الموضوع:- تنبيهات ( التنبيه الأول:- الاستصحاب الاستقبالي والقهقرى ) / الاستصحـاب / الأصول العملية.
هذا وينبغي الالتفات إلى استثناء حالةٍ من مورد الاستصحاب الاستقبالي:- وهي ما إذا كان الإنسان قادراً الآن بالفعل على العمل كأداء الصلاة أو الصوم أو ما شاكل ذلك وشك أن هذه القدرة باقية إلى المستقبل - أي إلى نهاية العمل - أو تزول في الأثناء فإنه هنا يمكن أن يقال بلزوم البناء على بقاء القدرة وعدم زوالها وذلك من جهة انعقاد السيرة العقلائية والمتشرعية على ذلك ولذلك ترى الإنسان يبني بيتاً ويسافر ويتزوج وغير ذلك والحال أنه يحتمل أنه يموت قبل أن يتم بناء البيت فلا يستفيد منه شيئا ً أو يموت قبل ليلية زفافه فلا يستفيد من زواجه شيئاً .... وهكذا إن السيرة لا تعتني لمثل هذه الاحتمالات وإلا لأختل النظام الاجتماعي وهذا مطلب لا ينبغي التشكيك فيه . إذن لآجل هذه السيرة العقلائية يلزم البناء على بقاء القدرة في مورد الشك في بقائها فيما إذا فرض الآن أنه كان قادراً وواجداً للشرائط ، وإذا أحببت أن تسمّي هذا بالاستصحاب الاستقبالي فلا مانع من التسمية ولكن المستند في الحجيّة هو السيرة وليس هو إطلاق الروايات إذ قد فرضنا أنّا قد شكّكنا في إطلاقها فحينئذ هذه الحصّة نبني على بقاء القدرة فيها لأجل السيرة ، ولا بأس أن تسمي ذلك أنت وتقول إن الاستصحاب الاستقبالي حجّة في هذه الحالة فهو لا يضر لأجل السيرة . هذه إذن حالة ثابتة بالسيرة العقلائية .
منه يتضح أنه لا ينبغي لشخصٍ أن يدعي ثبوت الإطلاق في الروايات للاستصحاب الاستقبالي - من باب أن الروايات تشمل الاستصحاب الاستقبالي فهو حجة حتماً وإلا إذا لم يكم إطلاق الروايات شاملاً له فيلزم أن لا نصليّ ولا نصوم ولا نحج لاحتمال أن القدرة تختل قبل تمام العمل فلابد وأن يكون الاستصحاب الاستقبالي حجّة حتى نقول بوجوب مباشرة العمل وهذا معناه أن إطلاق الروايات يشمل الاستصحاب الاستقبالي حتماً - فإنه قد اتضح الرد عليه حيث نقول له:- نحن معك في أنه في مورد الشك في بقاء القدرة لابد من البناء على بقائها ولكن هذا لا يعزّز ويؤيد أن الإطلاق في الروايات موجود ويثبت حجيّة الاستصحاب الاستقبالي كلا بل هذا من ناحية السيرة العقلائية . إذن البناء على بقاء القدرة ناشئ من هذا ولا يتوقف على ثبوت الإطلاق في الروايات.
وينبغي الالتفات إلى قضية أخرى:- وهي أنه في بعض الموارد يوجد بديل عن الاستصحاب الاستقبالي كما هو الحال في مثال حكّ المحرم لحيته فإنه إذا شك بانه هل سوف يسقط شيء من الشعر إذا حكّها أو لا ؟ ذكرنا أنه بالاستصحاب الاستقبالي نثبت أنه لا يحصل سقوط للشعر وإذا فرض أنه لم يحصل فالحك يصير جائزاً حينئذ لأنه لا يستلزم سقوط شيء من الشعر ، أما إذا أنكرنا حجية الاستصحاب الاستقبالي فهل يوجد بديل ؟ نعم يوجد بديل وهو التمسك بالبراءة - وهذه نكتة علمية أردت بيانها وكان هدفي من بيانها هو أن لا تتصور أن بانسداد باب الاستصحاب الاستقبالي سوف يتعطّل الحكم الذي نريد الوصول إليه بل يوجد مفر وبديل أحياناً والبديل هو التمسك بأصل البراءة - فنقول إن حكّ اللحية الذي سوف يصدر مني إن كان مستلزما لسقوط شيء من الشعر فهو محرّم وإن لم يكن مستلزماً له فهو ليس بمحرم وهذه شبهة موضوعية وأشك هل أن هذا الحك هو محرّم أو ليس محرم - أي هل يستلزم سقوط الشعر أو لا - فهذا شك في أصل ثبوت الحرمة له فأتمسك بأصل البراءة لإثبات حليّته كما لو فرض أني شككت أن هذا السائل إن كان خمراً فهو حرام وإن كان ماءً فهو حلال فإنه يجوز اركابه تمسكاً بأصل البراءة بقطع النظر عن الاستصحاب - أي استصحاب عدم خمريته أو غير ذلك - فيقال إن هذا الشرب نشك بأنه حرام أو حلال فيشمله قانون ( كلّ شيء لك حلال ) أو ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) أو غير ذلك من أدلة البراءة فهنا أيضاً نتمسك بأصل البراءة لإثبات جواز الحك ما دمنا نشك بأنه هل يسقط شيء أو لا ، إن هذا بديل عن الاستصحاب . إذن سدّ باب الاستصحاب الاستقبالي لا يعيني أنّا نقع دائماً في مشكلةٍ بل يمكن التغلب على المشكلة أحياناً إما بالسيرة العقلائية كما في موارد الشك في بقاء القدرة أو بأصل البراءة كما في هذا المورد أو لعله بشيءٍ ثالث في مورد ثالثٍ ، والمهم هو أني أردت أن ألفت النظر إلى هذه القضيّة.
النحو الثالث:- استصحاب القهقرى.
وهذا له أمثلة متعددة أيضاً:-
المثال الأول:- ما إذا فرض أن المرأة بعد أن أفطرت في صومها في شهر رمضان مثلاً رأت دماً بعد الافطار ولا تدري هل أن هذا الدم نزل بعد الافطار فصومها صحيح أو أنه نزل قبل ذلك فيكون صومها باطلاً ؟ إنه بناءً على حجية استصحاب القهقرى سوف يثبت أن هذا الدم قد جاء مما سبق لأنها الآن تراه جزماً وتشك هل كان ثابتاً قبل الغروب أو لا فإذا استصحبنا الحالة الثابتة المتيقنة الآن إلى الزمن الماضي لأنه في استصحاب القهقرى نفترض أن اليقين هو الآن والشك بلحاظ ما مضى فإذا قلنا هو حجّة فنستصحب الحالة الثابتة الآن إلى الزمان الماضي يعني أن هذا الدم الذي هو موجود الآن نستصحبه إلى الزمان الماضي يعني هي في الزمن الماضي - أي قبل الغروب - قد نزل منها الدم فيثبت بذلك بطلان الصوم.
ولا تتوهم وتقول:- إن هذا خلاف المنّة والأصل قد شرِّع من باب المنّة والتخفيف على العبد فكيف ذان تستصحب هكذا فنتيجة الاستصحاب لا تجري ؟!
وجوابه واضح حيث يقال:- إن أصل البراءة هو الذي قد شرِّع للتخفيف والمنّة حيث ورد فيه ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) أما حديث ( لا تنقض اليقين بالشك ) فلم يرد فيه ذلك فليس فيه منَّه وإنما يراد به سحب الحالة المتيقنة إلى فترة الشك.
المثال الثاني:- ما لو فرض أن شخصاً استيقظ في قضاء شهر رمضان بعد الفجر فرأى نفسه محتلماً ولا يدري هل أن هذا الاحتلام قد حصل الآن - أي بعد الفجر - فيكون صومه صحيحاً أو أنه حصل قبل الفجر فإذا فرض أنه كان قبل الفجر ففي شهر رمضان لا يؤثر شيئاً أما إذا فرض أنه في قضاء شهر رمضان وثبت أنه محتلم قبل الفجر فسوف يكون هذا من مصاديق الإصباح جنباً - والإصباح جنباً معناه أنه يدخل عليه الصبح وهو جنب - وهذا يبطل القضاء لشهر رمضان أما في شهر رمضان فهذا المكلف يشك هل أن هذا الاحتلام حصل قبل الفجر حتى يكون من مصاديق الإصباح جنباً والإصباح جنباً في قضاء شهر رمضان مبطل له
[1]
أو لا - ولذلك ترى الفقهاء يذكرون الإصباح جنباً في قضاء شهر رمضان - ؟ فبناءّ على حجية استصحاب القهقرى يثبت أن هذا الاحتلام قد حدث قبل الفجر لأنه الآن جنب جزماً ويشك هل أن هذه الجنابة موجودة فيما سبق أو لا فيستصحب وجودها الى ما سبق ، أما إذا لم نقل بأنه حجّة فلا يوجد مثبت لكون هذا الاحتلام قد حصل قبل الفجر وبالتالي لا وجه للحكم ببطلان صومه إذ لا مثبت لكونه قد أصبح جنباً.
المثال الثالث:- ما لو فرض أن إنساناً حصل على ربحٍ ولا يدري أن هذا الربح هل حصل الآن - أي بعد نهاية سنته الخمسية - فيصير من أرباح هذه السنة الجديدة أو أنه حصل عليه قبل ذلك - أي قبل يوم مثلاً - فسوف يصير من أرباح السنة السابقة فيجب فيه الخمس ؟ وواضح أن هذا الكلام يأتي على غير رأي السيد الخوئي(قده) إذ على رايه يقول كل ربح لك الحق في أن تجعل له رأس سنة فإنه بناء على هذا لو افترضت أنك حصلت على الربح يوم أمس فسوف تبتدئ له سنة جديدة فعلى رأي السيد الخوئي لا تظهر ثمرة مهمة أما على راي غيره الذي يرى أنه للمجموع سنة واحدة فإنه بناءً على هذا تظهر الثمرة فإنه لو كان هذا الربح قد حصل أمس فيجب فيه الخمس لأنه يكون من أرباح السنة السابقة فهنا بناءً على حجية استصحاب القهقرى يثبت أن هذا الربح قد حصل بالأمس لأنه حاصل الآن جزماً ونشك في بداية حصوله فهل هو حاصلٌ الآن أو أنه قد حصل فيما سبق فباستصحاب القهقرى بثبت أنه قد حصل مما سبق ، أما بناءً على إنكار ذلك فلا يجب فيه الخمس إذ لا مثبت لكونه قد حصل مما سبق فيصير المورد من موارد الشك في أصل تعلّق الوجوب فنجري عن ذلك البراءة.
هذه بعض الأمثلة عن استصحاب القهقرى.
إذن هذا الاستصحاب له دوره الفعّال وله آثاره وبالتأمل يمكن أن نذكر أمثلة أخرى في هذا المجال.
[1]
وهذا من موارد زيادة الفرع على الأصل.