الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

34/12/14

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع:- تنبيهات / التنبيه الرابع ( الأصل المثبت ) / الاستصحـاب / الأصول العملية.
 الأمر الرابع:- يظهر من صاحب الكفاية(قده) [1] أن مسألة عدم حجيّة الأصل المثبت ترتبط بمسألة جعل الحكم المماثل ، توضيح ذلك:- إنه يوجد ثلاثة احتمالات في روايات باب الاستصحاب - أعني روايات لا تنقض اليقين بالشك - وبكلٍّ منها قائل:-
 الأول:- إن المجعول فيها هو النهي عن النقض العملي فالمقصود من قوله عليه السلام ( لا تنقض اليقين بالشك ) يعني أنه في مقام العمل رتّب في حالة الشك آثار اليقين أو المتيقن.
 الثاني:- أن يكون المقصود جعل العليمّة يعني أنت أيّها الشاك أعتبرك متيقّنا مادمت أنت على يقين سابق فمادمت على يقينٍ سابقٍ وشكٍ لاحقٍ فأنا أعتبرك الآن متيقناً ، وهذا ما بنى عليه بعضٌ منهم السيد الخوئي(قده) حيث بنى على أن المجعول في باب الاستصحاب هو العلميّة ولذلك قال هو من الأمارات ولا فرق بينه وبين بقيّة الأمارات.
 الثالث:- أن يكون المقصود جعل الحكم المماثل بمعنى أن المكلف إذا كان متيقّناً بحكم شرعّي كوجوب صلاة الجمعة ثم شك في بقائه فروايات الاستصحاب تجعل حكماً جديداً في حالة الشك مماثلاً للحكم السابق هذا إذا كان المتيقن والمشكوك حكما شرعيا ، وأما إذا كان موضوعاً لحكم شرعيّ كطهارة الماء فإنها موضوع لجواز الشرب وجواز الوضوء وما شاكل ذلك فالمجعول هو الحكم المماثل لحكم ذلك الموضوع فيُجعَل مثلاً حكمٌ بجواز الشرب يماثل ذلك الحكم الذي كان ثابتاً لطهارة الماء سابقاً.
 اذن هناك ثلاثة آراء واحتمالات في المقصود من روايات ( لا تنقض اليقين بالشك )، وقد ذكر صاحب الكفاية هذا في بداية التنبيه السابع للأصل المثبت حيث قال إن المجعول في باب الاستصحاب هو الحكم المماثل ، ومن الواضح أنه ربما اختلفت كلمات صاحب الكفاية في هذا المجال - وهو أن الاستصحاب ما هو مفاده فهل هو النهي عن النقض العملي عملاً أو أن مفاده شيء آخر - ولكن هذا ليس بمهم - ولكنه صرّح هنا وقال إن المجعول في باب الاستصحاب هو الحكم المماثل . ثم بعد أن صرّح بذلك قال:- ولكن المجعول هو الحكم المماثل لذلك الحكم الشرعي الذي يكون حكماً شرعياً مباشرياً من دون واسطة غير شرعية وإلا فلا يثبت.
 إن ذكر هذا الطلب - أي بحث الاصل المثبت - عقيب ذلك المطلب - أي مطلب أن المجعول في روايات الاستصحاب هو الحكم المماثل - يمكن أن يفهم منه أن عدم حجية الأصل المثبت هي مبنيّة على هذا الرأي - أي أن مفاد روايات الاستصحاب هو جعل الحكم المماثل - فإنه وإن لم يصرّح بذلك ولكن ذكره هذا عقيب ذلك يمكن أن يفهم منه الربط وإلا كيف يذكر ذلك الرأي إذا لم يكن له خصوصية ؟ هذا ما يفهم من كلامه(قده) أي أن عدم حجيّة الأصل المثبت ترتبط بمسلك جعل الحكم المماثل.
 ونحن في مقام التعليق نقول:- إن عدم حجيّة الأصل المثبت تأتي على بقية الآراء أيضاً ولا تختص بهذا الرأي فإن نكتة عدم حجيّة الأصل المثبت كما عرفنا هي القصور في المقتضي حيث ذكرنا أن كلمة ( الآثار ) لم تذكر في روايات ( لا تنقض ) أي لم تقل لا تنقض اليقين بالشك بلحاظ الآثار الشرعية حتى نتمسك بإطلاق كلمة الآثار الشرعية ونعمّمها للمباشريّة وغير المباشريّة فنقتصر على القدر المتيقن وهي خصوص الآثار المباشريّة ، إن النكتة هي هذه وهي كما تأتي بناءً على جعل الحكم المماثل تأتي أيضاً بناءً على جعل العلميّة فإنا نقول إن الشارع حينما جعل احتمال البقاء بمثابة العلم فحينئذ نقول هل جعله علماً من زاوية جميع الآثار أو من زاوية الآثار الشرعيّة المباشرية فقط ؟ إن القدر المتيقن هو خصوص الآثار المباشرية ، وهكذا تأتي هذه النكتة بناءً على إرادة النقض العملي فيقال إن الروايات حينما قالت لا تنقض على مستوى العمل اليقين بالشك هل المقصود أنه لا تنقضه عملاً بلحاظ جميع الآثار الشرعيّة أو خصوص المباشريّة ؟ فنقتصر على القدر المتيقن بعد فرض أن كلمة ( الآثار ) ليست موجودة . إذن نكتة القصور في المقتضي هي نكتة عامّة ولا تختصّ بمسلك جعل الحكم المماثل ، ويمكن الذب عنه بانه لعله(قده) لم يقصد الربط بين المطلبين وإنما ذكر رأيه في باب الاستصحاب فهو مجرد بيان لرأيه لا أنه يقصد ربط عدم حجيّة الأصل المثبت بخصوص رأيه فحصل شيءٌ من الخيانة في التعبير مثلاً.
  الأمر الخامس:- ذكر الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل [2] أن الشيخ جعفر كاشف الغطاء(قده) - وتبعه على ذلك صاحب الفصول(قده) - ذهب الى عدم حجيّة الأصل المثبت ولكن لا من خلال ما أشرنا إليه من التمسك بفكرة القصور في المقتضي بل تمسك بنكتة أخرى وهي أن الأصل المثبت هو معارض دائماً بالأصل من الجانب الثاني ، فمثلاً - وهذا التوضيح مني - لو أردنا أن نستصحب حياة الولد لإثبات نبات اللحية ومن ثم إثبات وجوب التصدق فحينئذ نقول يوجد استصحاب آخر الى جنب هذا الاستصحاب وهو عدم نبات اللحية فإن الولد لم تكن لحيته نابتة سابقاً فنستصحب عدم نبات اللحية الذي كان ثابتاً سابقاً وبالتالي ينتفي وجوب التصدق فتحصل المعارضة بين الاستصحابين وبالتالي لا يجري شيء منهما يعني أن ذلك الاستصحاب الأوّل لا يجري لأنه معارضٌ وتطبيق روايات لا تنقض اليقين بالشك على كليهما ليس بممكن لأن لازمه أنه يعبّدني الشارع بالنقيضين وشموله لخصوص الأول - يعني استصحاب بقاء الحياة ومن ثم ليثبت نبات اللحية والتصدق - دون الثاني ترجيح بلا مرجّح . إذن لا يشمل شيء منهما وبالتالي لا يكون الأصل المثبت حجة.
 ثم دفع الشيخ الأعظم(قده) ذلك قائلاً:- إن هذا الاشكال لو تمّ فهو يجري حتى في الأصل غير المثبت - أي الأصل العادي الصحيح - وما نتغلب به هناك يجري هنا أيضاً من دون فرق في البين ، فمثلاً من جملة الاستصحابات المتعارفة - الذي هي غير مثبتة - استصحاب طهارة الماء فإذا كان عندنا ماء وكان سابقاً طاهراً يقيناً والآن نشك هل هو باقٍ على طهارته أو لا وغسلت به ثوبي النجس فإذا استصحبنا الطهارة يثبت بذلك طهارة الماء وبالتالي يثبت بالتبع طهارة الثوب المغسول فيه وهذا ليس أصلاً مثبتاً ولماذا ؟ لأن طهارة المغسول أثر شرعي لطهارة الماء لأن الروايات قد دلّت وقالت:- ( اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه ) أي اغسله بالماء الطاهر فإنه يطهر فالشارع بهذا الحديث جعل طهارة الثوب أثراً شرعياً لطهارة الماء فإذا استصحبنا طهارة الماء والمفروض أنا غسلنا به الثوب فيثبت بذلك طهارة الثوب ولا يلزم بذلك محذور الأصل المثبت لأن هذا الأثر شرعيّ . ولكن هذا الاستصحاب معارضٌ باستصحابٍ آخر وهو استصحاب نجاسة الثوب حيث نقول إنا سابقاً نجزم بأن هذا الثوب كان نجساً وبعد ما غسلناه بهذا الماء الذي نشك الآن في طهارته سوف نشك في زوال نجاسة الثوب فيجري استصحاب نجاسة الثوب ويكون معارضاً لذلك الاستصحاب . إذن المعارضة لو تمت هناك تأتي هنا أيضا ً - أي في الأصل غير المثبت - والجواب هناك ما هو ؟ نقول إن ذلك الأصل الأول حاكم لأنه سببي والثاني أصل مسببّي والأصل السببي حاكم على الأصل المسبّبي بمعنى أن نجاسة الثوب وطهارته هما مسببّان عن نجاسة الماء وطهارته فاذا كان الماء طاهراً فالثوب الآن طاهر وإذا كان الماء نجساً فالثوب الآن نجس فنجاسة الثوب وطهارته هما مسبّبان عن طهارة الماء ونجاسته والأصل الذي يجري في السبب يكون حاكماً على الأصل الجاري في المسبّب . أليست هذه هي النكتة لعدم المعارضة ؟!
 وحينئذ نقول:- هذه الحكومة التي ذكرت في الأصل غير المثبت تأتي بنفسها في الأصل المثبت يعني أنا نطبق فكرة الحكومة بعد فرض أن الأصل المثبت حجّة في نفسه فنقول هكذا:- حينما نستصحب حياة الولد لإثبات نبات لحيته - هذا أصل مثبت لكن المفروض أنه حجة - فهذا يكون أصلاً سببياً لأن الحياة هي سببٌ لنبات اللحية فحينئذ لا يجري الأصل الثاني أي استصحاب عدم نبات الحية - لأنه أصل مسبّبي والأصل السببي حاكم على الأصل المسبّبي ، ففكرة الحكومة التي تمسكنا بها في الأصل غير المثبت نتمسك بها في الأصل المثبت بناءً على حجيته . إذن ما أفاده الشيخ كاشف الغطاء(قده) مندفع ، وعلى هذا الأساس تنحصر نكتة عدم حجيّة الأصل المثبت بفكرة القصور في المقتضي.


[1] كفاية الأصول، الخراساني، ص414، ط آل البيت.
[2] تراث الشيخ الأنصاري، تسلسل26، ص236.