الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

35/01/29

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- تنبيهات / التنبيه الرابع ( الأصل المثبت ) / الاستصحـاب / الأصول العملية.
ويمكن أن يجاب:- بأن في المراد من قوله عليه السلام:- ( لا تنقض اليقين بالشك ) إن في ذلك احتمالات ثلاثة:-
الاحتمال الأول:- أن يكون المقصود هو تنزيل مشكوك البقاء منزلة متيقن البقاء فقوله عليه لسلام ( لا تنقض اليقين بالشك ) أي أن المشكوك عندك أيها الشاك هو منزّل منزلة متيقّن البقاء فطهارة الماء التي هي مشكوكة البقاء منزّلة عندي منزلة متيقنة البقاء.
الاحتمال الثاني:- أن يكون المقصود هو اعتبار الشاك متيقناً فأنت أيها الشاك في بقاء طهارة الماء أعتبرك متيقناً ببقاء طهارته . وقد صار إلى هذا الاحتمال بعض الأصحاب ومنهم السيد الخوئي(قده) فإنه يبني على أن المجعول في باب الاستصحاب هو  العلميّة ولذلك يعدّه أمارة كسائر الأمارات والقضيّة استظهارية لا أكثر من ذلك.
الاحتمال الثالث:- أن يكون المقصود هو النهي عن النقض العملي بمعنى أن ما كنت ترتّبه في حالة اليقين بالطهارة رتّبه في حالة الشك في بقائها وعدم ترتيب هذه الآثار هو نقضٌ بما كان المكلف على يقين منه ولكنه نقض على مستوى العمل والآثار.
ولعله يمكن تحصيل احتمالات أخرى ولكن المهمّة والمعروفة منها هي هذه الاحتمالات الثلاثة.
وحينئذٍ نقول في دفع الاشكال:- إنه على جميع هذه المباني والآراء الثلاثة يثبت الأثر الشرعي الثاني:-
أما على المبنى الأول:- فالمفروض أن الشارع قد نزّل الشاك في البقاء منزلة المتيقن بالبقاء وعمليّة التنزيل تعني التنزيل من حيث الآثار فحينما يقال ( نزّلت الطواف منزلة الصلاة ) يعني من حيث الآثار فالتنزيل ابتداءً ينصبّ على الآثار والملحوظ هو الآثار وأن آثار ذاك تسري إلى هذا , إذن الشارع حينما نزّل الشاك في بقاء الطهارة منزلة المتيقن بالبقاء يعني من حيث الأثر الشرعي وهو طهارة الثوب الذي غسل بهذا الماء فإنه يصير طاهرً فالشرع يقول أنا عندي ثبت الأثر الأوّل المباشري ومدام الأثر المباشري قد ثبت بنظر الشارع وبحكمه وبتنزيله فلابد وأن يثبت الأثر الثاني بنظره باعتبار أنه قد حكم بثبوت طهارة الثوب المغسول بهذا الماء بسبب ذلك التنزيل ومادام قد حكم بطهارة الثوب فيلزم أن يحكم بجواز الدخول في الصلاة فيه لأنه هو الذي جعل جواز الدخول في الصلاة أثراً لطهارة الثوب فإنه إذا لم يحكم بذلك فهذا يعني إما أنه لم يحكم بطهارة الثوب وهذا خلف التنزيل أو أنه لا يرى الملازمة بين طهارة الثوب وجواز الدخول في الصلاة وكلاهما خلاف المفروض ، فيلزم من تنزيله الماء مشكوك الطهارة منزلة متيقن الطهارة أن يكون هذا التنزيل بلحاظ الأثر والأثر هو طهارة الثوب المغسول به فثبت إذن بنظر الشارع طهارة الثوب وإذا ثبت ذلك يلزم أن يثبت عنده جواز الدخول في الصلاة لأنه جعل هذا موضوعاً لذاك فهو قد جعل بينهما ملازمة وقد حكم بتحقّق هذا اللازم فيلزم أن يحكم بتحقق ذلك الملازم الآخر.
ونفس الكلام نقوله على المبنى الثاني والثالث.
فعلى المبنى الثاني نقول:- إن الشارع قد اعتبر الشاك بالطهارة متيقناً وعالماً ، والفرق بين الاعتبار والتنزيل هو أن التنزيل يكون ناظراً رأساً إلى الآثار فهو بلحاظ الآثار أما الاعتبار فهو ليس ناظراً ابتداءً إلى الآثار وإنما هو عبارة عن جعل هذا فرداً من ذاك كما قال السكاكي إن الرجل الشجاع نعتبره فرداً حقيقياً من الحيوان المفترس - وهذا ما يسمى بالحقيقة الادّعائية - كاعتبار ، فإذن هو ليس ناظراً ابتداءً إلى الآثار ولكن حيث أن الاعتبار من دون ملاحظة الأثر لغواً وبلا فائدة وإن كان هو انتداءً لم يلاحظ الأثر ولكن لابد وأن يأخذ الأثر في الحساب ودفعاً لمحذور اللغوية يلزم أن نقتصر على القدر المتيقّن من الآثار فإذا لم ندخل الأثر في الحساب فسوف تكون عمليّة الاعتبار لغواً وبلا فائدة وصيانةً لكلام الحكيم عن اللغويّة لابد وأن نقدّر الأثر ولكن حيث أن اللغوية تندفع بتقدير بعض الآثار - وهو القدر المتيقن من الآثار - فالباقي حينئذٍ لا يمكن إثباته من خلال عمليّة الاعتبار ، هذا هو الفارق المهم بين التنزيل وبين الاعتبار فإنه في التنزيل بما أن التنزيل ناظر ابتداءً إلى الآثار فنتمسك بإطلاقه فنقول إن إطلاق التنزيل حينما قال ( الطواف بالبيت صلاة ) ولم يقيّد بأثر معيّن فلابد وأن يكون هذا التنزيل بعدما كان مطلقاً هو بلحاظ جميع الأثار فنتمسّك بإطلاقه ، أما في عملية الاعتبار لا يمكن التمسك بإطلاق الاعتبار فإن هذا ليس بصحيحٍ فإن الاعتبار ليس ناظراً ابتداءً إلى الآثار حتى تتمسّك بإطلاقه لإثبات عموم الآثار وإنما نقتصر على القدر المتيقن حيث إنه يندفع بذلك محذور اللغوية والقدر المتيقن من الآثار هو الآثار المباشريّة فقط فثبت بذلك الأثر المباشري وهو طهارة الثوب المغسول بهذا الماء فإنه أثرٌ مباشريٌّ وقدرٌ متيقّنٌ وبعد أن ثبت الأثر المباشري بفكرة القدر المتيقن صيانةً لكلام الحكيم من اللغوية عند ذاك نضم ما أشرنا إليه سابقاً وهو أن الشارع ما دام قد حكم بطهارة الثوب المغسول فيلزم أن يحكم بجواز الدخول في الصلاة وإلا لزم أن لا يكون جواز الدخول في الصلاة أثراً  لطهارة الثوب المغسول أو أنه لم يحكم بطهارة الثوب المغسول وكلاهما خلاف المفروض.
وهكذا نقول على الاحتمال الثالث:- فإن الشارع حينما نهى عن النقض العملي يعني أنه طلب ترتيب الأثر الشرعي المباشريّ - أعني طهارة الثوب المغسول - وحكم بسبب هذا النهي بثبوت طهارة الثوب المغسول والتعامل معه لابد وأن يكون معاملة الثوب الطاهر فيلزم من ذلك أن يحكم بجواز الدخول في الصلاة فيه أيضاً لأن لازم المعاملة مع الثوب معاملة الطاهر هو الحكم بجواز الدخول في الصلاة وإلا يلزم التفكيك بين المتلازمين الشرعيين والشارع مادام حكم بذاك وعبّدني به فيلزم أن يعبّدني بهذا الثاني أيضاً بعدما فرض أنه جعل ملازمة بين هذين الحكمين . إذن روح الجواب الذي ذكرته هو روح واحدة على جميع المباني الثلاثة وخلاصته هو أن الشارع سواءً بنينا على المبنى الأول أو الثاني أو الثالث هو بالتالي حكم بطهارة الثوب المغسول وبعد أن حكم بذلك يلزم أن يحكم بجواز الدخول في الصلاة بعد افترض الملازمة . بهذا ننهي حديثنا عن الأصل المثبت وننتقل إلى التنبيه التالي من تنبيهات الاستصحاب.

التنبيه الخامس:- الاستصحاب في الموضوعات المركّبة.
موضوع الحكم الشرعي تارةً يكون بسيطاً وأخرى يكون مركباً ، وكلامنا هو فيما إذا كان مركّباً ولكن بنحو الاختصار والاجمال نشير إلى حالة كونه بسيطاً ، ومثال ذلك طهارة الماء فإنها موضوع لطهارة الثوب المغسول به ومن المعلوم أن طهارة الماء جزء واحد وليس جزأين وهكذا لو فرضنا أن الولد شكّ هل أن والده توفي أو لا فموت الوالد موضوع إرث الولد وموت الوالد هو شيء بسيط وفي مثله إذا شككنا في أصل موت الوالد فالمناسب استصحاب عدم موته وبقاءه على قيد الحياة وهو شيء واضح وبلا كلام وإذا جزمنا بموته ولكن شككنا في أن موته كان يوم الخميس أو يوم الجمعة وكان الابن قد أجرى معاملة على بعض أمواله بين الخميس والجمعة فقبل دخول يوم الجمعة أجرى المعاملة فإذا كان الأب قد توفّي يوم الخميس فالمعاملة صحيحة لأن المال صار له وإذا لم يكن قد توفي فهذه المعاملة سوف تصير شيئاً آخر - كأن تصير فضولية أو تدخل في قاعدة من باع ثم ملك أو غير ذلك وهذا لا يهمنا الآن - فهنا لو شككنا أن موته هل كان في يوم الخميس أو يوم الجمعة - أي في زمن سابق أو في زمن لاحق - فمقتضى الاستصحاب هو أنه لم يمت في الزمن المتقدّم فإنه نشك أنه توفي في يوم الخميس أو لم يمت فإنه جزماً كان حيّاً قبل يوم الخميس ونشك في يوم الخميس أنه توفي أو لا فنستصحب الحياة ولكن غاية ما يثبت بهذا هو أنه لم يمت في يوم الخميس فإذا كانت هناك آثار فسوف تترتب بهذا العنوان أما لو فرض أن هناك آثاراً لموته في يوم الجمعة فتلك الآثار لا تترتب على موته يوم الجمعة لأن هذا الاستصحاب مثبت والاستصحاب يقول إن المشكوك لم يمت في الزمن السابق أما أنه مات في يوم الجمعة أو تأخر موته عن يوم الخميس أو حدث موته في يوم الجمعة فكل هذه العناوين الوجوديّة لوازم غير شرعيّة فلا تثبت بالاستصحاب.
والخلاصة:- إنه في الموضوع البسيط إذا شككنا في أصل حدوثه كأن مات هذا أو لم يمت نستصحب عدم الموت ، وأما إذا فرض أنّا جزمنا بحدوث الموت ولكن شككنا في تقدّمه وتأخره فنستصحب عدم التقدّم وعدم الحدوث متقدّماً ولكن بهذا لا تثبت آثار عنوان التأخر أو حدث متأخراً أو حدث يوم الجمعة وما شاكل ذلك من العناوين الوجوديّة فهذه العناوين وآثارها لو كانت لها آثار لا تترتب.
وأما إذا كان الموضوع مركّباً - ومثاله انفعال الماء فإن موضوعه عبارة عن الملاقاة الماء للنجاسة زائداً عدم الكريّة فإذا اجتمعت ملاقاة الماء مع عدم الكريّة يثبت بذلك تنجّسه كما هو واضح ، ومن قبيل ما إذا فرض أنه كان الوالد والولد مسجونين وقد قتلا ولكن لا ندري هل أن الولد كان حيّاً حينما قتل أبوه حتى يرثه أو لا إنه في مثل هذه الحالة يكون موضوع إرث الولد عبارة عن موت الوالد زائداً حياة الولد في زمان موت الوالد فإنهما إذا اجتمعا في زمنٍ واحدٍ يثبت بذلك إرث الولد ، وهناك أمثلة أخرى كثيرة من هذا القبيل - فهناك حالتان فتارة يكون الحكم منصبّاً على عنوان بسيطٍ ثالث منتزعٍ من الجزأين كعنوان الاجتماع أو الاقتران أو ما شاكل ذلك من الأوصاف الوجوديّة كأن فرض أن الموضوع لنجاسة الماء هو عدم الكريّة المقترنة أو الملاقاة المقترنة أو المجتمعة بعدم الكريّة بنحوٍ يكون الاجتماع ليس مرآةً لواقع الزمان وإنما يكون جزءاً ثالثاً فالاجتماع بما اجتماع دون الجزأين هو الموضوع وأخرى يكون مصبّ الحكمين ذوات الجزأين من دون مدخليّة عنوان الاجتماع وإذا كنّا نأخذ عنوان الاجتماع فنأخذه من باب المشيريّة إلى واقع الزمان ففي هذا الزمان أو أيّ زمانٍ إذا اجتمعا وتحقّقا فهذا كان ثابتا وذاك كان ثابتاً ولكن عنوان الاجتماع لا مدخليّة له فذوات الأجزاء هي التي لها المدخلية . فمرةٌ إذن يكون موضوع الحكم والأجزاء تؤخذ بالنحو الأوّل وأخرى تكون مأخوذةً بالنحو الثاني ، أما إذا كانت مأخوذة بالنحو الأوّل فالاستصحاب لا يجري يعني لا يمكن أن نقول إن الملاقاة ثابتةٌ بالوجدان وعدم الكريّة ثابت بالاستصحاب باعتبار أن كلّ ماءٍ حالته السابقة عادةً هو أنه قليل فنستصحب عدم الكريّة إلى واقع الزمان وبما أن الملاقاة وجدانيّة فيلتئم كلا الجزأين . وهذه الفكرة لا تأتي وسنذكر الوجه في ذلك.