفة لظاهر الدليل حيث طبّقناه على الفرد وليس على الجامع، نعم مآل تطبيقه على الفرد حجيّة الجامع لا حجيّة كليهما وهذا ليس مخالفاً لظاهر دليل الحجيّة.
وعلى هذا الأساس لا محذور في انتخاب الشقّ الثالث وذلك بتطبيق دليل الحجيّة على كلّ واحدٍ منهما بشرط كذب الآخر، وهو شيءٌ وجيه وظريف.
إن قلت:- إن هذا وجيهٌ لو كنّا نعرف الكاذب أمّا بعد عدم تشخيصنا له فما الفائدة في ثبوت حجيّةٍ معلّقةٍ على أمرٍ لا نعرف تحقّقه ؟ أنّه لا فائدة في ذلك وهو لغوٌ.
قلت:- يمكن أن نتصوّر الفائدة وذلك بنفي الاحتمال الثالث، فإنه بإمكاننا من خلال هذه الطريقة أن ننفي الاحتمال الثالث - أعني الكراهة أو الاستحباب - فلو كان أحدهما يدلّ على الوجوب والآخر يدلّ على الحرمة وطبّقنا دليل الحجيّة على الوجوب بشرط كذب ذاك وهكذا العكس فحينئذٍ سوف نستفيد حجيّة أحدهما من دون أن نعرفه إذ لا نشخّص الكاذب حتى نشخّص ما هو الحجّة ولكن بالتالي يمكن نفي الاحتمال الثالث - أعني الاباحة أو الاستحباب أو الكراهة - من خلال ذلك الحجّة الذي هو مبهمٌ، فهو على إبهامه يكفي لنفي الاحتمال الثالث، إنَّ هذا شيءٌ جيّدٌ لا محذور فيه.
وعلى أي حال اتضح أنَّ هذا الاشكال واردٌ على الشقّ الثالث ووجيه.
والنتيجة من خلال كلّ هذا الكلام:- هي أن المشهور قالوا شيئاً بينما المناسب هو شيءٌ آخر، فإن المشهور قالوا إن دليل الحجيّة لا يشمل شيئاً منهما من دون تفصيلٍ، بينا اتضح من خلال المناقشة التي أشرنا إليها في الشق الثاني والثالث أنَّ المناسب هو التفصيل وذلك بأن يقال:- إنَّ المناسب بمقتضى الأصل الاوّلي هو التساقط إلّا إذا احتملنا أقوائية ملاك الطريقيّة في أحدهما فإن دليل الحجيّة يلزم تطبيقه على ما يكون فيه ملاك الحجيّة أقوى احتمالاً، وإذا كانا متساويين من حيث الملاك فيمكن تطبيقه على كلِّ واحدٍ بشرط كذب الآخر وننتفع بذلك في نفي الاحتمال الثالث، إنَّ مقتضى الأصل هو هذا لا ما ذكره المشهور.
توجيه الأصل بشكلٍ آخر:- إنَّ كلّ ما ذكرناه - من كلامٍ وأنَّ المشهور قالوا بالتساقط مطلقاً والمناسب أن يفصل كما أشرنا - مبنيٌّ على أنَّ دليل الحجيّة دليلٌ لفظيٌّ كآية النبأ مثلاً فإنه بناءً على هذا يتمّ بيان الأصل بالشكل المشهور وبيانه بالشكل المناسب الذي أشرنا إليه فيقال إنّه على الراي المشهور المناسب هو التساقط وعلى رأينا فالمناسب هو التفصيل، أمّا إذا تعاملنا مع الواقع حيث إنَّ الدليل المهم على حجيّة الأمارة - سواء كان مثل الخبر أو دلالة الخبر - هو السيرة والأدلة اللفظيّة إن كانت فهي ليست إلّا إرشاد لما عليه السيرة ولا تؤسس بيانَ مطلبٍ جديد على خلاف ما عليه السيرة فهي امضائية لا تأسيسية، إنه إذا بنينا على هذا كما هو الصحيح وقد تكرّر في كلمات الشيخ النائيني(قد) فلا نحتاج إلى كل هذا الكلام والقيل والقال بل نقول بجملة مختصرة إنَّ السيرة دليل لبّي وفي الدليل اللبّي يقتصر على القدر المتيقن والمتيقّن هو حالة عدم المعارضة، أمّا في حالة المعارضة فلا دليل على الحجيّة من الأساس ولا تصل النوبة إلى هذا الكلام فإنَّ هذا الكلام لا يأتي بل يقال هما ليسا بحجّة لعدم الدليل على حجّيتهما إذ لا نجزم بشمول السيرة لمثل هذه الحالة فهما إذن ساقطان عن الحجيّة للقصور في المقتضي بلا تطويل.
وبعد أن عرفنا أنَّ المدرك هو السيرة فإذن لا حاجة إلى كلّ هذا التطويل وبالتالي اتضح أنَّ الأصل الأوَّلي يقتضي التساقط.