الموضوع:- الأقوال في المسألة ( هل يجري الاستصحاب في الشبهات الموضوعية والحكمية أو لا ؟ ) / الاستصحـاب / الأصول العملية.
استدراك:- ذكرنا فيما سبق أن السيد الخوئي(قده) ذكر أن الاستصحاب في باب الأحكام الكلية لا يجري للمعارضة بين استصحاب بقاء الحكم الفعلي واستصحاب عدم الجعل بالمقدار الزائد ، ونحن علقنا عليه بتعليقين التعليق:-
الأول:- إنه في صحيحة زرارة الأولى أجرى الإمام استصحاب الوضوء إلى فترة الشك والحال أنه يمكن أن يقال هو معارض باستصحاب عدم الجعل الزائد بالبيان المتقدم .
والثاني:- إن كلا الاستصحابين معاً ليسا صالحين للجريان حتى تتحقق المعارضة بل الصالح أحدهما فقط وهو استصحاب بقاء الحكم الفعلي والوجه في ذلك هو أن النجاسة مثلاً هي أمر آنيّ ليس لها حدوث وبقاء فكيف نستصحب بقاءها ؟! إنه لا بد وأن ننظر إليها بما هي صفة للأمر الخارجي وحينئذ يجري استصحاب بقائها وإذا لاحظناها بما هي وصفٌ للخارج ولها حدوث وبقاء فلا يمكن ملاحظتها بما هي أمر آنيّ فإنه يوجد تنافٍ بين الملاحظتين فلابد من تحكيم إحدى الملاحظتين وقلنا إن المناسب بمقتضى ارتكاز المتشرّعة هو أن النجاسة تُلحظ بما هي صفة للأمر الخارجي ولذا أنقول إن عباءتي كانت نجسة والآن أشك في بقائها على النجاسة أو أتيقن بقاءها على النجاسة . إذن الذي يجري هو استصحاب الحكم الفعلي دون استصحاب عدم الجعل . ثم ذكرنا بلسان إن قلت قلت ما حاصله:-
إن قلت:- إنه حينما تتحقق النجاسة بالفعل ويصير الماء متغيراً بالنجاسة بالفعل فسوف تحصل فعليّة بالمعنى الميرزائي فنستصحب هذه الفعليّة ، وفي نفس الوقت نشكّ أن الشارع هل جعل نجاسةً في فترة الشك - أي بعد زوال التغيّر من قبل نفسه - فيجري استصحاب عدم الجعل بالمقدار الزائد فتحصل المعارضة حينئذ بين استصحاب الفعليّة بالمعنى الميرزائي وبين استصحاب عدم الجعل بالمقدار الزائد.
ثم أجبنا وقلنا:- إن النجاسة حينما تصير فعليّة بالمعنى الميرزائي فهي ليس لها بقاء إلا بملاحظتها وصفاً للأمر الخارجي ومن دون ملاحظتها كذلك لا تعود قابلة للبقاء حتى يجري استصحاب بقائها ، وحينئذ إذا لوحظت بما هي وصف للخارج فكيف تلحظ بما هي جعلٌ وأمرٌ آنيّ ؟! إنه يلزم التنافي بين النظرتين !!
والآن نعلق على هذا ونقول:-
إن قلت:- إن الموضوع حينما يتحقق في الخارج ويصير الماء متغيّراً بالفعل في الخارج فسوف تحدث فعليّة في نظر الشيخ النائيني(قده) ولكن ما هي هذه الفعليّة ؟ إنها اعتبار عقلائي أو اعتبار شرعي أو غير ذلك فإنها بالتالي شيءٌ من الأشياء فيحدث شيءٌ وإن كنّا قد لا نعرف ذلك الذي حدث حقيقةً ولكن حدث شيء حتماً - على نظر الشيخ النائيني(قده) - وإذا حدث شيءٌ فنستصحب ذلك الشيء ولنصطلح عليه بـ( النجاسة الجزئية ) - إن صح التعبير - فهناك نجاسة جزئية خارجية حدثت ونشك في بقائها بعد زوال التغيّر من قبل نفسه فنستصحب بقاءها ، وحينئذ نقول إن هذا يعارَض باستصحاب عدم النجاسة الكليّة فهناك نجاسة كليّة حدثت من قبل الشرع ونشك هل جُعِلت تلك النجاسة الكليّة في فترة الشك - أي ما بعد زوال التغيّر - فنستصحب عدم النجاسة الكليّة - إن صح التعبير ، ولعل في بعض هذه التعبيرات مسامحة ولكن المقصود هو إيصال المطلب إلى الذهن - . إذن ما دمنا قد سلّمنا بالفعليّة الميرزائية وأنه يحدث شيءٌ وإن كنّا لا نعرف حقيقته عند فعليّة الموضوع في الخارج فتتحقق آنذاك المعارضة فإن استصحاب تلك النجاسة الجزئية التي تحققت في الخارج سوف يكون معارضاً باستصحاب عدم النجاسة الكليّة في فترة الشك فالمعارضة إذن صارت متحققة . وإذا سلمنا بالفعليّة الميرزائية وأنه يحدث شيءٌ عند تحقق الموضوع خارجاً فالمعارضة تكون تامّة.
قلت:- نحن نسلّم بالفعليّة الميرزائية وبالوجدان نشعر بوجود فرقٍ بين حالة ما قبل تحقق الموضوع خارجاً وما بعد تحققه فقبل تحققه - أي قبل صيرورة الماء متغيراً في الخارج - لا نقول إن هذا الماء نجس ولكن بعد أن تحققت فعليّة الموضوع خارجاً وصار متغيّراً بالفعل نقول إن هذا الماء هو الآن نجس إن هذه قضية وجدانية فنسلم أنه يحدث شيءٌ وإن كنّا نقول إن هذا الشيء هو مجرد اعتبار عقلائي وإلا لا يتحقق شيء حقيقة فإنه مجرد اعتبار لا أكثر ولكن الذي نقوله هو أن هذا الشيء الذي يحدث هو أيضاً أمرٌ آني كالنجاسة الكليّة فكما أن ذلك حكم آني كذلك هذا هو حكم آنيّ - يعني كما أن الجعل أمر آني وليس له بقاء في نظر العرف حتى يجري استصحابه كذلك المجعول أعني النجاسة الفعليّة هي اعتبار يحدث حين فعلية الموضوع خارجاً وليس له بقاء - فكلاهما إذن ليس له بقاء - أي من دون فرق بين النجاسة الكليّة وبين النجاسة الجزئية أو بتعبير آخر بلا فرق بين الجعل وبين المجعول - وبناءً على هذا لا يمكن أن يجري الاستصحاب فكما لا يجري في الجعل لا يمكن أن يجري في المجعول لأن الاثنين معاً ليس لهما بقاء فلابد وأن نلاحظ النجاسة بما هي وصفٌ للماء فكما نَصِفُ الماء بأنّه في الحوض كذلك نصفه بأنه نجس وحينئذ يكون له صفة البقاء ولكن في هذه الملاحظة لا يوجد جعل ولا مجعول بل يوجد فقط وفقط وصفٌ لأمرٍ خارجيٍّ - أي نصف الماء بأنه نجس - ولا يوجد جعل حتى نستصحبه فإنه أمرٌ آني كما لا يوجد مجعولٌ حتى نستصحبه فإنه آني أيضاً بل يوجد وصفٌ لأمر خارجيّ فيحدث لهذا الوصف بقاء فيستصحب ، وعليه فنحن إما أن لا نلحظ النجاسة وصف للأمر الخارجي فحينئذ يوجد إما جعلٌ أو يوجد مجعولٌ ولكن لا يجري فيه الاستصحاب أو نلحظها وصف للأمر الخارجي فيجري الاستصحاب آنذاك لهذا الوصف الخارجي ولكن لا يوجد جعلٌ ومجعولٌ فإن الجعل والمجعول كلاهما - كما قلنا - أمر آني .
والخلاصة:- إن النجاسة لا يمكن استصحابها إلا إذا لوحظت وصفاً للأمر الخارجي أما إذا لم تلحظ كذلك فحتى بناءً على المصطلحات النائينية الميرزائية لا يمكن جريان استصحاب المجعول فإن المجعول كالجعل هو أمر آني فلابد إذن من ملاحظتها وصفاً للأمر الخارجي وحينئذ يجري استصحابها ولكن في هذه الملاحظة لا يوجد جعلٌ ولا مجعولٌ حتى يمكن أن يكون معارضاً وإذا لم نلحظ كذلك يوجد جعل أو مجعول ولكن لا يمكن جريان استصحاب النجاسة . إذن كلتا النظرتين وكلا الاستصحابين لا يمكن أن يجريا لما أشرنا إليه .
ثم إنه بهذا البيان يتضح اندفاع إشكال آخر:- فنحن ذكرنا فيما سبق أن النجاسة لا يكون لها بقاء إلا إذا لوحظت وصفاً للأمر الخارجي وأما الجعل فهو أمر آنيّ لا يمكن استصحابه إنه هنا قد يشكل ويقال:- نحن لا نريد استصحاب الجعل حتى تقول هو أمرٌ آنيّ بل نريد استصحاب عدم الجعل وعدم الجعل ليس أمراً آنياً بل له استمراريّة فإن الجعل هو آني الحدوث أما عدم الجعل فهو استمراري وهذا من الأمور الواضحة ونحن نريد استصحاب عدم الجعل فحينئذ أي محذورٍ في أن نستصحب النجاسة الفعليّة وفي نفس الوقت يجري استصحاب عدم الجعل بالمقدار الزائد فإن عدم الجعل له بقاء أيضاً وتحصل بذلك المعارضة ؟
إن الجواب عن ذلك قد اتضح حيث نقول:- إن النجاسة إذا صارت فعليّة على المصطلح الميرزائي بأن صار الماء متغيّراً بالفعل ولكن نقول إن نجاسته الفعليّة هي آنيّة الحدوث أيضاً وليس لها استمرار فإنها اعتبار والاعتبار أمرٌ آنيٌّ فكما أن الجعل اعتبارٌ وأمرٌ آنيٌّ كذلك المجعول هو اعتبارٌ وهو أمرٌ آنيٌّ وإنما نستصحب النجاسة حيث نلحظها وصفاً للماء الخارجي وإذا لاحظناها كذلك فلا يوجد آنذاك جعلٌ ولا مجعولٌ بل يوجد وصفٌ لأمر خارجي ومادام لا نرى جعلاً ولا مجعولاً فلا معنى لاستصحاب عدم الجعل إذ المفروض أنا لا نرى جعلاً فكيف نستصحب عدمه ؟! إن استصحاب عدم الجعل فرع ملاحظة الجعل حتى يمكن استصحاب عدمه والمفروض أننا في هذه الملاحظة لا نرى جعلاً وحيث لا نرى جعلاً فلا معنى لاستصحاب عدم الجعل.
وإذا قلت:- إنه في سائر المورد كيف نستصحب الجعل أو نستصحب عدم الجعل فإنه توجد موارد يصحّ فيها ذلك كما إذا شككنا في النسخ وأنه هل نسخ الجعل أو لا فنستصحب بقاء الجعل ، أو شككنا في أنه حصل جعلٌ أو لم يحصل جعلٌ فنستصحب عدم تحقّق الجعل ، إنه في هذه الموارد كيف نستصحب ؟
أجبنا عن ذلك فيما سبق وقلنا:- إنه توجد حالتان ينبغي التفرقة بينهما فمرّة نعلم بالجعل ولكن نشك في سعة وضيق المجعول وهنا لو أردنا استصحاب المجعول يلزم أن نلاحظ النجاسة وصفاً للأمر الخارجي وإذا لاحظناها كذلك فلا نرى جعلاً ولا مجعولاً حتى يجري استصحاب عدم الجعل ، وهناك حالة ثانية وهي أن نفترض أن الشك في أصل الجعل ثبوتاً - يعني هل ثبت أو لم يثبت - أو زوالاً - يعني هل نسخ أو لم ينسخ - من دون أن نشك في سعة المجعول وهنا تمام النظر يكون إلى الجعل فحينئذ نستصحب ذلك العدم - أي عدم تحق الجعل - فإن تمام النظر متوجّه إلى الجعل وكان عدماً فيما سبق ونشك في استمرار العدم فنستصحب بلا وجود نظرة إلى الخارج حتى نقول إنه مع النظرة الخارجية لا يوجد جعلٌ ولا مجعولٌ فكيف نستصحب عدم الجعل ؟!.
هذا كل كلامنا مع السيد الخوئي(قده).