الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

35/06/09

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- التنبيه التاســع تعــارض الاستصحــاب مــع غيــره ( تعارض الاستصحابين في باب العلم الإجمالي )  / تنبيهات / الاستصحاب / الأصول العملية.
ثمرة البحث:- ذكرنا فيما سبق أنه وقع الكلام في أن الأصول التنجيزيّة - أعني استصحاب النجاسة السابقة - هل تجري في أطراف العلم الاجمالي أو لا ؟ وذكرنا أن هناك رأياً معروفاً يقول بالجريان لوجود المقتضي وفقدان المانع، وفي المقابل يوجد رأي للشيخ الأعظم والشيخ النائيني ونحن وافقناهم أيضاً بأنه لا يجري غاية الأمر على اختلافٍ في الطريق.
والسؤال هو:- هل هناك ثمرة عمليّة تترتّب على هذا الخلاف ؟
والجواب:- ذكر أن هناك ثمرة وهي أنه لو كانت الحالة السابقة في الإناءين هي النجاسة - كما فرضنا - وعلمنا بطهارة واحدٍ، فإذا أصاب أحد الإناءين شيءٌ كاليد فهل نحكم بنجاسة هذا الملاقي لأحد الاناءين الذي افترضنا أن حالته السابقة هي النجاسة أو لا ؟ قالوا:- نعم نحكم بنجاسته، لأن المفروض أن استصحاب النجاسة يجري فيه وبالاستصحاب تثبت نجاسته ومع الحكم بنجاسته فيلزم إذا لاقاه شيءٌ أن نحكم بنجاسة الملاقي.
وإن شئت قلت:- إنه في مسألة ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة قالوا بأن الملاقي لا نحكم عليه بالنجاسة - والتخريج الفنّي لذلك هو أنهم قالوا نحن نشك هل لاقى النجس أو لا ؟ فنحن لا نتمكن أن نقول هو قد لاقى النجس فنجري فيه أصل الطهارة - بل نحكم بطهارته، ولذلك إذا كان عندنا فراشٌ قد بال الطفل على بعضه ولكن لا نعلم مكان النجاسة بالخصوص وخرج شخصٌ من الحمّام ووضع رجله على موضعٍ واحدٍ من هذا الفراش – ولم يضعه عليه كلّه - فهنا هل تتنجس الرجل أو لا ؟ قالو:- لا تتنجّس الرجل لعدم وجود المثبت لملاقاتها للنجس فنجري في الرجل أصل.
ولكن في خصوص موردنا رغم أن الإناء هو أحد أطراف الشبهة نحكم بأن الملاقي للإناء نجسٌ، ولماذا هذا الفرق ؟  إن السبب هو أنّنا افترضنا في محلّ كلامنا أن الحالة السابقة هي النجاسة فيجري استصحاب النجاسة بناءً على جريانه، فبناءً على جريانه يحكم على هذا الإناء بالنجاسة فالملاقي يحكم عليه بالنجاسة أيضاً، هذا بناءً على جريان الاستصحاب التنجيزي فيما إذا كانت الحالة السابقة هي النجاسة . وأمّا إذا قلنا أن الاستصحاب التنجيزي لا يجري - أي سلكنا مبنى الشيخ الأنصاري أو النائيني أو كما اخترناه من فكرة التناقض - فالاستصحاب إذا لم يجرِ فنحكم بطهارة الملاقي حينئذٍ.
هذه ثمرة تترتّب على المسلكين مسلك من يرى أن الاستصحاب التنجيزي يجري ومسلك من يرى أن الاستصحاب التنجيزي لا يجري، فعلى مسلك من يقول بالجريان نحكم بأن الملاقي يتنجّس لأن الملاقى محكومٌ عليه بالنجاسة بالاستصحاب فالملاقي يحكم عليه بالنجاسة، أمّا بناءً على الرأي الآخر فالملاقى لا يحكم عليه بالنجاسة لأن الاستصحاب لا يجري فالملاقي لا يحكم بنجاسته.
وهناك قضية أخرى:- وهي أنه لو فرض أن الطرفين كانا ثوبين وكانت الحالة السابقة لكلّ ثوبٍ منهما هي النجاسة وعلمت أنّي قد طهّرت واحداً منهما ولكن اختلط الذي طُهّر بالذي هو باقٍ على النجاسة فلا يُعرَف، إنه في هذه الحالة بناءً على المسلك الأوّل الذي يقول بجريان الاستصحاب التنجيزي يجري استصحاب نجاسة الثوبين.
والسؤال هنا:- وهو أنه لو فرض أنّي صليت في الثوبين يعني صلّيت صلاة الظهر أوّلاً في الثوب الأوّل ثم خلعته ولبست الثوب الثاني واعدت صلاة الظهر فيه، ففي مثل هذه الحالة هل نحكم بصحة إحدى الصلاتين ونقول إن الذمّة فرغت أو لا ؟ وهذا سؤال نوجهه لغير الشيخ الأنصاري والنائيني(قده) كالسيد الخوئي(قده) الذي يبني على أن الاستصحاب التنجيزي.
والجواب:- حكم السيد الخوئي(قده) في التنقيح[1] بأن الصلاة تفرغ الذمّة منها ويحكم بصحتها إذ المفروض أن أحد الثوبين طاهر فإحدى الصلاتين قد وقعت في الطاهر حتماً فيحكم بفراغ الذمّة . هكذا حكم(قده) رغم أن الجاري في الثوبين هو استصحاب النجاسة لكن مع ذلك قال نحكم بالصحة لأن إحدى الصلاتين وقعت صحيحة في الثوب الطاهر.
وفيه:-
أما بالنسبة إلى ما ذكر أوّلاً - من أنه لو كان عندنا إناءان حالتهما السابقة النجاسة ثم طهّر أحدهما ولا قت اليد أحدهما قالوا نحكم بنجاستها  أي نجاسة الملاقي - والمفروض أنّي لاقيت أحد الإناءين وليس كلا الإناءين ؛ لأن الملاقى حُكِم بنجاسته بالاستصحاب فالملاقي لابد وأن يُحكَم بنجاسته بالتبع لنجاسة الملاقى.
إن ما ذكروه كلامٌ صناعيٌّ على وفق الصناعة، وفنيّ على طبق الفنّ، وبذلك يختلف الحال - كما قلنا - فيما إذا فرض أن الاصبع لاقى أحد أطراف الشبهة من دون أن تكون الحالة السابقة هي النجاسة فهناك لا نحكم بنجاسة الاصبع، أمّا هنا فنحكم بذلك.
والذي أريد أن أقوله:- هو أن هذا مخالفٌ للوجدان، فإنه بالتالي أنا أشعر أن أصبعي ليس من الحتم أنه لاقى النجس، نعم الصناعة تقول هو قد لاقى النجس ولكن الوجدان يبقى يقول إنه لا يُجزَم بأنّه لاقى النجس، فكيف يُحكَم بنجاسة الاصبع ؟! بل يجري فيه أصل الطهارة !!
إذن هذا أحد الموارد التي يقف فيها الوجدان أمام الصناعة، وليُجعَل هذا الشعور الوجداني منطلقاً إلى الحكم بوجود خللٍ في الصناعة ونأخذ بالتفتيش في مكان الخلل، وهذه كبرى كليّة نذكرها، فمقامنا قد لا يكون مصداقاً لتلك الكبرى ولكن المهمّ هو أن هذا كلامٌ كليٌّ نذكره، فمتى ما رأيت كلاماً صناعيّاً لكنّه ليس مطابقاً للوجدان فاجعل الوجدان منطلقاً للتفتيش عن الخلل في الصناعة.
فالخلل الذي انتهينا إليه فيما سبق هو أنه من المناسب أن لا يجري الاستصحاب في الطرفين إمّا لما أشار  إليه الشيخ الأنصاري أو لما أشار إليه الشيخ النائيني أو لما أشرنا إليه من فكرة التناقض.
وأما بالنسبة إلى مأ افاده السيد الخوئي(قده) في التنقيح من أن الصلاة صحيحة في الثوبين فيرد عليه:- إن حكمه بصحة إحدى الصلاتين يكشف عن وجود خللٍ في الصناعة، وإلا إذا كانت الصناعة تامّة فالثوب الأوّل محكومٌ بالنجاسة فالصلاة فيه تكون باطلة، والثوب الثاني يكون محكوماً بالنجاسة فالصلاة فيه تكون باطلة، فكلتا الصلاتين يلزم أن تكون باطلة، فهذا الشعور الوجداني بأن إحدى الصلاتين صحيحة منبّهٌ على وجود خللٍ في الصناعة وإلا فكيف تحكم بأن الاستصحاب جارٍ في كليهما وأن الاثنين نجسين ومع ذلك تقول إن إحدى الصلاتين صحيحة ؟!! كيف يكون ذلك ؟!! . فإذن حكمك بالصحّة بالوجدان - فإنه يشعر بالوجدان أن واحدةً صحيحةً لأن أحد الثوبين هو طاهرٌ حتماً - منبّهٌ على وجود خللٍ في الصناعة وأنّ الاستصحابين لا يجريان.


[1]  التنقيح في شرح العروة الوثقى، ج3، ص288، ط قديمة.