الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

35/06/22

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- تعارض الأدلة / ما هو التعارض.
ما هو التعارض ؟
ذكر الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل[1] أن التعارض هو تنافي الدليلين من حيث المدلول فمدلول هذا إذا تنافى مع مدلول ذاك فهذا هو عبارة أخرى عن التعارض، ويظهر منه نسبة ذلك إلى الأصحاب لا أن ذلك رأياً خاصّاً به حيث قال:- ( وذكروا ) وظاهر كلمة ذكروا هو أن الأصحاب هم الذين ذكروا ذلك وهو أيّدهم، ونصّ عبارته:- ( غلب في الاصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار مدلولهما ولذا ذكروا أن التعارض تنافي مدلولي الدليلين على وجه التنافي أو التضاد )، وقوله:- ( على وجه التناقض أو التضاد ) إشارة إلى قسمي التعارض فتارةً يكون بنحو التعارض مثل ( تجب صلاة الجمعة ) و ( لا تجب صلاة الجمعة ) فهذا تقابل التناقض، وأخرى يكون التقابل تقابل التضاد من قبيل ( تجب صلاة الجمعة ) و ( تحرم صلاة الجمعة ) فإن ( تحرم ) حكمٌ مضادٌّ للوجوب فهذا تقابلٌ بنحو التضاد إذ أن كلاهما حكمٌ وجوديٌّ.
والمهم أنه(قده) نسب إلى الأصحاب أن التعارض هو تنافي الدليلين من حيث المدلولين.
ولكنّ صاحب الكفاية(قده)[2] ذكر أن التعارض هو تنافي الدليلين من حيث الدلالة وليس من حيث المدلولين.
إذن هو (قده) ركّز على أن يكون التنافي من حيث الدلالة وكأنه يريد أن يشير إلى هذه القضية وهي أنه في باب التخصيص مثلاً إذا نظرنا إلى المدلولين كمدلولين فيوجد بينهما تنافٍ حيث إن مدلول العام هو ( يجب إكرام كلّ فقير ) بينما الخاص مدلوله هو ( يحرم إكرام الفقير الفاسق ) مثلاً، فمن حيث المدلول يوجد تنافٍ ولكن رغم ذلك لا تعارض بينهما إذ لا تنافي بين دلالتهما فدلالة الخاص مقدّمة على دلالة العام، وهكذا في سائر موارد الجمع العرفي فإنه في كلّ موردٍ يوجد فيه جمعٌ عرفيٌّ سواء كان بنحو الحكومة أو بنحو الجمع بالاستحباب أو بالجمل على الكراهة أو غير ذلك إنه في هذه الموارد يوجد تنافٍ بين المدلولين ولكن حيث لا يوجد تنافٍ بينهما من حيث الدلالة إذ العرف يجمع بينهما إما بتقديم الخاص أو غير ذلك فهذا ليس بتعارضٍ، فالشيخ الخراساني(قده) كأنه يريد أن يعترض على الشيخ الأنصاري(قده) فيقول له إنه بناءً على ما ذكرته يلزم أن تكون جميع هذه الموارد من التعارض لأن التنافي من حيث المدلول موجودٌ والحال أنها ليست من التعارض وما ذاك إلا لأنه لا يوجد تنافي من حيث الدلالة، ونص عبارته:- ( التعارض هو تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة ومقام الاثبات على وجه التناقض أو التضاد ....  وعليه فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي مدلولهما إذا كان بينهما حكومة رافعة للتعارض والخصومة .... أو كانا على نحوٍ إذا عرضا على العرف وفّق بينهما في التصرّف في خصوص أحدهما ..... أو فيهما ..... ولا تعارض أيضاً إذا كان أحدهما قرينة على التصرّف بالآخر .... مثل العام والخاص ... وبالجملة الأدلة في هذه الصور وإن كانت متنافية بحسب مدلولاتها إلّا أنها غير متعارضةٍ لعدم تنافيها في الدلالة وفي مقام الاثبات بحيث تبقى أبناء المحاورة متحيّرة ) . إذن كلامه واضحٌ في أن مقوّم التعارض هو تحيّر أبناء العرف وعدم إمكان الجمع والتوفيق بينهما عرفاً، فالمهم هو التنافي من حيث الدلالة وليس من حيث المدلول.
والفارق بينهما يظهر في موارد الجمع العرفي كالعام والخاص مثلاً فإنه على تعريف الشيخ الأعظم يكون ذلك من موارد التعارض لأنه يوجد تنافي بين مدلوليه، بينما على راي الشيخ الخراساني ليس من موارد التعارض إذ لا يوجد تنافي في الدلالة فإن العرف يوفّق بينهما بحمل العام على الخاص ويخصِّص.
ونعلّق على ما افاده صاحب الكفاية(قده) فنقول:- إنه ذكر أن التنافي قد يكون في المدلول ثابتاً ولكنّه في الدلالة ليس بثابت كما في العام والخاص، ونحن نقول:- إذا كان يوجد تنافٍ في المدلول كيف لا يكون هناك تنافٍ في الدلالة ؟!! إن لازم تنافي المدلول التنافي في الدلالة  أيضاً إذ الدلالة تعني الظهور في المعنى - أو النص فيه - فنقول إنّ ظاهر هذا اللفظ هو كذا - يعني أنّه دلّ على كذا - نعم قد تكون الدلالة صريحة ولكن هذا مطلب ثانٍ ولكن محقّق الدلالة هو الظهور وقد يكون محقَّقه النصيّة، وحينئذٍ نقول:- إذا كان يوجد بين ذات المعنيين تنافٍ كيف لا يكون بين الظهورين في هذين المعنيين المتنافيين بذاتهما تنافٍ أيضاً ؟!! فإذا كان بين المعنيين تنافٍ فحتماً يوجد بين ما يدلّ على هذا المعنى وبين ما يدلّ على ذاك المعنى تنافٍ.
إذن أصل هذا التفكيك الذي ذكره صاحب الكفاية(قده) من أن التنافي قد يكون في المدلول من دون أن يكون هناك تنافٍ في الدلالة قضيّة مرفوضة والصحيح أنه يوجد تنافٍ من حيث الدلالة مادام يوجد تنافي من حيث المدلول غايته أن العرف بعد أن يرى التنافي بين الدلالتين تارةً يفترض أنه يرى التنافي بشكلٍ لا يقبل التوفيق والجمع وأخرى يكون بشكلٍ يقبل ذلك، فإن كان لا يقبل ذلك فهذا ما يصطلح عليه بالتعارض المستقر، وإذا فرض أنه كان بنحوٍ يقبل الجمع بالتوفيق فهو تعارضٌ أيضاً ولكنّه تعارض غير مستقر ّ، إنّ كِلا الموردين من التعارض حتى الموارد التي يمكن فيها الجمع بين الدلالتين فهناك يوجد تعارض غايته نجمع بينهما، بل إنّ نفس التوفيق بين الدلالتين هو فرع وجود تعارضٍ بينهما وإلا فالجمع بين الدلالتين كيف يصير إذا لم يكن بين الدلالتين نحوٌ من التعارض ؟!! إنّ هذا اعترافٌ ضمناً بوجود التعارض بين الدلالتين حتى يصحّ أن نقول إن العرف يوفّق ويجمع بينهما.
إذن انتهينا إلى قضيتين من خلال هذا التعليق:-
الأولى:-  إن ما ذكره صاحب الكفاية من أن التنافي قد يكون بين المدلولين دون الدلالتين هي قضيّة مرفوضة.
والثانية:- هي أنه فلنلتزم بأن التعارض أوسع وله شموليّة ن فهو يشمل حتى الموارد التي يمكن الجمع فيها بين الدلالتين فهي أيضاً من موارد التعارض غايته هو تعارض ليس بمستقر.
ومنه يتّضح أن التحديد الصحيح للتعارض هو ما أفاده الشيخ الأعظم(قده) من أنه عبارة عن التنافي بين المدلولين وليس هو التنافي بين الدلالتين.
نعم تبقى بعض موارد الجمع العرفي ربما يقال هي خارجةٌ من التعارض حقيقةً باعتبار أنه لا يوجد تنافي أصلاً من حيث المدلول ولا من حيث الدلالة، وذلك من قبيل الورود والتخصّص إن صحّ عدّهما من مواردة الجمع العرفي، ففي هذين نقول لا يوجد تنافي من حيث المدلول ولا من حيث الدلالة، فمثلاً لو فرض أن أحد الدليلين كان يقول ( لا تشرب الخمر) والدليل الثاني كان يقول ( اشرب ماء البرتقال ) فهنا هذا يكون من موارد التخصّص فإن شرب ماء البرتقال خارجٌ حقيقةً عن الخمر، فهذا خروجُ تخصّصٍ، وهنا لا توجد معارضة بين المدلولين لأن مدلول ( لا تشرب الخمر ) لا يعارض مدلول ( اشرب ماء البرتقال ) فإن موضوع أحدهما مختلفٌ عن الثاني فلا تعارض بين المدلولين فبالأولى لا تعارض من حيث الدلالة.
وهكذا مثال الورود، كما لو فرض أننا قلنا بأن العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان ثم فرض أنه جاء دليلٌ آخر قد جعلت فيه الأمارة علماً ونفترض أن المقصود من البيان من قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو البيان الأعم من الوجداني والتعبدي، فحينئذٍ هذا الدليل الثاني الذي يجعل الأمارة علماً تعبّدياً يكون محقّقاً لفردٍ من أفراد العلم وهذا تحقيقٌ حقيقيٌّ فيكون ذلك وروداً، وهنا لا يوجد تنافي من حيث المدلول وهو واضح، فذاك مدلوله هو أنه يقبح العقاب بلا بيان أعم من العلم الوجداني والتعبّدي وهذا مدلوله هو أن الأمارة جعلتها علماً تعبّداً فلا منافاة بينهما من حيث المدلول وبالأولى لا منافاة من حيث الدلالة.
 إذن من قبيل هذين الموردين اللذين إن صحّ عدّهما من موارد الجمع العرفي لا يوجد تعارض أبداً لا من حيث المدلول ولا من حيث الدلالة، نعم بعض موارد الجمع العرفي يوجد تنافي من حيث المدلول ومن حيث الدلالة كما في العام والخاص فإنه من حيث المدلول يوجد تنافي ومن حيث الدلالة يوجد تنافي أيضاً.
إذن اتضح أن بعض موارد الجمع العرفي حيث لا يوجد فيها تنافي من حيث الدلالة ومن حيث المدلول فهي خارجة من التعارض رأساً، أما بعض الموارد الأخرى التي يوجد فيها تنافي من حيث المدلول والدلالة فهي وإن كانت من موارد الجمع العرفي ولكن نعدّها من باب التعارض، فالتعارض إذن شاملٌ حتى لحالة التعارض غير المستقر - يعني لحالة ما إذا أمكن الجمع بين الدلالتين - فإن هذا يعدّ من التعارض، خلافاً لصاحب الكفاية(قده) فإنه لا يكون من التعارض.
والنتيجة النهائية من كل هذا:- إن التعارض إذن هو التنافي بين مدلولي الدليلين أو التنافي بين الدليلين من حيث المدلولين كما ذكر الشيخ الأعظم(قده)، وهذا مطلب واضح.
وبعد أن عرفنا أن التعارض عبارة التنافي من حيث المدلولين والذي قلنا إن لازمه التنافي بين الدلالتين نقول:- ما هو مدلول الدليل ؟ فهناك جعلٌ وهناك مجعولٌ وهناك امتثالٌ، هذه ثلاثة أمورٍ، ومدلول الدليل دائماً هو الجعل، فالتعارض هو التنافي بين الجعلين . إذن يمكن أن نُبْدِل كلمة مدلولين بالجعلين، أمّا التنافي بين المجعولين أو بين الامتثالين فليس من التعارض.


[1]  تراث الشيخ الأنصاري، تسلسل20، ص11.
[2]  كفاية الأصول، الآخوند، ص437 ط مؤسسة آل البيت.