الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

35/05/07

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- التنبيه الثامن ( وجه تقديم الأمارات على الأصول ) / تنبيهات / الاستصحاب / الأصول العملية.
قلنا بل نصعّد اللهجة ونقول:- إنه يمكن أن يقال:- إن الحكومة لا يمكن الأخذ بها في مثل أصل الطهارة، فلو فرض أن خبر الثقة مثلاً كان يدلّ على طهارة العصير العنبي إذا غلى، وهذا هو مقتضى أصل الطهارة فإن مقتضى أصل الطهارة يقتضي أيضاً طهارته - فإنه أذا غلى وشككنا فأصل الطهارة يقتضي الطهارة - فهنا حتى لو سلّمنا فكرة الحكومة في الأمارة المخالفة لا يمكن أن نسلّمها في الأمارة الموافقة، هكذا قد يقال وذلك ببيان؛ أن دليل أصل الطهارة جعل الغاية هي العلم بالنجاسة وقال ( كلّ شيءٍ نظيف حتى تعلم أنه قذر ) فالغاية هي العلم بالقذارة أيّ الغاية للطهارة الظاهرية وليست الغاية هي العلم بالنجاسة والعلم بالطهارة معاً، كلّا بل الغاية فقط وفقط هي العلم بالنجاسة، وعلى هذا الأساس نقول:- إذا فرض أن الأمارة كانت مخالفة لأصل الطهارة - أي دالة على نجاسة العصير العنبي - فتصير حاكمة لأنه ببركة خبر الثقة الدال على النجاسة سوف يصير المكلّف عالماً بالنجاسة لكن من التعبّد فيرتفع أصل الطهارة آنذاك لأن غاية أصل الطهارة وحدّه هو العلم بالنجاسة فإذا تولّد العلم بالنجاسة بسبب خبر الثقة ف أصل الطهارة سوف ينتهي مفعوله ويرتفع فتحصل الحكومة، أما إذا فرض أن الأمارة - أعني خبر الثقة - كان دالّاً على طهارة العصير العنبي فسوف يصير المكلّف ببركة خبر الثقة عالماً بطهارة العصير العنبي ولكن حصول العلم بالطهارة لا يرفع أصل الطهارة لأن الحدّ لأصل الطهارة هو العلم بالنجاسة وليس العلم بالطهارة.
نعم نستدرك ونقول:- إذا كان العلم الحاصل بالطهارة علماً وجدانياً فأصل الطهارة يرتفع ويزول وإلّا يلزم التعبّد بما هو معلوم بالوجدان وهو قبيح أو غير ممكن، فحالة العلم الوجداني بالطهارة تكون خارجة من أصل الطهارة بسبب حكم العقل المذكور - وهو قبح التعبّد بما هو معلوم بالوجدان -، أما إذا فرض أن العلم بالطهارة كان علماً تعبّدياً فلا يقبح آنذاك من الشارع أن يعبّدنا بأصل الطهارة بل هو شيء ممكن ومقتضى إطلاق دليل أصل الطهارة هو أن التعبّد ثابتٌ حتى في حالة العلم التعبّدي بالطهارة.
وعلى هذا الأساس لا تكون الأمارة الموافقة حاكمة على أصل الطهارة وإنما تكون حاكمة لو أخذ العلم بالطهارة حدّاً كأخذ العلم بالنجاسة، لكنّه ليس مأخوذاً كذلك وإنما المأخوذ حدّاً هو فقط وفقط العلم بالنجاسة، فالحكومة إذن غير ثابتةٍ في الأمارة الموافقة، وهذا مطلبٌ ذكره السيد الشهيد(قده)[1].
وفيه:- إنه يمكن أن نقول إن العلم بالطهارة مأخوذ حدّاً كالعلم بالنجاسة وذلك لنكتة عرفية لنكتة دقيّة:-
أما النكتة العرفيّة:- فالعرف يفهم أنه حينما يقال ( كلّ شيءٍ لك طاهر إذا لم تعلم بنجاسته ) يعني أنه إذا لم تعلم بنجاسته ولا بطهارته، وإنما حذف عبارة ( ولا بطهارته ) ولم يذكرها لأجل أن الهدف هو التخفيف على العباد - أي أنّ القاعدة جاءت للتخفيف - ومقتضى التخفيف هو أنه مادام لا يعلم بالنجاسة فيجعل أصل الطهارة، فالمنّة والتخفيف يقتضي أنه يذكر في التعبير العلم بالنجاسة فقط - يعني إذا لم تعلم بالنجاسة فأصل الطهارة موجود - وحذف ذاك لأنه لا يتناسب مع فكرة التخفيف والمنَّة لا أنه ليس حدّاً وليس غاية وشرطاً، فكلاهما حدّ وشرط ولكن ذاك لم يذكر لأن الرواية بصدد التخفيف ومقتضى التخفيف والمنَّة الاقتصار على الغاية الأولى دون ضمّ الغاية الثانية  . فإن قبلت بهذا فبها وإن لم تقبله فلك الحقُّ بذلك.
وأما النكتة الدقيّة:- فهي أنه(قده)قد اعترف أن حالة العلم بالوجدان بالطهارة خارجة من أصل الطهارة، يعني كحالة العلم الوجداني بالنجاسة فإنه مع العلم الوجداني بالنجاسة لا يمكن جعل أصل الطهارة، وكذلك الحال بعد العلم الوجداني بالطهارة لا يمكن جعل أصل الطهارة . إذن كما أن عدم العلم الوجداني بالنجاسة قد أخذ في لسان الدليل قيداً فيلزم أن يكون ذاك مأخوذاً قيداً أيضاً - أي عدم العلم الوجداني بالطهارة - إذ كما لا يمكن التعبّد بأصل الطهارة  في حالة العلم الوجداني بالنجاسة كذلك لا يمكن التعبّد بالطهارة في مورد العلم الوجداني بالطهارة، فكلاهما إذن حدٌّ، فكما أنّ ذاك حدّ فهذا حدّ أيضاً، والمفروض أن العلم بالنجاسة حينما قالت الرواية ( كلّ شيءٍ لك طاهر حتى تعلم بأنه قذر ) يقصد به أيّ علم ؟ هل هو العلم الوجداني أو التعبّدي أو الأعم ؟ إن المأخوذ هو العلم الوجداني فقط - يعني حتى تعلم وجداناً أنه نجسٌ -، والدليل على ذلك أمران:-
أوّلاً:- إن ظاهر العلم هو ذلك وإرادة العام يحتاج إلى دليل، فأنت الذي تريد أن تعمّم تحتاج إلى دليلٍ وليس أنا الذي أخصّصه بالعلم الوجداني . فعلى هذا الأساس الأصل اللفظي -  بمعنى الظاهر -  معي ولا أحتاج إلى دليل.
والثاني:- هو أن الشيخ النائيني(قده) وغيره بناء على مسلك جعل العلميّة قالوا بفكرة الحكومة ولو كان المقصود من العلم الأعمّ لكان المناسب أن يقولوا بالورود، وهذه نكتة موجبة للاطمئنان، فالذي يقول بالورود لا يمكنه أن يقول به إلّا أن يفسّر العلم بالحجّة أما إذا لم يفسّره بالحجّة فيتحتّم عليه أن يقول بالحكومة، وهذا معناه أن المقصود من العلم هو العلم الوجداني، فإذن خصوص العلم الوجداني هو المقصود غايته أنه بدليل حجيّة الأمارة تجعل الأمارة علماً وجدانياً بالتعبّد فهي قد جعلت علماً وجدانياً بالتعبّد وهذا هو معنى الحكومة، وإلا إذا كان المقصود هو الأعم لم يكن المورد حكومة بل كان المورد مورد الورود. فالتفت إلى هذه النكتة الظريفة.
والخلاصة:- إن العلم بالنجاسة المأخوذ قيداً هو العلم الوجداني فيلزم أن يؤخذ العلم الوجداني بالطهارة قيداً أيضاً وإلّا يلزم التعبّد بأصل الطهارة في مورد العلم الوجداني بالطهارة وهذا مستحيل بحكم العقل، فيتعيّن بمقتضى هذه النكتة أن يكون عدم العلم بالطهارة وجداناً قيداً وحدّاً أيضاً كعدم العلم الوجداني بالنجاسة . فاذا قبلنا بهذا فعلى هذا الأساس حيث أن المجعول في الأمارة هو العلميّة - ولو كانت علميّة بالطهارة لا بالنجاسة يعني نفترض أن الأمارة موافقة - فسوف يرتفع موضوع الأصل ارتفاعاً تعبّدياً وهو معنى الحكومة.
وبتعبيرٍ أخر:- إن المستند والمتّكأ الذي استند إليه السيد الشهيد(قده) هو أن الغاية والحدّ فقط وفقط هو عدم العلم بالنجاسة دون عدم العلم بالطهارة . ولكن اتضح ممّا ذكرناه أن الغاية ليس هو عدم العلم بالنجاسة فقط بل عدم العلم بالطهارة أيضاً، فيلزم أن تثبت الحكومة في كلتا الحالتين، فما ذكره السيد الشهيد(قده) ليس بتام.


[1]  بحوث في علم الأصول، الهاشمي الشاهرودي، ج6، ص352.