الموضوع:- الدليل الثالث للاستصحاب ( التمسك بالأخبار ) / أدلة الاستصحاب / الاستصحـاب / الأصول العملية.
خلاصة ما تقدم:- ذكرنا فيما تقدم أربع روايات لإثبات حجيّة الاستصحاب
[1]
واتضح أن الروايتين الأخيرتين قابلتان للمناقشة فالمهم إذن صحيحة زرارة الأولى والثانية وهما كافيتان بل تكفي واحدة منهما لإثبات حجيّة الاستصحاب إذ ورد في أحداهما
( ولا ينبغي نقض اليقين بالشك ) وهو كافٍ لإثبات الاطلاق والقاعدة العامة . وبعد هذا ندخل في الأقوال في المسألة.
الأقوال في المسألة:-
نقل الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل أقوالاً متعددة مفصِّلة في حجيّة الاستصحاب ولعلها تزيد على عشرة وقد نقلها مع أدلتها والمناقشة فيها بيد أن المهم منها قولان نقتصر عليهما:-
القول الأول:- التفصيل بين الشبهات الحكمية فلا يجري فيها الاستصحاب وبين الشبهات الموضوعية فيجري فيها.
القول الثاني:- التفصيل بين الشك بين الشك في المقتضي فلا يجري فيه الاستصحاب وبين الشك في المانع فيجري فيه.
التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية:-
لعل أول من عرف بهذا التفصيل حسب ما جاء في الرسائل والكفاية هو الشيخ النراقي(قده) وذكر الشيخ الأعظم في الرسائل دليله مع المناقشة وهكذا صنع صاحب الكفاية ، وانقضت فترة على هذا التفصيل وهو مجرد تفصيل لبعض القدماء من دون تبنٍ له إلى أن وصلت النوبة إلى السيد الخوئي(قده) فولجته الحياة حيث تبناه مع تشييد أركانه ، والحق أن ما قام به السيد الخوئي(قده) عمل ليس بالقليل فإن تشييد الأركان شيء مهم بحيث تُدفع الاشكالات وتبيَّن أدلة مثبتة للتفصيل وهذه قضية مهمة.
وحاصل ما أفاده السيد الخوئي(قده)
[2]
:- هو إنه متى ما كانت الشبهة حكميّة كليّة - يعني أن الشك كان في الحكم الكلي - فالاستصحاب لا يجري ، كما لو فرض أنا شككنا في أنه هل تجب صلاة الجمعة في زمن الغيبة أو لا - إنه شكٌّ في الحكم الكليّ - ؟ وهنا لا يجري استصحاب بقاء وجوب الجمعة إلى زمان الغيبة لأنه معارَض بأصالة عدم الجعل الزائد - أي عدم التشريع الزائد - . إذن الوجه في عدم جريان الاستصحاب ليس هو القصور في المقتضي يعني أن روايات الاستصحاب - أي
( لا تنقض اليقين بالشك ) - لا يشمل بإطلاقه الشك في الحكم الكليّ كلا بل المقتضي تامٌّ غايته لا يجري الاستصحاب لمعارضته باستصحابٍ آخر يقف في مقابله دائماً يعني ما من شبهة حكميّة كليّة أردنا استصحاب بقاء الحكم فيها إلا ويقف إلى جانبه الاستصحاب المعارض - يعني استصحاب عدم الجعل الزائد - وحينئذ يقال إن
( لا تنقض اليقين بالشك ) لا يمكن أن يشملهما معاً للمعارضة ولا الأوّل - أي استصحاب الحكم - لأنه ترجيح بلا مرجّح ولذلك لا يجري استصحاب الحكم .
وللتوضيح أكثر نقول:- إنه في مثال صلاة الجمعة يوجد حكم فعليّ كان ثابتاً في زمان المعصوم عليه السلام وهو الوجوب الفعلي لصلاة الجمعة وذلك الوجوب الفعلي الثابت نشك في بقائه فنستصحب بقاءه فيثبت أن هذا الوجوب باقٍ إلى زماننا ، ولكن من جانب آخر يوجد معارِضٌ حيث يمكن أن يقال نحن وإن كنّا نجزم بأن الشارع قد شرَّع الوجوب لصلاة الجمعة ولكن القدر المتيقن من التشريع والإنشاء هو بلحاظ زمن الحضور أما تشريع الوجوب لما زاد على هذه الفترة فهو شيءٌ مشكوكٌ فنستصحب عدم التشريع للمقدار الزائد وحينئذ تحصل المعارضة إذ الاستصحاب الأوّل يقول إن الوجوب الفعلي باقٍ إلى زمن الغيبة بينما الثاني يقول إنه لم يشرّع الوجوب بلحاظ زمان الغيبة فتحصل المعارضة.
وبكلمة أخرى:- إنه في الشبهات الحكميّة يوجد دائماً يقينان وشكّان اليقين الأول هو اليقين بأن الحكم الفعلي بوجوب الجمعة كان ثابتاً في زمن الحضور وعندنا شك في بقائه إلى زمن الغيبة ، وعندنا يقين وشك آخران معاكسان فإنه يوجد عندنا يقين بأن وجوب صلاة الجمعة لم يُشرَّع بلحاظ زمن الغيبة إذ لمّا بُعِث النبي صلى الله عليه وآله لم يكن هناك تشريع للوجوب لا بمقدار فترة الحضور ولا بمقدار فترة الغبية فلم يكن هناك تشريع لصلاة الجمعة أصلاً ولكن بعد مرور فترة جزمنا بثبوت التشريع والإنشاء والجعل بمقدار زمان الحضور ولكن هل حصل تشريع وإنشاء بلحاظ المقدار الزائد - أي بلحاظ زمن الغيبة - أو لا ؟ إنه شيءٌ مشكوك ، فهناك يقينٌ سابقٌ بعدم التشريع من بداية البعثة إلى يومنا هذا بلحاظ زمن الغيبة ونشك هل حدث تشريعٌ بعد ذلك بمقدار هذه الفترة أو لا ؟ إنه يوجد يقين وشك ، ومادام يوجد يقينان وشكّان فلا معنى لتطبيق ( لا تنقض اليقين بالشك ) على اليقين والشك الأوّل - الذي نتيجته استصحاب الحكم الفعلي - من دون تطبيقه على اليقين والشك الثاني فإنه ترجيح بلا مرجّح وتطبيقه على كليهما غير ممكن فلذلك ذهب(قده) إلى أن الاستصحاب في الشبهات الحكميّة الكليّة لا يجري لأجل هذه المعارضة.
وأقول مضيفاً:- إنك لا تستطيع أن تأتي بشبهة حكميّة كليّة من دون هذا الاستصحاب المعارض فإنه مستحيل بل هو موجود دائماً .
وهذا مطلب قاله(قده) في بباب الأحكام التكليفية الكليّة وفي باب الأحكام الوضعية أيضاً فإنها أحكام شرعيّة أيضاً فيأتي فيها نفس الكلام ، فلو فرض أن جزئية السورة كنا نجزم بها - والتي هي حكمٌ وضعي - بلحاظ الفترة السابقة في زمن المعصوم عليه السلام ونشك الآن في جزئيتها في زماننا فالكلام هو الكلام فاستصحاب الجزئية بنحو الحكم الفعلي يكون معارَضاً باستصحاب عدم الجعل والتشريع الزائد للجزئية بلحاظ هذه الفترة المشكوكة.
ومن هذا القبيل استصحاب الملكية في باب المعاطاة إذا شككنا أنها لازمة أو جائزة فلو فرضنا أن المعاطاة تحققت بين المتبايعين وشككنا أن أحد الطرفين إذا تراجع هل تزول الملكية أو لا ؟ فقد يقال نستصحب بقاء الملكية إلى ما بعد الفسخ والتراجع فيثبت أن الملكية لازمة وأن المعاطاة معاملة لازمه ، إنه على رأيه(قده) معارّض حيث يقال إننا نجزم بأن الشارع قد جعل الملكيّة للمعاطاة جزماً ما قبل فترة الفسخ أما بعد فترة التراجع والفسخ فنشك هل جعلت الملكية أو لم تُجعّل ؟ الأصل عدم التشريع بالمقدار الزائد ، ونقصد من الأصل هنا الاستصحاب يعني استصحاب عدم التشريع بالمقدار الزائد فإن هذا التشريع لم يكن في الزمن السابق فنشك في حدوثه فنستصحب عدمه فتحصل حينئذ المعارضة.
ومن هذا القبيل أيضاً ما لو فرض أن الماء المتغيّر زال تغيره من قبل نفسه وشككنا هل تزول نجاسته أو لا - فإنها حكم وضعي - ؟ فاستصحاب بقاء النجاسة الفعليّة الثابتة حالة التغيّر معارض بأصالة عدم جعل النجاسة لفترة ما بعد زوال التغيّر.
ومثال آخر للحكم التكليفي وهو المرأة التي ينقطع دمها هل يجوز لها أن تدخل المسجد قبل أن تغتسل أو لا ؟ أو هل يجوز لزوجها أن يقاربها أو لا ؟ فالكلام هنا كذلك فإن استصحاب المنع الفعلي معارَض بأصالة عدم تشريع المنع بلحاظ الفترة الزائدة ..... وهكذا أمثلة أخرى .
هكذا ذكر(قده).
وبعد أن أوضح(قده) هذا المطلب بهذا الشكل
[3]
استثنى(قده) ثلاثة موارد وقال إن المعارضة لا تتم فيها وهي:-
المورد الأول:- الشبهات الموضوعية . حيث ذكر أن هذه المعارضة أنا أقول بها في الشبهات الحكميّة الكليّة وأما في الشبهات الموضوعيّة فلا ، كما لو فرض أن امرأة شكّت هل انقطع دمها أم لم ينقطع فالحكم الكليّ واضح عندها وهو أنه لو انقطع عنها الدم جاز لها الدخول في المسجد مثلاً وإنما الشك بنحو الشبهة الموضوعيّة في الحكم الجزئي وهو أنه الآن هل انقطع دمها أو لا ؟ فهل يمكن في مثل هذه الحالة إجراء استصحاب المنع من دون معارضة - الاستصحاب الحكمي - أو لا ؟ قال:- إن استصحاب الحرمة والمنع يجري بلا معارضة.
أو قل بشكلٍ فنّيٍّ ليس استصحاب المنع بل يوجد استصحاب ثانٍ غير استصحاب المنع وهو استصحاب سيلان الدم بَعدُ وهذا استصحاب موضوعيٌّ ومع وجوده لا تصل النوبة إلى الاستصحاب الحكمي فنجري استصحاب سيلان الدم وعدم انقطاعه فيثبت بذلك الموضوع والمنع حينئذ ولا يُعارَض بأصالة عدم الجعل والتشريع بالمقدار الزائد ، ولماذا ؟ لأجل أنه في الشبهات الموضوعيّة لا يوجد للشارع جعلٌ وإنما الجعل موجودٌ في الموارد الكليّة وبلحاظ الأحكام الكليّة فالشارع يقول ( كل امرأة يسيل منها الدم فلا يجوز لها أن تدخل المسجد ) أو غير ذلك فهو يرتّب الحكم الكليّ على الموضوع الكليّ وأما الموضوعات الجزئيّة - يعني هذه المرأة أو تلك المرأة يسيل دمها أو لا فالمنع باقٍ في حقها أو لا - فهذا لا ربط له بالشارع فهو ليس له جعول جزئية بلحاظ الموضوعات الجزئية وإنما له جعل كليّ واحد بلحاظ الموضوع الكليّ الواحد . إذن مادام لا جعل بلحاظ الموضوع الجزئي فأصالة عدم تشريع الحرمة الزائدة بلحاظ هذه الفترة المشكوكة لا يجري إذ نحن نقول إنّا نجزم بأنه لا جعل لكل فردٍ - والقضيّة عقلائية فالمجلس التشريعي يشرِّع أحكامه على الموضوعات الكليّة - . إذن لا يوجد جعلٌ بلحاظ هذا الموضوع الجزئي بلحاظ هذه الفترة المشكوكة جزماً فلا يوجد شك حتى يجري استصحاب عدم الجعل الزائد ويكون معارضاً لاستصحاب المنع أو لاستصحاب الجريان فيجري إذن ذلك الاستصحاب - يعني استصحاب الجريان أو استصحاب المنع - بلا معارض . إذن هو(قده) خصّص المعارض بالشبهات الحكميّة الكليّة دون الموضوعات الجزئيّة.
[1]
ومن المعلوم أنها أكثر من ذلك ولكن اقتصرنا على المهم وهي الأربع المذكورة.
[2]
مصباح الأصول، الخوئي، ج3، ص36.
[3]
ولعله(قده) عندما بيّن هذا المطلب قدّم مقدمات وأنا حذفتها وبينت المطلب رأساً.