الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

34/11/14

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع:- تنبيهات ( التنبيه الثالث:- الاستصحاب التعليقي ) / الاستصحـاب / الأصول العملية.
 وأجيب عن هذا الاعتراض بعدة أجوبة:-
 الجواب الأول:- الحكومة ، حيث أجاب الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل [1] عن هذا الاعتراض وقال إن الاستصحاب التعليقي حاكم على الأصل الثاني فيقدّم التعليقي للحكومة . ولكنه لم يوضّح الحكومة.
 بيد أن الشيخ النائيني في فوائد الأصول [2] حاول ان يوضح الحكومة:- وحاصل ما ذكره هو أن المورد من الشك السببي والمسبّبي ، يعني أن الاستصحاب التعليقي هو استصحابٌ سببي والاستصحاب الثاني التنجيزي مسبّبي والسببي حاكم على المسبّبي . أما كيف أن الثاني مسبّبي والأول سببي ؟ أوضح ذلك وقال:- إن شكّنا في حليّة الزبيب وحرمته ناشئ من الشك في أن تلك الحرمة - أي حالة العنبية - هل هي وسيعة أو ضيقة ؟ فإن كانت وسيعة - يعني تشمل حالة الزبيبية وثابتة حالة الزبيبية - فيكون الزبيب إذا غلى حراماً ، وإذا كانت ضيّقة - يعني مختصة بحالة العنبية - يكون الزبيب آنذاك حلالاً لأن الحرمة خاصة بحالة العنبية . إذن منشأ شكّنا وسببه في أن الزبيب حلالٌ أو حرام هو الشك في أن تلك الحرمة - أي حالة العنبية - هل هي وسيعة وتشمل حالة الزبيبية أو هي ضيّقة تختص بحالة العنبية فالمورد إذن من الشك السببي والمسبّبي . هكذا ذكر في توضيح الحكومة التي ذكرها الشيخ الأعظم(قده).
 والاشكال على ما أفاده الشيخ النائيني(قده) واضح إذ يقال:- نحن تعلمنا منكم أن شرط حكومة أصلٍ على أصلٍ آخر مجموع أمرين الأول هو السببية وهذه هي التي أوضحتها أنت وهي ثابتة ، ولكن هناك شرطٌ ثانٍ وهو أن يكون الترتّب والسببيّة شرعيين لا عقليين إذ لو كانا عقليين كان المورد من الأصل المثبت - وهذا من المطالب الواضحة والبديهية -.
 وتعال الى مقامنا لنرى هل السببيّة والترتب هنا شرعي أو عقلي ؟ إنه عقليّ وليس شرعياً إذ لا توجد آية أو رواية تقول ( إذا كانت الحرمة معلّقة على الغليان في حالة العنبية إذا كانت مستمرة الى حالة الزبيبية فحليّة الزبيب ترتفع إذا غلى وإذا لم تكن مستمرة فحليّة الزبيب ثابتة ) وإنما العقل يقول ( إذا كانت تلك الحرمة المعلّقة على الغليان مستمرة الى حالة الزبيبية إذن الزبيب لا يمكن أن يكون حلالاً حينما يغلي بل تلك الحرمة مستمرة ) فهذه السببية وهذا الترتب ترتّب عقلي وليس شرعياً وهذا من المطالب الواضحة.
 والشيخ النائيني(قده) كان ملتفتاً الى ذلك ولكنه حاول الذهاب يمنة ويسرة لدفع الاشكال المذكور - أي حاول أن يثبت أن السببيّة سببية شرعية وليست عقلية - فقال ما حاصله:- إن ذلك الجعل حالة العنبية إذا كان وسيعاً فنفس السعة تعني أنه لا توجد حليّة حالة الزبيبية إذا غلى فلو فرض أن الشارع قال الآن ( أيها الناس إن تلك الحرمة المعلّقة على الغليان الثابتة حالة العنبية هي مستمرة الى حالة الزبيبية ) فهل يبقى عندك شكٌّ في حكم الزبيب ؟ كلا إن الشك في حكم الزبيب يزول حينئذ لأن الشارع هو الذي يقول إن تلك الحرمة باقية فلا يبقى شك في حرمة الزبيب بل هو حرامٌ حتماً وإذا زال الشك فلا يجري استصحاب حليّة الزبيب لفرض انتفاء الشك.
 ونحن في جوابه نقول:- إن هذا وجيه إذا فرض أن الحلّية التي نريد أن نستصحبها هي الحليّة حالة العنبيّة قبل أن يغلي فإنه في مثل ذلك يتم ما أفاده(قده) - يعني أن الشارع إذا قال ( العنب إن غلى حرم وتستمر الحرمة الى حالة الزبيبية ) - فحينئذ حال الزبيب يكون واضحاً وهو أنه حرام ، ولكن المفروض نحن لا نريد أن نستصحب الحليّة الثابتة حالة العنبيّة قبل أن يغلي حتى تقول إن الشك بلحاظها قد ارتفع وإنما نريد أن نستصحب الحليّة الثابتة للزبيب قبل أن يغلي لا للعنب وهذه الحليّة لا تنتفي إلا بالملازمة العقليّة فإن لازم بقاء تلك الحرمة الى حالة الزبيبية لازمه أن الحليّة حالة الزبيبية ترتفع ، إنها ملازمة عقلية ، فالإشكال يعود حينئذٍ على حاله ولم يصنع الشيخ النائيني(قده) شيئاً .
 ولهذا حاول الشيخ العراقي في نهاية الافكار [3] أن يذكر توجيهاً جديداً للحكومة غير ما أفاده الشيخ النائيني(قده):- وحاصل ما ذكره هو أن الحرمة إذا كانت معلّقة على الغليان حالة العنبية فالمدلول العرفي لهذا هو أن الحليّة للعنب تنتهي بالغليان فالغليان يصير غايةً ونهايةً للحلية ، فالحرمة إذا كانت معلّقة على الغليان فالحلية حتماً سوف تكون مغيّاة - يعني تنتهي بالغليان - وعلى هذا الأساس نقول نحن نستصحب هذه الحليّة المغيّاة بالغليان والتي هي ثابتةٌ حالة العنبيّة فيثبت أن الحليّة المغياة بالغليان هي ثابتة في حالة الزبيبية أيضاً ، ففي حالة الزبيبية إذن الحليّة مغياة بالغليان - يعني تنتهي بالغليان - وإذا كانت تنتهي البغليان فالشك حينئذٍ سوف يرتفع ولا معنى آنذاك لاستصحاب الحليّة حتى يعارض استصحاب الحرمة فإن استصحاب الحليّة المغياة بالغليان يثبت أن هذه الحليّة في حالة الزبيبية هي تنتهي بالغليان وإذا كانت تنتهي بالغليان فالشك حينئذٍ ليس بموجودٍ وإذا لم الشك موجوداً فحينئذ لا يجري استصحاب الحليّة.
 والفرق بين ما أفاده الشيخ النائيني(قده) وما أفاده الشيخ العراقي(قده) هو إن الشيخ النائيني قال إنه إذا كان الشارع يقول إن جعل الحرمة المعلّق على الغليان يشمل حالة الزبيبية ومستمر الى حالة الزبيبية - إنه(قده) نظر الى هذا المقدار - فالشك في الحليّة سوف يرتفع ، ونحن أجبنا بأن الشك سوف يرتفع بالملازمة العقلية . أما الشيخ العراقي فهو لم يضع اصبعه على الحرمة بل ذهب الى الحليّة فقال إذا كانت الحرمة معلّقة على الغليان فالعرف يفهم أن الحليّة مغيّاة وتنتهي بالغليان ، فهو(قده) قد وضع اصبعه على هذه الحليّة وأخذ يستصحبها وقال إن هذه الحليّة مغيّاة بالغليان وأنا أسحبها الى حالة الزبيبية فيثبت بذلك ارتفاع الشك فالشك ليس بموجودٍ وبالتالي لا يجري استصحاب الحليّة لأنه فرع الشك والشك قد ارتفع إذ المفروض أن الحليّة مغيّاة بالغليان . إذن الشيخ العراقي(قده) استصحب الحليّة المغياة بالغليان وستفاد من هذا وأما الشيخ النائيني(قده) لم يستفد من هذا بل استفاد من نفس جعل الحرمة المعلقة على الغليان وقال إذا كانت وسيعة فسوف ينتفي الشك.
 وفي مقام الجواب على الشيخ العراقي(قده) نقول:- إن الاشكال بَعدُ موجودٌ ولا يرتفع ، فنحن نسلم أن تلك الحليّة في حالة العنبية يلزم أن تكون مغيّاة والعرف يفهم ذلك وهذا صحيح ، ولكن حينما نستصحب تلك الحليّة المغيّاة والمنتهية بالغليان فغاية ما يثبت هو أن تلك الحليّة حالة العنبية قد انتهت بالغليان والمفروض أننا نريد أن نستصحب الحليّة في حالة الزبيبية ولا دافع لهذا إلا بضمّ مقدمة عقليّة وهي أنه لا يمكن اجتماع هاتين الحلّيتين [4] عقلاً فاجتماع حليتين واحدة مغياة بالغليان وأخرى فعليّة وثابتة بالفعل ليس ممكناً عقلاً . اذن نحتاج الى هذه المقدمة العقلية وبذلك يصير هذا الاستصحاب مثبتاً لأنه احتاج الى هذه المقدمة العقلية.
 بل يمكن أن نصعد اللهجة ونقول:- حتى لو غضضنا النظر عن هذه المقدّمة العقليّة فمع ذلك يبقى الأصل مثبتاً وذلك من جهة أنه لو استصحبنا تلك الحليّة المغيّاة بالغليان والثابتة حال العنبيّة الى حال الزبيبية كيف نثبت الآن أنه لا حليّة للزبيب ؟ إنه لابد وأن نضم مقدمة أخرى وهي أنا نعلم من الخارج أن لا حليّة ثانية غير هذه الحليّة الثابتة حالة العنبيّة فالشارع لم يجعل حلّيتين حتى لو أمكن جعلهما لكنه بالتالي نعلم بأنه لا حليّة ثانية ، فاستعنّا إذن بمقدمةٍ خارجيّة غير شرعيّة فعاد الأصل مثبتاً.
 والفرق بين هذا الجواب وبين السابق هو أنه في الجواب السابق كنا نقول إنا نحتاج الى مقدمة عقليّة وهي أنه لا يمكن اجتماع حليتين ، أما في هذا الجواب نريد أن نتنازل ونقول حتى لو فرضنا إمكان اجتماع حلّيتين عقلاً ولكن نحتاج الى مقدمةٍ أخرى وهي أنا نعلم من الخارج أن الشارع لم يجعل حلّيتين فمادامت هذه الحليّة موجودة - أي حالة العنبية والتي هي مغيّاة بالغليان - ومسترة الى حال الزبيبية نعلم أن لا حليّة أخرى فيرتفع الشك فعاد الأصل مثبتاً.
 إذن الى الآن اتضح أن الحكومة التي أشار إليها الشيخ الأعظم(قده) لم تثبت ببيان الشيخ النائيني(قده) كما لم تثبت ببيان الشيخ العراقي(قده) ، وسوف نذكر إنشاء الله تعالى بياناً أخر غير بيان الشيخ النائيني والعراقي.


[1] تراث الشيخ الانصاري، تسلسل26، ص223.
[2] فوائد الاصول، ج4، ص475.
[3] نهاية الافكار، العرقي، ج3، ص170.
[4] ومقصودي من الحليتين أي حليتين ؟ هما الحليّة المغياة بالغليان والثابتة حالة العنبيّة والمسترة بالاستصحاب الى حالة الزبيبيّة مع الحليّة المنجّزة في حالة الزبيبيّة التي نريد أن نستصحبها.