الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

34/08/12

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع:- تنبيهات ( التنبيه الأول:- الاستصحاب الاستقبالي والقهقرى ) / الاستصحـاب / الأصول العملية.
 وقبل أن نختم حديثنا عن هذا الموضوع لا بأس بالإشارة إلى الأمور الثلاثة التالية:-
 الأمر الأول:- إن استصحاب القهقرى في باب اللغة إنما يكون فيما إذا كان الشك في أصل وجود معنى آخر يغاير المعنى الذي نفهمه في وقتنا المعاصر كما إذا فرض أننا فهمنا من صيغة الأمر في زماننا الوجوب ولا نعلم أن هذا المعنى كان ثابتاً في زمن صدور النص أو لا فهل كان يوجد معنىً آخر أو أنه لا يوجد إلا هذا المعنى فهنا نتمسك باستصحاب القهقرى والسيرة قد جرت على ذلك أما إذا جزمنا بأن معنى صيغة الأمر كان شيئاً آخر - أعني الندب - ونقل بعد ذلك إلى الوجوب بالوضع التعيّني أو بالوضع التعييني مثلاً ولكن لا ندري أن هذا النقل متى حصل فهل أنه حصل قبل زمان صدور النص ولازمه حمل الصيغة على الوجوب إذ المفروض أن النقل إلى الوجوب قد حصل قبل صدور النص فالنصّ حينما صدر فقد صدر في أجواءٍ حصل فيها النقل إلى الوجوب ، أو نشك أن النقل قد حصل بعد زمان صدور النص ولازمه عدم حمل الصيغة على الوجوب بل على الاستحباب ، فإذا شككنا في تقدّم وتأخّر الوضع فلا يمكن باستصحاب القهقرى إثبات أن هذا المعنى الذي نفهمه اليوم هو كان ثابتاً في عصر صدور النصّ - يعني أن الوضع والنقل إلى الوجوب قد حصل قبل صدور النص لا أنه حصل بعد ذلك - كلّا لا يمكن إثبات ذلك والوجه فيه هو أن المدرك المهم لاستصحاب القهقرى هو السيرة وهي لا نجزم بانعقادها على الحكم بأن هذا المعنى - أي الوجوب - كان ثابتاً في عصر صدور النص وأن النقل إلى الوجوب قد تحقق قبل صدور النص لا بعده كلّا لا يمكن إثبات ذلك إذ لا نجزم بانعقاد السيرة على ذلك فإنها دليلٌ لبيٌّ والقدر المتيقّن منها هو ما إذا فرض أنه لم نجزم بحصول نقلٍ ووضعٍ جديد أما إذا جُزِمَ فلا نعلم بانعقادها على استصحاب القهقرى ، وهذا مطلب ينبغي أن يكون واضحاً.
 الأمر الثاني:- إن استصحاب القهقرى إنما يكون حجّة فيما إذا لم تلوح القرائن بتعدد المعنى وأن المعنى الذي نفهمه هذا اليوم يغاير المعنى السابق في عصر صدور النص أما إذا لاح من القرائن ذلك ولو بنحو الاحتمال الوجيه كفى ذلك في المنع من استصحاب القهقرى ، والوجه في ذلك هو نفس ما أشير إليه في الأمر الأول بمعنى أن مدرك هذا الأصل المهم هو السيرة وهي دليلٌ لبيٌّ ولا نجزم بانعقادها في مثل هذه الحالة - يعني حالة ما إذا لاح من القرائن وجود تغيّر في المعنى ووجود معنى آخر في الزمن السابق - على ذلك - يعني على التمسك استصحاب القهقرى وأن المعنى واحد ولم يتعدد - كلا ففي مورد وجود قرائن وجيهة محتملة لا نجزم بانعقاد السيرة على التمسك بالأصل المذكور.
 ومن هنا لا يمكن أن نتمسك بظهور كلمة الشك أو الظن في زماننا فإنه في زماننا هذا نفهم من كلمة الشك حالة تساوي الاحتمالين ونفهم من كلمة الظن حالة رجحان أحد الاحتمالين في مقابل الاحتمال الآخر ولكن إذا رجعنا إلى الكتب اللغوية فلعله يظهر منها أن هناك استعمالاً لكلمة الشك في غير هذ المعنى أعني أنه يراد منها كل ما يخالف العلم واليقين فكل غير اليقين هو شكٌ بما في ذلك الظن المتعارف في يومنا هذا ، وهكذا كلمة الظن قد يفهم من خلال المراجعة أنها تستعمل ولو بمعنى الاحتمال الضعيف فإنه ظنٌ . إذن مادام يلوح من القرائن ذلك وإن لم يحصل جزمٌ فيكفينا أنه يلوح من القرائن ذلك بحيث يكون احتمالاً وجيهاً فإنه في مثل هذه الحالة لا نجزم بانعقاد السيرة على التمسك باستصحاب القهقرى وبقيّة الأدلة التي ذكرناها من مسألة الأمر بالتمسك بالكتاب والسنّة أو مسألة ضرورة الاجتهاد والتقليد هما بحكم السيرة أي ليس فيهما إطلاق وإنما غاية ما يثبتانه هو ضرورة حجيّة استصحاب القهقرى وأنه من دونه لا يمكن التمسك بالكتاب والسنّة ولا يمكن الاجتهاد والتقليد أما أن استصحاب القهقرى هو حجّة في جميع الموارد أو في بعضها فليس هناك دلالة في الدليلين المذكورين على ذلك - يعني على السعة - بل القدر المتيقّن منهما هو ثبوت الحجيّة في الجملة وليس بالجملة.
 الأمر الثالث:- ذكرنا فيما سبق أن استصحاب القهقرى ليس حجّة وذلك لعدم الدليل على حجيّته إذ الدليل ليس إلا الإطلاق - أي إطلاق روايات ( لا تنقض اليقين بالشك ) - وذكرنا أن هذا الاطلاق إما أن يقال هو منصرف إلى الاستصحاب المتعارف كما قد يقال أو يقال هو ليس بمنعقدٍ من الأساس بقطع النظر عن مسألة الانصراف وذلك للمبنى الذي نختاره في باب الإطلاق ، ثم قلنا بعد ذلك ولو تنزلنا وسلمنا بثبوت الإطلاق فرغم ذلك لا يمكن الحكم بحجيته والوجه في ذلك هو المعارضة يعني دائماً يوجد إلى جنب استصحاب القهقرى الاستصحاب المتعارف ويكون معاكساً له فالمرأة إذا شكت أن هذا الدم الذي نزل الآن - أي بعد الغروب - هل أنه نزل بعد الغروب أو قبله فإن كان بعد الغروب فلا إشكال في صومها أما إذا كان قبل الغروب فصومها باطل إنه بناءً على حجية استصحاب القهقرى يلزم أن نحكم بأن هذا الدم قد حصل قبل الغروب فيكون صومها باطلاً ولكن هذا الاستصحاب معارض بالاستصحاب المتعارف لأنه جزماً حين الظهر لم يكن هناك دم جزماً فتشك هل نزل بعد ذلك إلى ما بعد الغروب فتستصحب عدم نزوله فيصير هذا الاستصحاب معارض لذلك الاستصحاب ولا يمكن لدليل ( لا تنقض اليقين بالشك ) أن يشمل كلا هذين الاستصحابين ولا واحدٍ منها لأنه بلا مرجح فيتعين بذلك التساقط.
 ولكن قد يشكل ويقال:- إن المناسب هو التمسك بفكرة الانصراف والمنع من أصل انعقاد الإطلاق - يعني المناسب التمسك بالوجه الأول وليس التمسك بالوجه الثاني أعني المعارضة - لأنه إذا سلّمنا الإطلاق وصرنا إلى المعارضة فلازمه أن الاستصحاب المتعارف سوف يسقط عن الاعتبار أيضاً - يعني في جميع الموارد - إذ هذا يجري من هذا الجانب واستصحاب القهقرى يجري من ذلك الجانب فتحصل المعارضة بشكلٍ دائميٍّ وبذلك يلزم سقوط الاستصحاب المتعارف والمقصود أنه يلزم سقوطه عن الحجية في الموارد المتعارفة التي نتمسك بها إذ المفروض أن إطلاق الدليل كما يشمل الاستصحاب المتعارف يشمل استصحاب القهقرى من الجانب الثاني فتكون هناك معارضة دائماً فيلزم سقوط الاستصحاب المتعارف عن الحجيّة أيضاً . إذن المناسب أن نمنع من انعقاد الإطلاق فالإطلاق منصرف عن استصحاب القهقرى لا أن نقول هو موجود ونصير إلى الجواب الثاني - أعني المعارضة - فإن لازم المعارضة بعد التسليم بوجود الإطلاق هو سقوط الاستصحاب المتعارف عن الحجيّة.
 وجوابه:-
 أوّلاً:- نقول بأن الامام عليه السلام في صحيحة زرارة الثانية - التي هي واردة في استصحاب الطهارة - طبّق استصحاب طهارة الثوب من دون أن يعارضه باستصحاب القهقرى ، فمن هنا نفهم أن الشارع يعبّدنا بالاستصحاب المتعارف ولا يرى أن استصحاب القهقرى صالحاً للمعارضة . نعم القاعدة كما ذكر في الإشكال - أي أن المناسب سقوط الاثنين عن الاعتبار - ولكن بعد ورود التعبّد الشرعي وفعل الإمام عليه السلام هكذا في صحيحة زرارة - يعني أنه استصحب الطهارة ولم يعارض ذلك باستصحاب القهقرى - فهو بنفسه تعبّد ودليلٌ على أن الاستصحاب المتعارف يجري بلا معارضة باستصحاب القهقرى . اذن نحن نسلّم بالمعارضة بمقتضى القاعدة ولكن نقول حيث أن الإمام عليه السلام رفض المعارضة وأجرى الاستصحاب المتعارف ففكرة المعارضة تصير باطلة من النصّ.
 وثانياً:- إن هذه الشبهة هي لا تقوم على ركن ركين من الأساس فإنه حينما نستصحب طهارة الثوب فيمكن أن نقول إن الثوب كان طاهراً صباحاً والآن - أي حين الشك أي حينما أريد الدخول في الصلاة - أشك هل الطهارة موجودة أو لا ؟ فأستصحب بقاء الطهارة إذ أن هناك يقينٌ سابق وشك لاحق فأركان الاستصحاب المتعارف موجودة ، ولكن أين أركان استصحاب القهقرى ؟! إن استصحاب القهقرى يحتاج الى يقين فعليّ وشك يكون بلحاظ الزمان الماضي والمفروض أنه لا يوجد عندنا يقين فعليّ وإنما غاية ما عندنا هو الشك في الطهارة الآن فالآن يوجد شك وبعد نصف ساعة يوجد شك ... وهكذا فالشك موجود دائماً فأين اليقين حتى نسحبه إلى الزمن الماضي ؟! فلا يوجد يقين بالنجاسة الآن كما لا يوجد شك في النجاسة سابقاً حتى نستصحب هذا اليقين إلى الزمن الماضي .
 إذن نتمكن أن نقول:- إنه في موارد جريان استصحاب القهقرى يوجد المعارض حتماً وهو الاستصحاب المتعارف - ولكن ليس كلما كان هناك استصحاب متعارف كان الى جنبه استصحاب قهقرى ، فالشبهة إذن والاشكال المذكور ضعيف من الأساس.