الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

34/07/23

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع:- الأقوال في المسألة ( هل يجري الاستصحاب في الشبهات الموضوعية والحكمية أو لا ؟ ) / الاستصحـاب / الأصول العملية.
 الإشكال الثالث:- قد يخطر إلى الذهن أن استصحاب الحكم الفعلي الذي يعبّر عنه باستصحاب المجعول هو غير جارٍ في حدِّ نفسه فكيف جعل السيد الخوئي(قده) معارضةً بينه وبين استصحاب عدم الجعل الزائد بعدما كان ليس جارياً في حدِّ نفسه ، والوجه في عدم جريانه في حدِّ نفسه هو إنه في مثل استصحاب وجوب صلاة الجمعة من زمن الحضور إلى زمن الغيبة نقول إن وجوب الجمعة كان ثابتاً سابقاً بنحو الوجوب الفعلي والآن في زمان الغيبة نشك فنستصحب والحال أن الوجوب الفعلي سابقاً قد ثبت لناس ذلك الزمان وأما نحن فلم يثبت لنا الوجوب الفعلي سابقاً حتى نستصحب فالموضوع قد تغيّر فالوجوب الفعلي ثبت لناس تلك الفترة وهم قد انعدموا وناس هذه الفترة اللذين هم محلّ الشك لم يكونوا سابقاً حتى يكون الوجوب الفعلي ثابتاً لهم حتى نستصحبه فهذا الاستصحاب لا يجري في حدِّ نفسه - يعني استصحاب الحكم الفعلي - وعلى هذا الأساس تكون المعارضة ليست تامة.
 نعم هذه المعارضة وإن لم تتم ويبقى استصحاب عدم الجعل وحده جارياً وهو ما ينتفع به السيد الخوئي - يعني لا يؤثر ذلك على النتيجة التي أرادها - ولكن هذه الطريقة من البيان ومن الاستدلال سوف تختلّ فكان من المناسب له أن يقتصر على استصحاب عدم الجعل بلا استصحاب عدم الحكم الفعلي.
 وفيه:- إنه قد يقال إن الموضوع هو كليّ المكلف والطبيعي وليس الأفراد والطبيعي قد ثبت له الوجوب الفعلي فنستصحب بقاء ذلك الوجوب الفعلي الثابت للطبيعي إلى الطبيعي في هذا الزمان وتغيُّر الأفراد لا يغيّر الموضوع مادام الموضوع هو الطبيعي كما قال الأصوليون نظير ذلك في استصحاب أحكام الشرائع السابقة - يعني إذا كان هناك حكم ثابت في الشريعة السابقة مثل ( إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ) فهذا نستفيد منه جملة من الأمور منها أنه واحدة منهن من دون تعيين - ولا تناقشني في المثال وتقول إن هذا إخبار فإنهم اتقفوا بعد ذلك على واحدة منهن وأن هذا تمهيد ولعله بعد ذلك اتفقوا على واحدة معينة وأجدروا الصيغة على الواحدة المعيّنة فعلى أي حال اقطع النظر عن هذا ، أو أن المهر يكون لشعيب ( على أن تأجرني ثمان حجج ) أي تعمل عندي ثمان سنين فالمهر له وليس إلى بنته وغير ذلك - فهنا يجري استصحاب حكم الشريعة السابقة والحال أنه يشكل هنا بأن الموضوع قد تغيّر لأن الذين ثبت لهم الحكم هم ناس تلك الفترة وأما ناس هذه الفترة يغايرونهم فصار تغيّرٌ في الموضوع . هذا الإشكال قد أجاب الأصوليون هناك وقالوا إن الموضوع هو الكليّ وليس الأفراد فإن الأحكام الشرعية دائماً تثبت على مستوى القضيّة الحقيقة وليس على مستوى القضيّة الخارجيّة ومادامت تثبت على نحو القضيّة الحقيقيّة فالموضوع هو الطبيعي فإذن لا إشكال . فإذا قبلنا هذا الجواب هناك فلنقبله هنا أيضاً.
 وإذا قيل:- إن هذا قياس مع الفارق فإنه هناك نستصحب أصل الجعل وعدم النسخ وأصل الجعل يمكن أن نقول هو ثابت للطبيعي ولكن المفروض في مقامنا أننا نريد أن نستصحب الحكم الفعلي والحكم الفعلي لا معنى لثبوته للطبيعي وإنما يكون ثابتاً للأفراد وما ذكر يتم لو أردنا أن نستصحب الجعل أو عدم الجعل ولكن المفروض أنّا نريد أن نستصحب الحكم الفعلي فهذا القياس مع الفارق .
 فإذا قيل هكذا ننتقل إلى الجواب الثاني فنقول:- إن لنا جواباً آخر وهو أن هذا الاشكال في الحقيقة هو إشكال في المثال - يعني في خصوص مثال وجوب صلاة الجمعة - وما كان على شاكلته وإلا ففي الأمثلة الأخرى فلا يأتي مثل المرأة التي انقطع دمها وتشك هل أنه يكفي ذلك لجواز الدخول في المسجد أو لا ؟ إن هذا شكٌ في بقاء الحكم الفعلي فيجري في حقها استصحاب الحكم الفعلي - أعني المنع الفعلي الذي كان ثابت سابقاً - من دون أن يكون هناك تغاير في الموضوع ، وهكذا لو فرض أن الماء المتغير زال تغّيره من قبل نفسه فنستصحب بقاء النجاسة الفعليّة التي كانت ثابتة سبقاً والموضوع هو لم يتغيّر في مثل هذه الحالة ، وهكذا في باب المعاطاة لو شككنا في لزومها فلو قال أحد الطرفين ( فسخت ) وشككنا في بقاء الملكيّة السابقة وعدمها فنستصحب بقاء الملكيّة ، إنه في هذه الأمثلة وما شاكلها - وهي الطابع العام - لا يكون هناك تغيّر في الموضوع فهذا إشكال بالنسبة إلى خصوص هذا المثال . إذن هذا الإشكال الثالث ليس مهماً.
 والخلاصة من كل هذا:- هو إن هذه الاشكالات الثلاثة مدفوعة.
 والمناسب في مقام الإشكال أن يقال:-
 أولاً:- النقض باستصحاب بقاء الوضوء فإن الإمام عليه السلام في صحيحة زرارة الأولى حينما فرض زرارة أنه حُرِّك إلى جنب الرجل المتوضئ شيءٌ وهو لم يلتفت والإمام عليه السلام أجرى له الاستصحاب وقال له:- ( لا ، حتى يأتي من ذلك أمر بين وإلا فإنه على يقين .. ) وهذا معناه أنه أجرى له الاستصحاب غايته في شبهةٍ موضوعيةٍ وليس في شبهةٍ حكميةٍ كليّة وإنما في هذا الوضوء الخاص فأنا وضوئي شككت هل أنه انتقض أو لم ينتقض ؟ وهذه شبهة موضوعيّة والإمام عليه السلام أجرى استصحاب بقاء الوضوء والحال أنه معارَض باستصحاب عدم الجعل فنقول هكذا:- إننا نشك هل جعل الشارع الوضوء سبباً للطهارة في حق المكلف الكليّ وليس في حق هذا المكلف بالخصوص حتى تقول إن الشبهات الموضوعية لعله ليس فيها جعل وإنما الجعل يختص بالموضوع الكليّ كلا إنه أنظر إلى المكلف الكليّ وأقول أنا أشك هل جعل الشارع الوضوء سبباً للطهارة في فترة الشك يعني الفترة التي يحرك إلى جنبه شيء فيها وهو لا يعلم - في حق المكلف الكليّ أو لم يجعله ؟ فالأصل عدم الجعل الزائد ويكون هذا معارضاً لاستصحاب بقاء الوضوء فلو فرض أن المعارضة كانت مانعةً من جريان الاستصحاب يلزم أن تكون مانعة هنا أيضاً - يعني في هذه الشبهة الموضوعية التي أشار إليها زرارة في الرواية - والحال أن الإمام عليه السلام أجرى استصحاب بقاء الوضوء - يعني بقاء المجعول والحكم الفعلي - من دون أن يعارضه بأصالة عدم الجعل الزائد فيظهر من خلال هذا أن هذه المعارضة مرفوضة ولا تكون مانعة من جريان استصحاب الحكم الفعلي.
 نعم قد تسأل وتقول:- لماذا لم يقبل الإمام هذه المعارضة ؟
 فأجيبك:- إن هذا ليس من وظيفتي وليس من وظيفتك فإن المهم هو أن الإمام عليه السلام قال إنه يجري استصحاب الحكم الفعلي ، فالمقصود هو أنه سواء عرفنا النكتة أم لم نعرفها فهذا ليس بمهمٍ وإنما المهم هو أن الإمام عليه السلام أجرى استصحاب الحكم الفعلي من دون إجراء المعارضة وهذا معناه أنه لا مانع من استصحاب بقاء الحكم الفعلي وأنّ المعارضة مرفوضة.
 إن قلت:- لعل السيد الخوئي(قده) حينما نطرح عليه هذا الكلام يقول إني اشترط في باب المعارضة التي صرت اليها وقبلتها وجعلتها مانعةً من جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة أن يكون كلا الاستصحابين من قبيلٍ واحد ونحوٍ واحدٍ يعني إما أن يكونا معاً كليين أو يكونا معاً جزئيين أما أن يكون أحدهما جزئياً والآخر كلياً فلعله لا يقبل به ويقول أنا لا أقبل بهذه المعارضة فإن هذا الكلام الذي ذكرناه لا يصلح رداً على السيد الخوئي(قده) وفي المقام المفروض أن المعارضة بين استصحابٍ جزئيٍّ من طرفٍ وكليٍّ من طرفٍ آخر فإن استصحاب بقاء الحكم الفعلي - الوضوء الفعلي - هو استصحاب جزئيّ لأن هذا المكلف يقول أنا سابقاً كنت على وضوءٍ وعلى طهارة فعليّة جزماً وأشك في بقائها فتلك الطهارة التي ثبتت لي قبل أن يحصل لي ما يولّد الشك في بقاء الوضوء كانت ثابتةً بنحو الفعليّة فاستصحب بقائها وهذا استصحاب جزئي ، بينما الآخر المقابل الذي أبرزناه هو استصحاب كليّ لأننا نقول إنا نشك هل جعل الشارع الوضوء سبباً للطهارة ومقصودنا من الوضوء هو الوضوء الكليّ لا وضوء هذا المكلف لأنا قلنا أنه لا توجد جعول في الشبهات الموضوعيّة ، وعلى هذا الأساس ننظر إلى الوضوء وأنه هل جعل الشارع الوضوء - أي أصل الوضوء الكليّ - سبباً للطهارة - أي أصل الطهارة الكليّة - ؟ وفي حق أي مكلف ؟ إنه المكلف الكليّ وليس هذا المكلف فنشك في ذلك فنستصحب عدم جعل الوضوء سبباً في حق عنوان المكلف لا في حق هذا المكلف بخصوصه فإنه قلنا إنا لا نجري استصحاب عدم الجعل بهذا الشكل لأنا قلنا إن الشبهة الموضوعيّة ليست فيها جعول جزئية . فإذن هنا في مقامنا يكون الاستصحاب من أحد الطرفين جزئيٌّ ومن الطرف الثاني كليٌّ ولعل السيد الخوئي(قده) يقول أنا لا أقبل بهكذا معارضة بل إن المعارضة التي أراها مانعة فقط هي المعارضة بين الاستصحابين الجزئيين أو بين الاستصحابين الكليّين.
 وفيه:- إننا نريد الحجّة بيننا وبين الله وليس بيننا وبين السيد الخوئي(قده) فسواء قبل السيد الخوئي أم لم يقبل فهذا ليس بمهم فإننا لا نريد أن نقنعه وإنما نريد أن نتوصل إلى الوظيفة الواقعيّة والموقف الواقعي بيننا وبين الله عز وجل فسواء قبل السيد الخوئي أم لم يقبل فهذا لا يؤثر شيئاً ، وحينئذ إذا كان الأمر كذلك فنقول إذا كانت المعارضة تمنع من جريان استصحاب الحكم الفعلي فينبغي عدم الفرق بين أن يكون الاستصحاب المقابل كليّاً أو جزئياً فإن المهم هو أن ذلك الاستصحاب - أي من ذلك الطرف الذي هو كليّ - مع الاستصحاب من هذا الطرف - يعني استصحاب الحكم الفعلي الذي هو جزئي - لا يمكن أن يصدقا معاً فإن أحدهما كاذبٌ جزماً ، وحينئذ نقول إن رواية الاستصحاب - التي هي ( لا تنقض اليقين بالشك ) - لا يمكن أن تشمل أحدهما دون الآخر لأنه بلا مرجّح فيتعيّن أن لا تشملهما معاً فلو كانت هذه الشبهة التي طرحها السيد الخوئي تامّة يلزم أن تتم هنا أيضاً - يعني حتى فيما إذا كان الاستصحاب من أحد الطرفين كلياً ومن أحد الطرفين جزئياً - فسواء قبل السيد الخوئي أم لم يقبل فإننا نريد الحجّة بيننا وبين الله عز وجل ولا نرى فرقاً من هذه الناحية فإذا إذا لم يقبل الإمام عليه السلام بهذه المعارضة وأجرى استصحاب بقاء الوضوء فيظهر أن استصحاب بقاء الحكم الفعلي لا مانع من جريانه والمعارض لا يمنع من جريانه ، وهذه طريقة قد تورث الاطمئنان للفقيه ويركن إليها لأنه بالتالي هو تمسكٌ بالرواية فالإمام عليه السلام أجرى استصحاب الحكم الفعلي من دون معارضةٍ فهذه طريقة علميّة اطمئنانية ، وعلى هذا الأساس يتضح أن هذه المعارضة ليست تامّة.
 نعم استدرك وأقول:- إن هذا نقوله في الصحيحة الأولى ولا نجريه في الصحيحة الثانية التي هي واردة في باب طهارة الثوب - يعني من شك في تنجس ثوبه وأنه تنجس فيما قبل الصلاة أو في الاثناء - فالإمام عليه السلام أجرى هناك استصحاب بقاء الطهارة ولم يعارضه بأصالة عدم الجعل الزائد - يعني للطهارة الكليّ في حق المكلف الكليّ - فهذا لا نقوله هنا فلا نتمسك بهذه الصحيحة وإنما نتمسك بالصحيحة الأولى فقط ، والوجه الفارق هو أنه في الصحيحة الثانية المورد مورد طهارة والطهارة يمكن أن يتم ما أفاده السيد الخوئي فيها - يعني أنها لا تحتاج إلى جعل - وإنما الذي يحتاج إلى جعل هو النجاسة فالإمام عليه السلام لم يقل بالعارضة ولم يجرِها لأجل أن المورد هو الطهارة فاستصحب الطهارة الفعليّة بلا معارضة بأصالة عدم الجعل الزائد في فترة الشك لأنه واقعاً نحتمل أن الطهارة لها خصوصيّة ، وهذا بخلافه في مورد الصحيحة الأولى فإنه لا نرى فارقاً بين أن يكون الاستصحاب المعارض استصحاباً كليّاً وبين أن يكون جزئيّاً.