الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

35/05/30

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- التنبيه التاســع تعــارض الاستصحــاب مــع غيــره ( تعارض الاستصحابين في باب العلم الإجمالي )  / تنبيهات / الاستصحاب / الأصول العملية.
وقبل أن نعلق على ما افاده(قده) نلفت النظر إلى قضية جانبية:- وهي أن ما أفاده الشيخ الأعظم هل يرجع إلى فكرة الإجمال يعني يريد أن يدّعي أن دليل الاستصحاب لأجل التناقض بين الصدر والذيل يصبح مجملاً أو  شيء آخر غير الإجمال ؟ إنه(قده) لم يذكر لفظ الإجمال في عبارته، إلّا أن الشيخ الخراساني(قده) في الكفاية حينما نقل مطلب الشيخ الأعظم وأراد أن يردّه استعان بمصطلح الإجمال فنسب إليه القول بالإجمال، حيث قال في مقام ردّه ما نصّه:- ( فإن إجمال ذاك الخطاب لا يكاد يسري إلى غيره مما ليس فيه ذلك )[1]، يعني كأنه يريد أن يقول - كما سوف نذكره بعد قليل - إن غاية ما يلزم هو أن الرواية المشتملة على الفقرة الثانية - التي هي ( ولكن انقضه بيقين آخر ) - تصير مجملة ولكن بقيّة الروايات ليس فيها هذا الذيل فلا إجمال فيها فنتمسّك بها لإثبات جريان الاستصحاب في كِلا الطرفين وإجمال تلك لا يسري إلى هذه . فهنا استعان بمصطلح الإجمال وكأنه فهم أن الشيخ الأعظم يدّعي الإجمال، ووافقه على ذلك بعض من جاء بعده، فهم حينما أرادوا أن يشكلوا على الشيخ الأعظم قالوا إن إجمال بعض الروايات لا يسري إلى الروايات الأخرى.
ولكن ربّ قائلٍ يقول:- إن ما أفاده الشيخ الأعظم أجنبيٌّ عن فكرة الإجمال، فإن الذي ذكره هو أن جريان الاستصحاب في كليهما يلزم منه المناقضة بين الصدر والذيل وفي أحدهما المعيّن بلا مرجّح والمردّد لا وجود له، وهذا شيءٌ آخر غير الإجمال وأجنبيٌّ عن الإجمال.
وفي هذا المجال نقول:- إن كلمة ( مجمل ) أو ( إجمال ) لعلها مشتركٌ لفظيٌّ في المصطلح الأصولي مثلاً، فهي تأتي بمعنى ما لا يكون معناه واضحاً، أي إن نفس المعنى يكون مجملاً ولا ظهور للكلام في معنىً معيّن، وإذا أخذنا هذا المصطلح فالحقّ أن ما أفاده الشيخ الأعظم لا يرجع إلى دعوى الإجمال لأنه لا يوجد لفظٌ في النصّ هو مجملُ المعنى . ولكن هناك معنىً آخر للمجمل وهو أن يقال بأنه متى ما فرض وجود تناقضٍ بين فقرات الدليل الواحد فالفقرة الأولى واضحة في معناها والفقرة الثانية واضحة في معناها ايضاً ولا يوجد خفاءٌ ولكن الجمع بين الظهورين غير ممكنٍ، إن هذا نحوٌ من الإجمال في المصطلح الأصولي ولنصطلح عليه بالإجمال الداخلي - أي في داخل النص يوجد تهافت بين المقدم والتالي بين الصدر والذيل - فصحيحٌ أن هذا لا يصطلح عليه الإجمال لغةً ولكن هذا استعمالٌ ومعنىً أصوليّ آخر للإجمال . وبناءً على هذا المصطلح يرجع ما أفاده الشيخ الأعظم إلى دعوى الإجمال لأنه بالتالي تحصل مناقضة بين الصدر والذيل فيحصل إجمال . وهذه قضية ليست مهمّة.
وأشكل الشيخ الخراساني في الكفاية على ما ذكره الشيخ الأعظم:- بأن جميع الروايات لا تشتمل على هذا الذيل بل بعضها يشتمل عليه ومعه يصير ذلك البعض المشتمل على الذيل مجملاً، أما بقيّة الروايات التي ليس فيها هذا الذيل فلا تصير مجملةً فنتمسّك إذن ببقيّة الروايات التي لا تشمل على الذيل لإثبات أنه يجوز تطبيق الاستصحاب على كليهما - يعني على هذا الفرد وعلى ذاك الفرد - من دون لزوم محذور المناقضة، وبذلك يثبت ما أفاده الشيخ الأعظم لأنه قال لا يمكن للقصور الإثباتي، ونحن نقول له لا يوجد قصورٌ إثباتيٌّ لأن الروايات الباقية لا يوجد فيها إجمالٌ فنتمسّك حينئذٍ بظهورها لكِلا الاناءين.
هذا ما ذكره الشيخ الخراساني(قده) ووافقه عليه جملة من الأعلام كالشيخ النائيني[2] والسيد الخوئي[3] والسيد الشهيد[4].
وقد يخطر إلى الذهن في مقام ردّ ما أفاده الشيخ الآخوند ونصرةً للشيخ الأعظم بأن يقال:- إن الذي اشتمل على الذيل يصبح مقيَّداً بالذيل، ومن الواضح أن القيد إذا ذكر في رواية واحدةٍ يكون ساري المفعول بلحاظ بقيّة الروايات ولا يحتمل أحدٌ أن القيد المذكور في روايةٍ يصير قيداً بلحاظ تلك الرواية فقط أمّا بقية الروايات فتعود مطلقة . وفي مقامنا نقول ذلك ؛ فإن هذا الذيل مادام قد ذكر في روايةٍ واحدةٍ فيصير ساري المفعول بلحاظ بقيّة الروايات لقاعدة أن الرواية متى ما اشتملت على قيدٍ من القيود فذلك القيد يكون ساري المفعول بلحاظ بقيّة الروايات.
وفي الردّ نقول:- إن القيد قيدان، فتارةً يكون القيد موجباً لتضييق الحكم ما إذا فرض أن واحدةً من الروايات قالت ( يجب كذا إن فرض ان عمر المكلف كان خمسين سنة مثلاً )، فهذا تقييد يوجب تضييق الحكم فيكون ساري المفعول بلحاظ بقيّة الروايات المطلقة، وأخرى يكون القيد ليس مضيّقاً لدائرة الحكم بل هو مطلبٌ إضافيٌّ وليس تقييداً ولعلّ تعبيرنا عنه بالقيد فيه شيءٌ من المسامحة، كما لو قيل ( أكرم زيداً وأكرم عمرواً )، إن قوله و (أكرم عمرواً ) ليس قيداً مضيّقاً لأكرم زيداً وإنما هو مطلبٌ إضافيٌّ، بخلاف ما إذا قيل ( أكرم زيداً إن جاءك ) فإن قوله ( إن جاءك ) يوجب تضييق الحكم . إذن القيد إذا كان من القبيل الأول الموجب لتضييق الحكم فيكون سارياً بلحاظ بقية الروايات، أما إذا لم يكن موجباً لتضييق الحكم بل من باب بيان  مطلبٍ إضافيّ فلا يكون ساري المفعول بلحاظ بقيّة الروايات، ومقامنا هو من القبيل الثاني، ومادام هو بيانٌ لمطلبٍ إضافي فلا يوجب تضييقاً للحكم وبالتالي لا يكون ساري المفعول بلحاظ بقيّة الروايات . وهذه نصرة للشيخ الخراساني(قده) ومن تبعه، وحينئذٍ يصير جوابهم تامّ فإن بقيّة الروايات تبقى على ظهورها وإطلاقها ولا ينتابها الإجمال لأن القيد لا يوجب تضييق الحكم هنا وإنما هو بيانٌ لمطلبٍ إضافيّ فلا يسري الإجمال من تلك الرواية إلى بقيّة الروايات.
ولكن الصحيح:- هو أن إجمال الرواية يسري إلى بقيّة الروايات حتى إذا كان من القبيل الثاني وذلك بأن يقال:- إن هذا المطلب الإضافي حيث إنه من المشرّع ومن نفس صاحب الحديث فلا معنى حينئذٍ لملاحظته في خصوص هذا الحديث الأوّل، إنه مطلبٌ من نفس المشرّع  - يعني قاعدة ( ولكن انقض اليقين باليقين ) - وإن ذكره المشرّع في روايةٍ واحدةٍ ولكن بالتالي هو مادام قد صدر منه فلابد من تقديره في بقيّة الروايات . فإذن عاد بذلك إشكال التهافت بين ما صرّح به وبين ما هو مقدّر لأنّا سوف نقدّره بعد كونه حكماً من قبل المشرّع فلا معنى لقصر النظر على خصوص تلك الرواية الأولى.
وإن شئت قلت:- إن الإجمال الذي لا يسري إلى بقيّة الروايات هو الإجمال بالمعنى الأول - أي بمعنى ما كان لا ظهور له أي ما كان هناك خفاء في المراد الاستعمالي فهنا يتمّ ويكون إجمال واحدة لا يسري إلى الباقي - أما إذا فرض أن الإجمال كان بمعنى وجود المعارض فهذا المعارض حيث إنّه من الشارع فهو وإن ذكره في روايةٍ واحدةٍ ولكن لابد من تقديره في بقيّة الروايات فيسري الإجمال إلى بقيّة الروايات . وهذا من الأشياء الظريفة التي ينبغي الالتفات إليها . إذن بالتالي استفدنا لحدّ الآن أن هذه المناقشة التي أوردها الشيخ الخراساني على الشيخ الأعظم غير تامّة.
والأجدر في مقام مناقشة الشيخ الأعظم أني يقال:- إن ظاهر الذيل الذي يقول ( ولكن انقض اليقين باليقين ) هو الاتحاد بين متعلّق اليقينين، فإذا فرض أن اليقين الأول كان متعلقاً بنجاسة هذا الإناء وهذا يقينٌ تفصيليٌّ إذ هو يقينٌ بنجاسة هذا الإناء، ويقينٌ تفصيليٌّ بنجاسة ذاك الإناء، فحينما يقول ( انقضه بيقين آخر ) يعني يقينٌ آخر من مثله ومن جنسه أي يقينٌ تفصيليٌّ بارتفاع النجاسة، فيلزم أن تنقضه بيقينٍ آخر أي يقين بطرو الطهارة وارتفاع النجاسة ولكنه يقين تفصيليّ، فذاك تفصيليٌّ وهذا أيضاً يلزم أن يكون تفصيلياً، هكذا يكون ظاهر الحديث والمفهوم منه هو هذا المعنى . بينما في مقامنا اليقين الأوّل هو يقينٌ تفصيليٌّ بينما اليقين الطارئ بسبب العلم الإجمالي هو يقينٌ إجماليٌّ - يعني أوّلاً كنت أتيقن بنجاسة هذا والآن صرت أتيقن بطهارة أحدهما - فلا يكون ذلك مشمولاً للذيل فلا يتحقّق التناقض بين الصدر والذيل آنذاك.


[1]  كفاية الاصول، ص432، آل البيت.
[2]  أجود التقريرات، النائيني، ج2، ص500.
[3]  مصباح الأصول، ج3، ص259.
[4]  دروس في علم الاصول ( الجزء الثاني من الحلقة الثالثة، السيد الشهيد )،القسم الثاني، ص88.