الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

34/12/20

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- تنبيهات / التنبيه الرابع ( الأصل المثبت ) / الاستصحـاب / الأصول العملية.
الدليل الخامس لحجية الأصل المثبت:- إن إطلاق حديث لا تنقض اليقين بالشك إذا شمل مورداً فلو لم يثبت ويترتّب لازمه غير الشرعي - فيما إذا انحصر اللازم بذلك بعد فرض شمول إطلاق حديث لا تنقض للمورد - فيلزم من ذلك اللغوية ، فثلاً في استصحاب بقاء السواد لإثبات عدم البياض نقول إن إطلاق حديث لا تنقض إذا شمل بقاء السواد لإثبات عدم البياض نقول إن إطلاق حديث لا تنقض إذا شمل السواد وحصل التعبد ببقائه بسبب إطلاق حديث لا تنقض فيلزم من ذلك ثبوت وترتّب اللازم غير الشرعي - أعني عدم البياض - إذن ثبوت الواسطة غير الشرعية ومن ثم ثبوت الأثر الشرعي المترتب عليها – أي على الواسطة غير الشرعيّة – يمكن أن يكون بنكتة لزوم اللغوية.
وواضح أن هذا الوجه يتمّ فيما إذا فرضنا أن الأثر التعبّدي انحصر باللازم غير الشرعي وأما إذا فرض وجود أثرٍ آخر وذلك الأثر أثرٌ شرعيّ لبقاء السواد فحينئذ لا يلزم محذور اللغوية.
وفيه:- إنا ندّعي أن إطلاق حديث لا تنقض قاصر من البداية عن شمول مثل هذا المورد لا أنه يشمله ولكن لا يترتّب الأثر غير الشرعي ، كلا بل نحن لا ندّعي ذلك - أي لا ندّعي أن الشارع يعبدني ببقاء السواد ولكن لا يعبدني بأثره غير الشرعي - بل نقول إن إطلاق الحديث هو من البداية لا يشمل مثل المورد المذكور ويختصّ فقط وفقط بحالة كون الأثر أثراً شرعياً مباشرياً أما إذا لم يكن كذلك كما في مثال السواد وعدم البياض فهو لا يشمل المورد حتى يلزم محذور اللغوية.
الأمر الثامن:- هناك بعض الفروع التي ذكرها بعض الفقهاء قد يدّعى أنها مبتنية على فكرة الأصل المثبت وبالتالي قد ينسب إلى القدماء أنهم يقولون بحجية الأصل المثبت لأجل هذه الفروع والأحكام التي ذكروها وقد تعرض الشيخ الانصاري(قده) في الرسائل إلى بعض تلك الفروع في مبحث الأصل المثبت ونحن ننخب ثلاثة منها لأجل الإحاطة ببعض النكات العلمية:-
المورد الأول:- أصالة عدم الحاجب ، بمعنى أن المكلف إذا شك حالة إرادته للوضوء أو للغسل في أنه هل يوجد حاجب على أعضاء الوضوء أو الغسل أو لا فلا يلزمه أن يبحث وهذا معناه التمسك باستصحاب عدم وجود الحاجب والحال أن الاستصحاب المذكور مثبت والوجه في ذلك هو أن الواجب في باب الوضوء هو وصول الماء إلى البشرة إذ بوصوله يصدق عنوان غسل الوجه أو اليدين  فاللازم هو الغسل والغسل متقوّم بوصول الماء إلى البشرة وباستصحاب عدم الحاجب غاية ما يثبت هو أنه لا حاجب أما أن الماء قد وصل إلى البشرة وأصابها فذلك لازمٌ غير شرعي إذ لم يرد نصّ يقول ( إذا لم يكن هناك حاجب فالماء قد وصل إلى البشرة ) وانما العقل هو الذي يحكم بذلك . إذن استصحاب عدم وجوب الحاجب لإثبات تحقّق الوضوء أو بالأحرى غسل الوجه واليدين هو أصل مثبت.
وواضح أن هذا الكلام كما في يأتي في مورد الشك في وجود الحاجب يأتي أيضاً في مورد حاجبيّة الموجود فإنه تارةً نشكّ في أصل وجود الحاجب كما لو فرض أني شككت أن قلم الجاف هل أصاب بشرتي أو لم يصبها وكان الجو مظلماً فهذا شكٌّ في أصل وجود الحاجب ، وأخرى نفترض وجود شيءٍ كخطّ قلم الجاف ولكن نشك هل يمنع من وصول الماء وهذا شك في حاجبية الموجود ، إنه على كلا التقديرين يكون الاستصحاب المذكور - يعني استصحاب عدم وجود الحاجب أو عدم حاجبية الموجود - أصلاً مثبتاً كما هو واضح وقد أفتى القدماء بأنه لا حاجة إلى البحث عن الحاجب وهذا يعني أنهم اعتمدوا على الاستصحاب المذكور الذي هو مثبتٌ.
وقد مال الشيخ الأنصاري(قده) في الرسائل[1]إلى أنه يمكن أن يدّعى انعقاد السيرة:- فيقال إن هناك سيرة من المسلمين قد جرت على عدم الفحص فنحن في زماننا إذا أرنا أن نتوضاً أو نغتسل فلا نضع مرآةً أو أشياءً أخرى لكي ننظر بها قبل الوضوء أو الغسل للتأكد من عدم وجود الحاجب ومن فعل ذلك عُدَّ شاذّاً ومخالفاً للطريقة التي عليها المسلمون ، فإذن سيرة المسمين قد جرت على عدم الفحص وبذلك يثبت الأصل المذكور وهو أن الأصل عدم وجود الحاجب أو عدم حاجبية الموجود من خلال السيرة المذكورة.
هذا ولكن يمكن أن يناقش بمناقشتين
المناقشة الأولى:- إن السيرة المذكورة ليست ثابتة كما أشار إلى ذلك الشيخ النائيني(قده) في أجود التقريرات[2] وهكذا السيد الخوئي(قده) في مصباح الأصول[3]  ، بتقريب:- إننا وإن كنّا لا نفحص ولكن عدم الفحص ناشئ من أحد أمرين فهو ناشئ إما من الغفلة فإنا غافل عن وجود شيء على بشرتي ولأجل الغفلة أتوضأ من دون تفحّص مسبق أو أنه ناشئ من الاطمئنان فأنا الآن مطمئن أنه لا يوجد على بدني شيءٌ فعدم الفحص ناشئ أما من عدم الغفلة أو من الاطمئنان بعدم وجود الحاجب أما إذا فرض أنه واقعاً كنت شاكاً في وجود الحاجب فمن قال لك أن السيرة قد انعقدت على عدم الفحص في حالة الالتفات والشك في وجود الحاجب؟! فمن قال لك أن السيرة لم تنعقد على الفحص ؟! إذن هذه السيرة هي مسلّمة لكن من باب أنها ناشئة من الغفلة أو من الاطمئنان بعدم وجود الحاجب فهي لا تنفع إذن لإثبات حجية الأصل المذكور.
المناقشة الثانية:- لو سلمنا بانعقاد السيرة المذكورة على ذلك ولكن لا يثبت بذلك حجيّة الأصل المثبت - والاستصحاب المذكور -  فلعل ذلك من جهة أن الشرع في مورد الشك لا يوجب غسل العضو ويكتفي بصبّ الماء وإن لم يصل فهذا تسهيلٌ من قبل الشارع وليس ناشئاً من تحكيم استصحاب عدم وجود الحاجب ، إنه لعله لهذا ولعله تساهلٌ من قبل الشارع بتضييق دائرة وجوب الغسل من البداية فالغسل لا يجب إلا بهذا المقدار - يعني إذا كان لا حاجب عليه فيجب ايصال الماء إليه وإذا كان هناك حاجب يقيني فتجب إزالته وإيصال الماء وفي حالة الشك لا يجب إيصال الماء - فالشارع من البداية هكذا يقول لا من باب الاستصحاب بل من باب تضييق دائرة الحكم من البداية فالشارع لا يريد الجزم بوصول الماء في هذه الحالة . إذن حتى لو سلّمنا انعقاد السيرة فهي لا تكشف عن أن الأصل المثبت في المقام هو حجّة وقد خرج بالدليل كلا فإنه كما يحتمل أن منشأ السيرة هو هذا يحتمل أن يكون من باب تضييق دائرة الحكم الشرعي من البداية.
المناقشة الثانية:- ذكر المحقق الحلّي(قده) على ما نقل الشيخ الانصاري(قده) في الرسائل[4] إنه لو كان لدينا ماء كانت حالته السابقة هي عدم الكريّة - أي كان قليلاً - وقد طرأ عليه بعد ذلك أمران أحدهما الكريّة والآخر وقوع نجاسةٍ فيه ولكن لا ندري أن السابق هل هو الكريّة ثم وقعت النجاسة ولازمه أن يكون الآن طاهراً أو بالعكس حتى يكون متنجساً ، إنه في مثل هذه الحالة ماذا نحكم ؟
حكم غير واحدٍ من الفقهاء بطهارة الماء ، والوجه في ذلك أحد بيانين كلاهما يبتني على فكرة الأصل المثبت:-
البيان الأول:- إنه يوجد استصحابان متعارضان في المقام الأول هو استصحاب عدم الكريّة - يعني القِلّة - إلى زمان الملاقاة فهو كان قليلاً سابقاً فنستصحب القلّة إلى زمان وقوع النجاسة فيثبت بذلك أنه حين وقوع النجاسة كان قليلاً وليس بكرٍّ ونتيجة هذا الاستصحاب هو تنجّس الماء ، والاستصحاب الثاني المعارض هو استصحاب عدم تحقّق الملاقاة إلى حين طروّ الكريّة يعني بتعبير آخر أن الملاقاة لم تتحقّق طيلة فترة القلّة ونتيجة هذا الاستصحاب هو طهارة الماء فيتعارض هذان الاستصحابان ويتساقطان فنرجع آنذاك إلى أصالة الطهارة وبذلك يثبت أن الماء المذكور طاهر غايته أن آثار الكريّة لا تترتب لأجل المعارضة ولكنه يحكم عليه بالطهارة فإن أصل الطهارة يُثبِت أنه طاهر وأما أنه كرٌ طاهرٌ بحيث تترتب آثار الكريّة فهذا لم يثبت بل الطهارة فقط هي التي تثبت.
هذا هو البيان والتوجيه الأول لهذه الفتوى.
وأشكل الشيخ الأنصاري في الرسائل:- بأن الاستصحاب الأوّل مثبتٌ ، وأقصد من الاستصحاب الأوّل هو عدم الكريّة - يعني أنه قليل  إلى زمان الملاقاة - باعتبار أن النجاسة موقوفة على كون الملاقاة قد تحقّقت في زمان القلّة وباستصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة لا يثبت أن الملاقاة قد حصلت في زمان القلّة إلا بنحو الملازمة والأصل المثبت . إذن الاستصحاب الأوّل هو أصلٌ مثبتٌ ولكن رغم ذلك حكم الفقهاء بالمعارضة بين الاستصحابين وبالتالي رجعوا إلى أصل الطهارة وحكموا بطهارة الماء وهذا معناه أن الأصل المثبت عندهم حجّة إذ لو لم يكن حجّة لكان المناسب هجر الاستصحاب الأوّل والاقتصار على الاستصحاب الثاني ، يعني الحكم بطهارة الماء لأجل هذا الاستصحاب وليس لأجل أصل الطهارة بعد تساقط الاستصحابين . إذن هذا الحكم الذي ذكروه يُفهم منه أنهم يبنون على حجيّة الأصل المثبت.


[1]  تراث الشيخ الأنصاري، تسلسل26، ص245.
[2]  اجود التقريرات، النائيني، ح2، ص422.
[3] مصباح الاصول، الخوئي، ج3، ص169.
[4]  تراث الشيخ الأنصاري، الأنصاري، التسلسسل26، ص239.