الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

35/06/13

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- التنبيه التاســع تعــارض الاستصحــاب مــع غيــره ( تعارض الاستصحابين في باب العلم الإجمالي )  / تنبيهات / الاستصحاب / الأصول العملية.
وتحقيق هذا المطلب وأن دليل قاعدة الطهارة قاصرٌ أو ليس بقاصرٍ يبقى متروكاً إلى الفقه أو مبحث القواعد الفقهية . لكن إذا سلمنا قصور دليل قاعدة الطهارة فالأمر كما ذكرنا، يعني أنّ تقدّم استصحاب النجاسة على قاعدة الطهارة يصير شيئاً واضحاً لقصور قاعدة الطهارة عن شمول المورد المذكور - أي الذي تكون الحالة السابقة فيه هي النجاسة.
وأمّا إذا بنينا على تماميّة إطلاق دليل قاعدة الطهارة - وهذا هو المهم - وأنّه شاملٌ لمورد العلم بالحالة السابقة وأنها النجاسة فكيف يتقدّم الاستصحاب ؟
يمكن أن يقال في وجه تقدّمه:- هو أن قاعدة الطهارة قد أُخِذ فيها عدم العلم بالنجاسة حيث قيل:- ( كلّ شيءٍ نظيف حتى تعلم .... ) أي مادمت لم تعلم بالنجاسة، فأُخِذ في موضوعها عدم العلم بالنجاسة، وهذا واضحٌ . ثم نضيف إلى ذلك مقدّمة أخرى وهي أن العلم وعدم العلم يراد به هنا الحجّة وعدم الحجّة وإنما ذكر العلم من باب كونه مصداقاً واضحاً للحجّة وإلا فهو بنفسه لا خصوصيّة له، ويصير مضمون القاعدة هكذا:- ( كلّ شيءٍ نظيف حتى يثبت بالحجّة أنه نجس  )، فالعلم أُريد به الحجّة.
وإذا قبلنا هذا فحينئذٍ يتقدّم الاستصحاب على قاعدة الطهارة من باب أنه حجّة على النجاسة فيرفع موضوع قاعدة الطهارة رفعاً حقيقياً، أي يكون الاستصحاب وارداً على دليل قاعدة الطهارة.
إن قلت:- لماذا لا نعكس هذا الكلام على الاستصحاب فنقول:- إن دليل الاستصحاب قال:- ( لا تنقض اليقين بالشك ) واليقين رأد به حسب ما استظهرناه سابقاً الحجّة والشكّ يراد به عدم الحجّة فيصير المعنى:- ( لا تنقض الحجّة باللاحجّة )، إن هذا هو مضمون الاستصحاب، فهو يجري إذا لم تكن هناك حجّة على خلاف الحالة السابقة، وحيث إن قاعدة الطهارة حجّة على الطهارة فعلى هذا الأساس سوف يكون رفع اليد عن الحجّة السابقة - يعني اليقين السابق بالنجاسة - في حالة الشك لأجل الحجّة على الطهارة وتلك الحجّة هي قاعدة الطهارة . إذن يمكن أن نجعل قاعدة الطهارة هي المقدَّمة على الاستصحاب وترفع موضوعه رفعاً حقيقيّاً الذي هو عبارة عن الورود، وهذا معناه أن فكرة الورود كما صوّرت بالنحو السابق الذي هو في صالحنا حيث صوّرت وجعل الاستصحاب هو الوارد على قاعدة الطهارة يمكن أن نعكس ونجعل قاعدة الطهارة هي الواردة على الاستصحاب وبذلك تكون النتيجة ضدّنا فإن قاعدة الطهارة سوف تصير هي المقدّمة على الاستصحاب أو أن أحدهما معارض للثاني ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.
قلت:- لا بأس بتفسير الشكّ في دليل الاستصحاب بغير الحجّة والتقدير هو ( لا تنقض الحجّة على الحالة السابقة باللاحجّة ) ونسلّم بهذا، ولكن نقول:- إن قاعدة الطهارة ليست حجّة على الطهارة الظاهريّة فإن قاعدة الطهارة مصطلحٌ فقهيٌّ ولابد من حذفه من الحساب وإنما الثابت شرعاً فقط وفقط هو:- ( كلّ شيءٍ نظيف حتى تعلم أنه قذر )، يعني أن الثابت هو هذا الحكم الشرعي، فهناك حكمٌ شرعيٌّ بالطهارة في حالة الشكّ لا أنه توجد حجّة تدلّ على الطهارة، كلّا، إن هذا استعانة بالتعابير الفقهيّة حيث أن تعبير قاعدة الطهارة تعبيراً فقهياً وجعلنا قاعدة الطهارة دليلاً على الطهارة وهذا غلطٌ فلا يوجد عندنا إلا حكم شرعيّ بطهارة الأشياء حالة الشك فأين الحجّة على الطهارة ؟!!
وعلى هذا الأساس سوف لا يزول موضوع الاستصحاب لأن موضوع الاستصحاب هو ( لا تنقض الحجّة على الحالة السابقة باللاحجّة ) والمفروض أن قاعدة الطهارة ليست حجّة على الطهارة وإنما هي حكمٌ شرعيّ.
إن قلت:- إن هذا يجري بنفسه بالنسبة إلى الاستصحاب فإن العبير بالاستصحاب هو مصطلحٌ أصوليٌّ نحن اصطلحناه والثابت من الروايات فقط وفقط هو حكم شرعيّ - أي ( لا تنقض اليقين بالشك ) - فالثابت هو حكمٌ شرعيّ ولا توجد حجّة . فإذن كما لا يصحّ أن نقول إن قاعدة الطهارة حجّة على الطهارة لا يصحّ أيضاً أن نقول إن الاستصحاب حجّة على البقاء فإن كلمة الاستصحاب مصطلحٌ منّا لا أنه شيءٌ شرعيٌّ جُعِل دليلاً على البقاء.
قلت:- نسلّم أن الاستصحاب هو في واقعه حكم شرعي حيث قال عليه السلام:- ( لا تنقض اليقين بالشك ) وهو كسائر الأحكام الشرعيّة، ولكن هذا الحكم الشرعي له خصوصيّة حيث إنه يتضمّن أن اليقين السابق قد جعله الشارع دليلاً وحجةً على البقاء، فمادام يوجد يقينٌ سابقٌ بالنجاسة فهذا اليقين - ولا أقول الاستصحاب - جعله الشارع حجّة على بقاء النجاسة مادام لم تقم الحجّة على الانتفاء بقوله ( لا تنقض اليقين بالشك )، فهو حكمٌ شرعيٌّ لكن بالتالي لا يتنافى مع كون اليقين بالنجاسة - أي بالحالة السابقة - حجّة على البقاء . فعلى هذا الأساس سوف يرتفع موضوع قاعدة الطهارة بالحجّة على بقاء النجاسة، والمقصود بالحجّة هو اليقين السابق على النجاسة فإنه حجّة على بقائها شرعا ً، وهذا بخلافه في قاعدة الطهارة فإنه لا توجد مثل هذه الحجّية، فلا يوجد شيء يكون حجّة مثبتةٌ للشيء الآخر بخلافه في باب الاستصحاب فإن اليقين السابق هو شيءٌ جُعِل حجّة على البقاء، فالحجّية متصوّرة في باب الاستصحاب والمقصود منها هي اليقين، فاليقين هو حجّة على البقاء وبه يرتفع موضوع قاعدة الطهارة.
إذن لا إشكال في فكرة الورود التي أوضحناها بعد الالتفات إلى سدّ الاشكالات بالبيان الذي أشرنا إليه.
ولكن يبقى شيء:- وهو أن الاستصحاب وإن تقدّم على قاعدة الطهارة بالورود حيث إنّ اليقين السابق حجّة على البقاء فيرتفع موضوع قاعدة الطهارة ارتفاعاً حقيقيّاً - إن هذا جيّد - ولكنه يتمّ إذا كان الاستصحاب استصحاباً مخالفاً لقاعدة الطهارة - يعني كان عبارة عن استصحاب النجاسة - إما إذا كان هو استصحاب الطهارة ففي مثل هذه الحالة هل يُحكَم بتقدّمه على قاعدة الطهارة أو أنهما يجريان معاً أو هناك شقٌ ثالث ؟
إن القائلين بمسلك جعل العلميّة قد يقولون في هذا المورد بأن الاستصحاب هو المقّدم - أي استصحاب الطهارة - باعتبار أنه بناءً على أماريّته سوف يحصل العلم بالطهارة، وبعد حصول العلم بالطهارة يرتفع موضوع قاعدة الطهارة ولكن ارتفاعاً تعبدياً، وهذا عبارة أخرى عن الحكومة.
ولعل المعروف هو هذا - يعني تقدّم استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة -.
ولكن يرد عليه:- أن استصحاب الطهارة رغم جريانه لا يرفع موضوع قاعدة الطهارة، والوجه في ذلك:- هو أن موضوع قاعدة الطهارة هو عدم العلم بالنجاسة لا عدم العلم بالنجاسة وبالطهارة فإن النصّ قال:- ( كلُّ شيءٍ لك نظيف حتى تعلم أنه قذر ) ولم يقل ( حتى تعلم أنه طاهر ) أو ( حتى تعلم أنه قذر أو طاهر ) بل قال فقط وفقط ( حتى تعلم أنه قذر )، فالموضوع هو عدم العلم بالنجاسة لا عدم العلم بالطهارة، ومعه إذا جرى استصحاب الطهارة فغاية ما يثبت لي هو علمٌ بالطهارة ولا يثبت لي العلم بالنجاسة حتى يرتفع موضوع قاعدة الطهارة. وإذا قلت:- إني إذا صرت عالماً بالطهارة فكيف تجري قاعدة الطهارة بعد فرض أنّي عالمٌ بها ؟ فإن قاعدة الطهارة حكمٌ ظاهريٌّ وتعبّدني بالطهارة، والتعبّد يحتاج إلى شكّ وأمّا مع العلم فلا معنى للتعبّد، وعليه إذا صرت عالماً بالطهارة باستصحاب الطهارة فكيف يعبّدني الشارع بالطهارة الظاهرية ؟!! فأنا عالمٌ والعالم لا معنى لأن يُعبَّد بشيءٍ يعلم به !! فالتعبّد فقط وفقط يكون للشاك أما للعالم فلا يمكن ذاك فإن التعبّد فرع الشك والمفروض أنه لا شكّ بل صار عالماً بالطهارة.
قلت:- إذا صار المكلف عالماً وجداناً بالطهارة فنسلّم أنه لا يمكن تعبّده بقاعدة الطهارة فإن تعبّد العالم بالوجدان شيء غير ممكن لأن الواقع قد انكشف له انكشافاً تامّاً فالتعبّد يكون لغواً - أو تحصيلاً للحاصل وليس ممكنا -، أمّا إذا لم أيكن عالماً بالوجدان وإنما كان عالماً بالتعبّد فأيُّ مانعٍ آنذاك من التعبّد بالطهارة من طريقٍ آخر أيضاً !! فيكون التعبّد بالطهارة من ناحيتين من ناحية الاستصحاب وفي نفس الوقت أعبّدك بالطهارة من ناحية قاعدة الطهارة، إنَّ هذا شيءٌ ممكنٌ.
وهذا إشكالٌ يتسجّل على أصحاب مسلك جعل العلميّة في باب الاستصحاب إذا قالوا بأن استصحاب الطهارة يتقدّم على قاعدة الطهارة بالحكومة حيث يرفع موضوع قاعدة الطهارة - أي يرفع الشك -، فيقال لهم إنه لا يرفع موضوع قاعدة الطهارة فإن موضوعها هو العلم بالنجاسة والمفروض أنّي باستصحاب الطهارة لا أعلم بالنجاسة بل أصير عالماً بالطهارة، وإذا أجابني أصحاب هذا المسلك وقالوا:- إذا صرت عالماً بالطهارة أيضاً لا يمكن الشارع أن يعبّدك بالطهارة أيضاً، قلت:- هذا علمٌ تعبّدي والعالم تعبّداً بالطهارة لا مانع من أن يعبَّد بطريقٍ آخر بالطهارة أيضاً . هذا إشكالٌ يتسجّل على القائلين بمسلك جعل العلميّة، فإذن ماذا نقول ؟