الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

34/11/16

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع:- تنبيهات ( التنبيه الثالث:- الاستصحاب التعليقي ) / الاستصحـاب / الأصول العملية.
 الجواب الثاني لدفع الإشكال الثالث:- ما أفاده الشيخ الخراساني(قده) وحاصله:- إن الحليّة حالة العنبية إذا كانت معلقة على الغليان فهذا يعني أن الحليّة الثابتة للعنب مغيّاة - أي أنها تنتهي عند الغليان - ونحن نستصحب هاتين - أعني الحرمة المعلقة على الغليان والحلية المغياة بالغليان - وباستصحابهما سوف يثبت كلا هذين الحكمين للزبيب وليس بينهما أي نتافٍ بل بينهما كمال الملائمة فإين المعارضة ؟! فالحرمة تقول أنا أأتي إذا غلى والحليّة تقول أنا موجودة قبل أن يحصل غليان وبمجرد أن يحصل الغليان فأنا أذهب وهذا شيءٌ جيدٌ ولا يوجد تنافٍ بين هذين المضمونين ، هكذا ذكر الشيخ الخراساني(قده) في الكفاية.
 إذن هو دفع ذلك بأنه لا معارضة بعد الالتفات الى هذه النكتة التي ذكرها وهي أن اللازم العرفي لكون الحرمة معلقة على الغليان هو أن الحليّة تنتهي بالغليان فلا معارضة.
 وقبل أن نعلّق نسأل ونقول:- ما الفارق بين ما أفاده الشيخ الخراساني(قده) وبين ما ذكره تلميذه الشيخ العراقي(قده) فإن الشيخ العراقي في توضيح الحكم ذكر أن الحرمة أذا كانت معلقة على الغليان فالحليّة يلزم أن تكون مغيّاة بالغليان - أي أنها تنتهي بالغليان - فهذا المطلب كما ذكره الشيخ الخراساني ذكره تلميذه فما الفارق بين ما أفاده هذا العلم وما أفاده ذاك ؟
 والجواب:- إن الشيخ العراقي(قده) قال إذا صارت الحلية مغياة بالغليان فأنا استصحب هذه الحليّة بقيد أنها مغيّاة بالشكل الذكور - أي مغيّاة بالغليان - وبذلك يثبت أن الحليّة شرعاً تنتهي بالغليان حتى في حالة الزبيبية ومعه لا يبقى شكٌ في الحليّة حالة الزبيبية بعد الغليان بل نجزم بزوالها ومع زوال الشك والتبدل الى الجزم واليقين لا يجري استصحاب الحليّة الثابتة حالة الزبيبية لأنه اتضح أن تلك الحليّة حالة العنب التي هي مغيّاة مستمرة الى حالة الزبيبية وسوف يتضح أن حليّة الزبيب تنتهي بالغليان يعني سوف نجزم عند الغليان بأنه لا حليّة للزبيب فلا يعود مجالٌ لاستصحاب حليّة الزبيب فيكون ذاك الاستصحاب - أي الحليّة المغياة بالغليان في العنب - حاكماً على هذا الاستصحاب - أي استصحاب الحليّة حالة الزبيبية - لأن الاستصحاب الأول يرفع الشك ويجعلنا جازمين بعدم الحليّة فلا يعود هناك مجالٌ لاستصحاب الحليّة في حالة الزبيبية . هذا ما أراده الشيخ العراقي يعني أنه أراد أن يطبّق مسألة الحكومة فهو يعترف بوجود معارضة ولكنه يرفعها من خلال الحكومة فهو قد سلط الأضواء على مسألة الحكومة.
 وأما الشيخ الخراساني(قده) فهو يقول لا توجد معارضة بين الاستصحابين حتى نحتاج الى رفعها بالحكومة بل بينهما ملائمة فالعراقي(قده) يعترف بالمعارضة فاحتاج الى الحكومة فبيّن الحكومة وأما الخراساني(قده) فهو لم يعترف بها بل قال إن بينهما كمال الملائمة ولا توجد معارضة ولذلك عددنا هذا الجواب كجوابٍ ثانٍ غير ذاك الجواب.
 وبالجملة:- قال الشيخ الخراساني إن بين تلك الحرمة وبين هذه الحليّة يوجد كمال الملائمة فلا معارضة حتى نحتاج الى حكومةٍ أو غيرها.
 والاشكال على ما أفاده واضح إذ نقول له:- إن هذه الملائمة هي بين الحرمة المعلّقة والحلّية المغيّاة ولكن أي حليّة ؟ أنها الحليّة حالة العنب فبين هذه الحرمة وتلك الحليّة لا توجد معارضة بل يوجد تمام الملائمة بيد أن كلامنا ليس في هذه الحليّة وإنما هو في حليّة جديدة أعني الحلية حالة الزبيبية وهذه الحليّة حالة الزبيبية لا نعلم أنها مغيّاة بالغليان فلعلها مطلقة والتي هي مغياة جزماً هي الحلية حالة العنب وهذا مطلب واضح.
 وعلى هذا الأساس نحن نستصحب الحلّية حالة الزبيبيّة ولا نعلم أنها مغيّاة فيجري استصحابها فتكون معارضة للحرمة المعقلّة حالة العنبيّة التي استصحبناها الى فترة الزبيبيّة فتحصل معارضة بين استصحاب تلك الحرمة المعلقة واستصحاب هذه الحليّة - أي حالة الزبيبية لا الحلية حالة العنبية - فتحصل معارضة بين الاستصحابين فعاد الاشكال الى محلّه.
 وذكر السيد الخوئي(قده) في مصباح الأصول [1] نصرة للشيخ الخراساني(قده) ما حاصله:- إنا نشك أن الحليّة الثابتة حالة العنبيّة هل أنها زالت وحلّت محلّها حليّة جديدة للزبيب بعنوان أنه زبيب أو أن تلك الحلية السابقة هي بنفسها باقية ؟ فنستصحب عدم طروّ حليّة جديدة ثانية وبقاء الحليّة الأولى على ما هي عليه.
 ثم استعان(قده) لإثبات مطلوبه بمثال فقال:- وهذا نظير ما إذا فرض أن المكلف كان يجزم بأنه محدث بالأصغر جزماً كما لو خرج من بيت الخلاء ثم رأى بقعةً على ثوبه وشك هل أنها منيّ أو هي بياضُ بيضٍ فماذا يقول الفقهاء في هذه الحالة ؟ هنا نقول:- هو جزماً محدث بالأصغر ونشك هل طرأ عليه حدثٌ آخر - أي الحث الأكبر - أو لا فنستصحب عدم طروّ الحدث الأكبر وبقاء الحدث الأصغر على حاله من دون تبدّل الى أكبر ، ولذلك اكتفى(قده) بالوضوء بلا حاجة الى الغسل ، والمقام من هذا القبيل فنستصحب تلك الحليّة السابقة الثابتة حالة العنب وننفي طروّ حليّةٍ جديدةٍ بالأصل ، إذن الحليّة السابقة هي الباقية ولا مشكلة فيها ، وعلى هذا الأساس قال(قده) إن ما أفاده الشيخ الخراساني متين جداً.
 وفيه:-
 أما ما أفاده في الدفاع عن الشيخ الخراساني(قده) فنقول له:- إن هذين الاستصحابين لا يثبتان أن الحليّة الثابتة الآن للزبيب هي مغيّاة والمهم هو هذا فإني أشير الى الزبيب وأقول ( هذا والله حلالٌ الآن ) أما أن هذه الحليّة هي مغيّاة فهذا كيف نثبته ؟ أنت تقول نثبتها باستصحاب تلك الحليّة الأولى وعدم طروّ حليّة ثانية ، ومن الواضح أن هذا لازمٌ عقليّ - يعني أن اللازم العقلي لبقاء تلك الحليّة وعدم طروّ حليّة ثانية هو أن هذه الحليّة التي نجزم بها الآن هي مغيّاة - وليس لازماً شرعياً إذ لا آية ولا رواية تقول ( إذا كانت تلك الحليّة باقية ولم تتبدل إذن هذه الحليّة التي نجزم بها الآن هي مغيّاة ) كلّا ، وأما هذا لازم عقلي فالعقل يحكم بذلك وهذا ينبغي أن يكون مطلباً واضحاً أيضاً.
 وأما ما ذكره من الشاهد فنقول:- صحيح أنا نحكم هناك بكفاية الوضوء ولكن هناك توجد نكتة خاصة وهي أن الوضوء حكمٌ لمن كان محدثاً بالأصغر مع إضافة أنه ليس محدثاً بالأكبر ، يعني أن موضوع وجوب الوضوء مركب من جزأين هما ( محدث بالأصغر ) و ( ليس محدثاً بالأكبر ) فحينئذ نقول:- إذا كان الموضوع مركّباً فالجزء الأول ثابت بالوجدان - لأن المكلف محدث بالأصغر جزماً - وأما أنه ليس محدثاً بالأكبر فبالاستصحاب ، وأثره الشرعي هو وجوب الوضوء فإن الوضوء واجبٌ على كل من كان محدثاً بالأصغر ولم يكن محدثاً بالأكبر.
 أن قلت:- إن هذا كلامٌ جميلٌ ولكن من أين لك أن موضوع وجوب الوضوء هو مركب من جزأين بهذا الشكل ؟
 قلت:- الآية الكريمة فإنها قالت:- ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم الى الكعبين .... وإن كنتم جنباً فاطّهّروا ) [2] . إذن المستفاد من هذه الآية الكريمة هو أن من قام الى الصلاة - يعني من النوم مثلاً فهو محدث بالأصغر - يجب عليه الوضوء مادام لم يكن جنباً . إذن وجوب الوضوء ثابت في حقّ من كان محدثاً بالأصغر ولم يكن محدثاً بالأكبر ، وعليه فالموضوع هنا تركيبي ولا إشكال من هذه الناحية.
 إذن جواب الشيخ الخراساني(قده) قابل للمناقشة كما اتضح.
 
 
 
 
 
 


[1] مصباح الأصول، الخوئي، ج3، ص142.
[2] المائدة، الاية6.