الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

35/06/26

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- تعارض الأدلة/ الفارق بين التعارض والتزاحم، مرجّحات التزاحم.
الفارق بين التعارض والتزاحم:-
ذكرنا فيما سبق الفارق بين باب التعارض وباب التزاحم وقلنا إن الدليلين تارةً تكون المنافات بينهما ثابتة بلحاظ عالم الجعل والتشريع فتشريع هذا يتنافى وتشريع ذاك كما لو قال ( تجب عليك الصلاة ) إن هذا تشريعٌ للوجوب فلا يمكن أن يشرع يقول ( تحرم عليك الصلاة ) وإذا قال ذلك حصل تنافٍ في مقام التشريع، إن هذا هو التعارض . وأمّا التزاحم فهو المنافاة بلحاظ عالم الامتثال من دون منافاةٍ بلحاظ عالم التشريع، فهما من حيث عالم التشريع بينهما ملائمة بيد أن امتثالهما معاً شيء غير ممكن، من قبيل صلِّ وأزِل النجاسة عن المسجد فإن هذين التشريعين لا منافاة بينهما لوجاهة تشريع هذا وتشريع ذاك إلّا أنه حينما يجتمعان بأن تكون النجاسة ثابتة في المسجد حين دخول وقت الصلاة فتحصل المنافاة بين الامتثالين إذ لا يمكن امتثال هذا ولا ذاك عند افتراض ضيق الوقت، إنه هنا يتحقّق التزاحم دون التعارض.
والسؤل:- هل باب التزاحم هو بابٌ مستقلٌّ عن باب التعارض وفي مقابله أو أنه مصداقٌ منه ؟
والجواب:- إن ذلك يرتبط بمسألة امكان الترتّب وعدمه، فإذا قلنا إن كلّ تكليفٍ هو مشروطٌ منذ البداية بعدم الاشتغال بالتكليف الأهم أو المساوي وقلنا أيضاً إن إدخال هذا القيد في الحساب يرفع التضاد بين التكليفين أي بين صلِّ وأَزِل - فإنه لو بنينا على هذين الأمرين - خرج باب التزاحم عن باب التعارض وكان باباً مستقلاً، أما إذا بنينا على عدم ذلك كما هو مختار الشيخ الخراساني(قده) في الكفاية فإنه يبني على أن إدخال هذا القيد - يعني عدم الاشتغال بالأهم أو المساوي - لا يرفع محذور التكليف بالضدين بل يبقى الأمر بالضدين على حاله فسوف يكون باب التزاحم مصداقاً من باب التعارض وليس باباً مستقلاً في مقابله.
أما لماذا بناءً على إمكان فكرة الترتّب يكون باب التزاحم باباً مستقلاً وبناءً على عدم إمكان الترتّب يكون مصداقاً من باب التعارض ؟ ذلك من جهة أنّه لو بنينا على عدم إمكان فكرة الترتّب كما عليه الشيخ الآخوند(قده) يعني أن الأمر بالضدّين يبقى على حاله في حالة وجود النجاسة في المسجد ودخول وقت الصلاة فإن الآخوند هكذا يعتقد فهو يقول إنه حتى لو قيّدنا الأمر بالصلاة بعدم الاشتغال بالأهم - أي بالإزالة - فمع ذلك يكون محذور الأمر بالضدين باقٍ على حاله فإن المكلّف إذا ترك امتثال الأمر بالإزالة فسوف يتوجّه إليه كِلا التكليفين الأمر بالصلاة لتحقّق شرطه لأن المفروض أنه ترك امتثال الأمر بالإزالة فيتوجّه الأمر بالصلاة إليه والأمر بالإزالة أيضاً يكون متوجهاً إليه باعتبار أن عدم اشتغالي بامتثاله لا يوجب سقوطه مادام الموضوع بَعدُ باقياً - أي النجاسة بعدُ باقية في المسجد - . نعم إذا لم يشتغل بالتكليف ولكن نزل المطر فطهّر المسجد فهذا شيءٌ أخر لأنه صار سالبة بانتفاء الموضوع أو كان من المؤقّتات وخرج الوقت أمّا الإزالة فلا وقت فيها فمادام الموضوع موجوداً فالأمر بالإزالة موجودٌ رغم أنه لم يشتغل بالإزالة والمفروض أن الأمر بالصلاة موجودٌ لأنّي لم أشتغل بالإزالة فكِلا الأمرين بالضدين موجودٌ، ولا يمكن اجتماعهما لأن المفروض أني في الصلاة لا يمكن أن أزيل النجاسة أو أزيل وأصلّي في نفس الوقت بل مفروضنا هو هذا، أمّا إذا كنت أتمكن من أن أصلّي وأزيل النجاسة في آنٍ واحدٍ فهنا لا مشكلة وإنما كلامنا في حالة عدم إمكان ذلك، ففي مثل هذه الحالة يكون الأمر بالضدّين صادقاً، وبناءً على هذا يدخل المورد في باب التعارض فإن الأمر بأحد الضدّين لا يمكن الأمر بالضدّ الآخر فيكون حينئذٍ تضادّ بين نفس التكليفين - أي بين نفس الأمرين - فنفس الأمرين لا يمكن اجتماعهما فيحصل تعارضٌ في التشريع وفي الجعل فيدخل المتزاحمان في باب التعارض، ولذلك كلّ متزاحمين على رأي الشيخ الخراساني(قده) سوف يدخلان في باب التعارض حيث لا يمكن توجههما إلى المكلف بنحوٍ ترتّبيٍّ فإن التقييد بعدم الاشتغال بالثاني لا يرفع كون المقام أمراً بالضدّين فيكون باب التزاحم داخلاً تحت باب التعارض حقيقةً ومصداقاً له.
وهذا بخلاف ما إذا بنينا على رأي الشيخ النائيني(قده) الذي يقول بإمكان فكرة الترتّب فإنه يقول يمكن توجيه كِلا الأمرين في حالة عدم الاشتغال بالإزالة مادام الأمر بالصلاة مقيّداً بعدم الاشتغال بالإزالة، فكلاهما يمكن توجههما إلى المكلّف ولا يلزم من ذلك طلب الجمع بين الضدّين، فحينئذٍ يكون بينهما كمال الملائمة ويتوجّهان معاً إلى المكلف دون أيّ محذور، إنّه بناءً على فكرة الترتّب يصير باب التزاحم باباً مستقلاً مغايراً لباب التعارض، وهذه من القضايا المهمّة التي ينبغي الالتفات إليها.
ما هي مرجّحات باب التزاحم ؟
إنه إذا بنينا على إمكان فكرة الترتّب وأنه معها يرتفع محذور طلب الجمع بين الضدّين - يعني كنّا موافقين للشيخ النائيني وأستاذه الشيخ محمد الفشاركي - نسأل ونقول:- ماذا نصنع آنذاك في باب المتزاحمين ؟
والجواب:- إن المرجّح المعروف هو ملاحظة الأهم ملاكاً ولا نلاحظ المرجّحات السنديّة - يعني الموافق للكتاب أو المخالف لكذا - لأن تلك المرجحات تختص بالمتعارضين وقد فرضنا أن هذين ليسا متعارضين فتلك المرجّحات لا تأتي هنا . إذن ماذا يأتي بعد وجود كِلا التكليفين وكِلا الملاكين إذ وجود التكليفين يكشف عن وجود الملاكين ؟ إنّه يقدّم الملاك الأهم، وهذا  واضحٌ لا غبار عليه فإن أهمّية الملاك تعني الزيادة في الملاك ومع الزيادة في الملاك في أحدهما يلزم ترجيحه وهذه قضيّة عقلائيّة لا تحتاج إلى دليل.
إنّما الكلام إذا فرض أنه كان هناك احتمالٌ للأهمّية دون الجزم بها فهنا هل يقدّم هذا الذي يحتمل أهميته ؟ والجواب:- لعلّ المعروف أنّه نعم يقدّم ما يحتمل أهميّة الملاك فيه وذلك لأن العقل يحكم بأنه مادام يحتمل أنه أهم ملاكاً فيحكم بأنه يلزم ترجيحه.
ولكن هناك إشكال:- وهو أن حكم العقل هذا هو حكمٌ معلّق على أن لا يحكم الشارع بالخلاف، أمّا إذا حكم بالخلاف وأنّك لست بملزمٍ به فالعقل يرفع يده عن حكمه، وهذا مطلب واضح .
ولكن هل هناك شيءٌ يمكن أن نثبت به أن الموقف الشرعي هو عدم لزوم الأخذ بالأهمية المحتملة ؟ نعم هو أصل البراءة، أو بالأحرى ( رفع عن أمتي نما لا يعلمون ) فإن هذا بالتالي هو تقييدٌ وضيقٌ زائد لا نعلم به - يعني أن لزوم الأخذ بمحتمل الأهّمية ضيقٌ زائد لا نعلم به - ومعه نطبّق إطلاق ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) فيثبت من ناحية الشرع أنَّه لا إلزام بمحتمل الأهّمية وبالتالي يرفع القعل يده عن حكمه بلزوم الأخذ بمحتمل الأهّمية.